الموضوع: صور من الوفاء
عرض مشاركة واحدة
  #1  
قديم 16-04-2011, 10:26 PM
الصورة الرمزية يحيى اللساب1
يحيى اللساب1 يحيى اللساب1 غير متواجد حالياً
 






يحيى اللساب1 is on a distinguished road
افتراضي صور من الوفاء

صور من الوفاء

ذات صباح كان الطبيب قد بدأ عمله بالمستشفى، وإذا بشيخ كبير – في الثمانين من عمره يدخل عليه بعد أن جاء دوره، ويطلب منه إزالة بعض الغرز من جرح قد أصابه وتمت خياطته سلفاً.
اهتم الطبيب بهذا الشيخ الكبير، وقدّره ووقّره، وتبسّم في وجهه، وأجلسه على كرسي، ثم بدأ في إزالة الغرز، وهو يتحدث معه، ويسرّي عنه.

سأل الطبيب الشيخ الكبير: أراك على عجلة من أمرك؛ فهل تأخرت عن العمل أو قضاء مصلحة؟
فأجاب الرجل: لا يا بني، ولكني متعجل كي أتناول الإفطار مع زوجتي.
فسأله الطبيب: وهل ستقلق زوجتك إذا تأخرّت عن موعدك معها قليلاً؟
فأجاب الشيخ الكبير: إنها لم تعد تعرف من أنا؟ إنها لم تستطع التعرف عليّ منذ خمس سنوات!! بسبب مرض "الزهايمر" الذي أصابها!!
قال الطبيب: ومازلت تحرص على أن تشاركها الطعام برغم أنها لا تعرف من أنت؟!!

تبسم الرجل وهو يضغط برفق على يد الطبيب ويقول، هي لا تعرف من أنا، ولكني أعرف من هي!!

يقول الطبيب: حاولت جاهداً أن أخفي دموعي إلى أن يغادر الشيخ غرفتي، وقلت في نفسي: الحمد لله الذي لم يتوفني حتى أرى هؤلاء الأوفياء على هذا المستوى من الوفاء.
تلك لوحة رائعة من الوفاء للزوجة، فهل تعلّم الأزواج فقه الوفاء لزوجاتهم؟!

هناك من الرجال من أنعم الله عليهم بزوجات كالدرر واللآلئ، تقوم الزوجة على خدمة زوجها، وتسهر على راحته، وتربي أولاده، وتدبر شؤون بيته، وتمرضه إذا مرض، وتواسيه إذا أصابته شدة، وتفرج عنه إذا ألّمت به كربة، وتمدّه بمالها إذا مرّ بضائقة مالية، وتطهو طعامه، وتحرص على راحته وإسعاده، وتحسن استقباله، وتحاول إرضاءه، وتتجنب إغضابه، وتحذر تكديره، وتحرص على أن يرى منها كل جميل، ويشم منها أطيب ريح، فتتزين له وتتجمل وتتعطر، ثم يكسر بخاطرها، ويجحد صنيعها، فلا تجد منه جزاءَ ولا شكوراً، بل يقابل إحسانها بسوء، وعطاءها بقلة جود!!

- الوفاء بالدين: يشكو الناس من سوء المعاملات المالية من بني البشر.. أعرف صديقاً، بذل الغالي والثمين من أجل أن يربي أخوته، وحرص على أن يزوجهم جميعاً قبله، برغم أنه أكبرهم، إذ مات والده وأوصاه بهم، وكان الوالد شيخاً كبيراً عندما مات، فعمل الرجل بوصية والده، وكان وفياً غاية الوفاء، ولم يترك لهم والدهم تركة أو ميراثاً، أو شركة تدرّ عليهم دخلاً أو ربحاً، بل ظل الشاب يكافح ويعمل، حتى زوّج أخويه وأخته، وبقي أخ ثالث، جلب عليه الشقاء والبؤس، إذ كان هذا الأخ الثالث الصغير مغامراً لا يحسب عاقبة الأمور، فصاحب أهل السوء، فورطوه في ديون وحررت عليه "شيكات"، وأخذت ضده أحكام بالحبس، وكانت أمه على قيد الحياة آنذاك، فلجأت إلى الأخ الأكبر، فدفع له الأخ الأكبر عشرات الآلاف من الدنانير، وجاهد حتى رفعت عن أخيه الأحكام، وعقب ذلك توفيت الأم، وأوصت ابنها الأكبر المكافح الوفيّ بأن يزوج أخاه الأصغر، فزوّجه.

وكان هذا الأخ الأكبر كلّما فرج عن إخوته كربة فرّج الله عنه كرباً، وفتح له أبواب رزقه الكثيرة الواسعة، والسؤال الآن: ما رد فعل الأخ الأصغر تجاه أخيه الذي ضحى من أجله؟ إنه يشهّر به، ويتّهمه بأنه ظلمه، ويشكوه لكل من يعرفه، يقصد بذلك أن يشوِّه صورة هذا الأخ الأكبر، التي تبدو لدى أصحابه وكل من يعرفه صورة مشرقة مضيئة متلألئة، تشع كرماً ووفاءً!!

