الكلْية وما أدراك ما الكلْية!!!
ذلك المخلوقُ الصغير المتَقوْقِع على نفسِه, المُنزوي في أحدِ أركان الجِسم, المشغول عن غيرهِ بما أُوكِل إليه مِن مهام..... لايتعرّض لأحدٍ بقولٍ أو فِعل ولا يعارض الآخرين في توجهاتهم إلاّ ما كانَ ضِد السُلُوك الفِطْري, فليس بينهُ وبين البنكرياس أي خلافات فكريّة أو منهجيّة مِن أي نوع, وليس بينه وبين الطُحال أي مُناظراتٍ عَقَدِيّة أو آيديولوجيّة, كما يرى حفِظَهُ الله أن العلاقة بينهُ وبين الرِئَة هيَ عِلاقة تكامُل, فلا تجِد بينهُ وبينها أي جدال بيزنطي عمّن أتى قبلاً البيضة أم الدجاجة, لا يتهجمُ على أحد, فلا يتهجم عليه أحد.
يستقبل يوميّاً كميّات لا بأس بِها مِن الدم المُمتلئ بالشوائب التي يترتب عليه تنقيتها في صمت, فيُبقي لنا ما ننْتفِعُ بِه وما عدا ذلك فإنّه يتخلص منه, كُل هذا وقد التحف أرتال الشحُوم مُتخذاً شكل الجنين في رَحِم أُمّه, فهو في ظُلُماتٍ بعضُها فوق بعض, ظُلمة الشحوم وظُلمة الأحشاء.
مع صِغَرِ حجمه وقِلّة وزنه الذي لا يتعدى المائة وخمسون جراماً فإن هذا المخلوق العجيب يحوي أكثر من مليون ومائتي ألف وحدة تصفيّة, ومجموع أطوال القنوات الشِعرية فيه تُقدّر بعشرة آلآف كيلومتر.
فسبحان الخالق العظيم.
إننا لانتذكر الكلية إلا عندما نراها في أحشاء مُفطّحٍ كان ضَحيّة مُناسبة مِن المناسبات التي أكثرها للإستملاح عن بُعد, فبعد افتراس ذلك المُفطّح الذي كان قُبيل ساعة مُجندلاً بِتمامِ لحمهِ وشحمه على واحة من الأرز مُكللاً بباقاتٍ مُقطعة من الطماطم انتشرتْ على ضِفافِ التبسي وقد نُثِرت عليه بعض الجواهر مِن الصنوبر والزبيب, وتَحُفُّهُ شُمُوسٌ مقلوبة مِن شرائح البيض المسلوقِ سلْقاً مُبْرِحاً مِن جميع الجوانِب, مُتّكئاً على خُيوط مِن نسيج المكرونة, و بعدأن يصبح ذلكَ المُنبطِح رُزّاً مُجرّداً من كل مظاهر التفطُّح الحضاري...تنكشفُ سَوْءة ذلك العضو الصغير المسكين الذي لاحول لهُ ولاقوّة, فتتبادره الأيدي الغاشِمَة التي لم ترحَم الأعضاء الكبيرة قبله كالكَبِد والطُحال والقلبُ الواله فكيف به هو, تتبادره بالإختطاف لتُلقيه بين فكّين شَرِسيَن لأحد فُرسان الوغى من مُجاهدي الضرب بالأخماس, والذي لا تكادُ ساحة من ساحات الاحتفالات تخلو له من طعنة بسكينٍ حادة في ظهر أحدالأعداء من الخرفان, أو مسكةٍ مِخْلبيّةٍ تُهشِّم رأس العدو, أو سوبلكس خلفي فيجعل عالي الضحيّة سافلها.
ذلك هومَبِلغ تذكرنا للكلية.
قبل فترَةٍ مِن الزمان؛ وعلى غير المُتعارَف عليه في الوسَط الجسدي الخاص بي قررت كليتي العزيزة تذكيري بها, ولكن بصورة فظّة لم أتعود عليها بل لم أعرفها منذُ خُلِقت...
لقد قَرّرَت ودون سابق إنذار أن تُعلن تمرُدها وثورانها ضِد أعرافِ جسمي البائس وتقاليده, ضاربةً بعرضِ المعدة كل اجراءاتي اليومية الإحتياطية لتجنُّب مثل هذه الإنقلابات....وفعلاً حصل لها ما أرادت....وجعلتني أغُطُّ في صِراعاتٍ رَهيبة مِن الألم الذي لا أستطيع وصفه والحمدلله على كُل حال.
كُنتُ مِن شِدّة الألم أضْرِبُ بنفسي ذا الجدار وذا الجدارا.....على قولة صاحبنا مجنون ليلى...
لم أكُن أعلمُ مالذي يحْصُل لي وقتها....فليسَ لي سابِقُ عهدٍ بآلآمِ الكلى.
فِي نفْس ذلكَ اليوم الكئيب أُخِذتُ غِيلةً إلى أحدِ مجازِرِنا الوطنيَّة المُسمّاة زورًا وبهتاناً مُستشفيات....وأُدخلتُ الى قسم الطوارق....حيثُ يُطرق المريض طرقاً لا يعلمُ أمِن السماءِ يُطرَق أم مِن الأرض...وهناك و بُعيد البوابة بقليل استقبلني جزَّارعام وهو يقول (بسيطه ياعم الحاج بسيطه...بسيطه...يا رضوان حُئنة فولتارين بسرعة...بسرعه يابني)...
أصابوني وأي فتىً أصابوا!!! أصابوني بقذيفةِ الفولتارين التي لطالَما هربتُ مِنها....وأين؟ إنّا للهِ وإنّا إليهِ راجعون...قذفوني بها وأنا ذاهِلٌ عن نفسي جرَّاءَ الألم الذي أُعانيه, وإلا هيهات هيهات أن يُنتَهكَ عِرضُ مِثلي بأمثالها...
بعد أنّ أخذتُ قذيفة الفولتارين تِلك قال لي جزّاري الحبيب (كُلّها نُص ساعه وياخد الدوا مفعولُه..صبرك بالله..صبرك بالله.. الظاهر و حسب الأعراض اللي بتشتكي منها إنّك محتاق لاستئصال المرارة...شويه حيقيلك أخصائي الباطنه هوَّه اللي حيقَرّر).
ماذا؟؟؟!!!!
المرارة؟ المرارة حِتّة واحدة يامُفتري؟!!...المرارة؟!!!... فقع الله مرارتك ومرارة مَن استقدمَك لنا على أنّكَ طبيب...لاحول ولا قوةإلا بالله...أيُّ تشخيصٍ هذا؟
تشخيصٌ سريع بسرعة الضوء مِن أحد جزارينا المُعتبرين....
يبدو أنَّ القوم لديهِم شُحٌ عظيم في ما يختصُ بقِطَع الغيار البشريّة, لذلك تجِدهُم في أغلَبِ الأحيان وقَد تجردوا مِن إنسانيتهِم....فيقومون بإيهام المرضى بأنَّ هُناك قِطَعاً في أجسادهم المُتهالِكة كجسمي هي سببُ بلاءهم في الدُنيا.... لن يقولوا للمريض (ما رأيُك في أن نعمل كَذا وكَذا)...حاشا وكلاّ...بل يُعلِمونهُ إعْلاماً بأنّهم في طريقهم لاستئصالِ ذلك الجزء الغير مُعترَف بهِ دوليّاً وإلا فإن بقائهِ سوفَ يكونُ من نوائبِ الدهرِ عليه....
مِمّا أثار استغرابي أنَّ جزاري الأحْمَق لم يخْتَر عُضواً ذا شأنٍ عظيم كالكَبِد أو جُزء مِن الرئة أو إحدى العينين....بل اختارَ عضوٌ لا يُمْكِن الإستفادة مِنه لا بِزِراعَةٍ ولا ببيع....صدَقَ جَدِّي رحِمَهُ الله حينما قال (ثوارةُ قومٍ عِنْدَ قومٍ فوائِدُ) فالحمدُ لله على ثوارته...لو عَلِمَ بهِ ابن الجوزيَّة لأفرَدَ لهُ باباً كامِلاً في كتابِهِ(أخبار الحمْقى والمُغفّلين).
بعد أن سيطرَت قوَّات الجَيش- لواءُ الفولتارين على الكلْية الثائرة تقدّمَ منّي جزَّارٌ آخرَ بِمَرتبةِ جزَّار رُكْن باطنة وقال لي وهوَ مُكفهِرّ الوجه وكأنَّ وجههُ قُدَّ مِن العُبوس (عاوزينك تقيب عيّنة يورين حالاً..وتَدّيها للمُمرضة توديها المختبر وانته ترقع على سريرك عِدِل).....
قُلتُ لنفسي ما هذا!!! أهذهِ أخلاقُ ملائكةِ الرحمة؟!! لا واللهِ بل أخلاقُ شياطين جهنَّمَ والعياذُ بالله...أهكذا يُخاطِبون مرضاهم؟!!!... يُكلّمُني الأفندي وكأنني جُندي قد نُتفَت شاراته في الجبهة ويتلقى أوامرهُ العسكريَّة مِن أحدِ كِبار الضُباط!!
هكذا يتعامل معنا جزارينا المُستقدمين..بكل كِبرياء وتعالٍ علينا, وكأننا أتيناهم نستجْدِ منهم رغيف خُبز أو حُجرة تأوينا وكأننا من المُشردين في الأرض..
آه يابلد....
ندفع ُالكثير فنخرُج بخُفّيّ حنين...لا...لا...بل نخرج بِلا شيء...
المُهم...وبعدَ أن رأيتُ العجَبَ العُجاب في تِلكَ المَجْزرَة, خرجَت نتيجة التحليل...فأرسلها لي اللواء جزّار رُكْن مع مُمَرِّضة غيداء في العِقْدِ التاسِع مِن عُمرها!!! بأنّ المُشكلة هي مُجرّد أملاح في الكلى والعلاج يكمُن في كثرة شُرب الماء.
البارحه يوم الخلايق نياما.. لم أضطر لأخذ المُسكنات كالعادة...فأنا لي أُسبوع أكرعُ كِمّيّات هائلة من منقوع الشعير آنيِّ التحضير, طبعاً هذا النقيع لهُ تأثير عجيب في طرد الأملاح من الكلى فالحمد لله أولاً وأخيراً.
أخذتُ فُرصة السكون الكلوي للتفكُّر في هذا المخلوق الصغير..العجيب التكوين الذي ثارت ثائرته...
هل ثار ليُذكِرُني بقول الله تعالى(وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ)؟
أم ثارَ ليُذكرني بحمد الله على عطاياه التي لا تُعدُّ ولاتُحصى والتي هوَ مِن بينها؟
أو ثارَ لأني قصّرتُ في تسبيح من خلقني وإيّاه؟
لا إله إلا هوَ سبحانه إنّي كُنتُ من الظالمين.
رُبَّ ضارّةٍ نافعة.
---------