كان الأولى بهذا الأخر أن يدرك أنه ليس ابناً لأخيه الأكبر، ومن ثم فليس واجباً على أخيه الأكبر أن ينفق عليه، أما وقد سدد عنه دينه، ورفع عنه الأحكام الكثيرة بالحبس، وزوّجه.. وكان الأولى بالأصغر أن يسعى إلى سداد هذا الدين، فإن لم يستطع استسمح أخاه الأكبر في أن يؤجل التسديد إلى حين ميسرة، ولا يغفل دوماً عن أن يقدم لأخيه الأكبر الشكر والثناء في تقدير وتوقير، وأن يدعو له بسعة الرزق.

بيد أن الأمر كان غير ذلك تماماً، فقد باع الأخ الأصغر قطعة أرض إلى أخيه الأكبر، وبعد أن باعها بعام وانتفع بثمنها، ادعى أنه لم يبعها، وأبلغ أخاه أن هناك مشترياً لقطعة الأرض هذه، وإن لم يسارع بدفع ثمنها في أقل من ثمان وأربعين ساعة فسوف يبيعها لهذا المشتري الذي أحضره لشرائها، وقد اكتظت رسالة الأخ الأصغر إلى أخيه الأكبر بالشتائم والإساءات والجحود.
ما أحوج الإنسان في زمن قلّ فيه الوفاء وندر، وشاع الجحود وكثر – إلى أن يجدد العهد مع الله عز وجل، ويدرك أن الوفاء من سمات الأنبياء، فقد أثنى ربنا عز وجل على نبيه إبراهيم لاتصافه بالوفاء، فقال سبحانه: (وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى) (النجم/ 37).

وروى الإمام البخاري في صحيحه عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه ذكر رجلاً من بني إسرائيل سأل بعض بني إسرائيل أن يسلفه ألف دينار، فقال: ائتني بالشهداء أشهدهم. فقال: كفى بالله شهيداً، قال: فائتني بالكفيل. فقال: كفى بالله كفيلاً، قال: صدقت. فدفعها إليه إلى أجل مسمى، فخرج في البحر، فقضى حاجته، ثم التمس مركباً يركبها، يقدم عليه للأجل الذي أجله فلم يجد مركباً، فأخذ خشبة فنقرها، فأدخل فيها ألف دينار، وصحيفة منه إلى صاحبه، ثم زجج موضعها ثم أتى بها إلى البحر، فقال: اللهم إنك تعلم أني كنت تسلفت فلاناً ألف دينار، فسألني كفيلاً، فقلت: كفى بالله كفيلاً، فرضي بك، وسألني شهيداً، فرضي بك، وأني جهدت أن أجد مركباً أبعث إليه الذي له فلم أقدر، وإني أستودعكها.

فرمى بها في البحر حتى ولجت فيه، ثم انصرف، وهو في ذلك يلتمس مركباً يخرج إلى بلده، فخرج الرجل الذي كان أسلفه ينظر لعل مركباً قد جاء بماله، فإذا بالخشبة التي فيها المال، فأخذها لأهله حطباً، فلما نشرها وجد المال والصحيفة، ثم قدم الذي كان أسلفه، فأتي بالألف دينار، فقال: والله مازلت جاهداً في طلب مركب لآتيك بمالك فما وجدت مركباً قبل الذي أتيت فيه، قال: هل كنت بعثت إليّ بشيء قال: أخبرك أني لم أجد مركباً قبل الذي جئت فيه، قال: فإن الله قد أدى عنك الذي بعثت في الخشبة، فانصرف بالألف دينار راشداً" (رواه البخاري).

هذه قصة رجلين صالحين من بني إسرائيل، كانا يسكنان بلداً واحداً على ساحل البحر، فاحتاج أحدهما ألف دينار ليسافر إلى تجارته، فسأل صاحبه أن يقرضه هذا المبلغ وحدّد له موعداً لرد الألف دينار فطلب صاحب المال من الراغب في القرض أن يحضر شهوداً ليشهدوا على هذا الدين، فقال المقترض: كفى بالله شهيداً، فرضي الدائن بشهادة الله تعالى، ثم طلب الدائن منه إحضار كفيل يضمن له ماله إذا عجز المقترض عن تسديده، فقال المقترض: كفى بالله كفيلاً، فرضي الدائن بكفالة الله عز وجل، وهذا يؤكد ثقة الدائن بالله تعالى.

ثم سافر المدين لتجارته وحاجته، ولما اقترب موعد السداد أراد أن يرجع إلى بلده ليسدد الدين في موعده المحدد، ولكنه لم يجد سفينة تحمله على بلده، فما كان منه إلا أن أخذ خشبة، ثم حفرها ووضع فيها الألف دينار، وأرفق معها رسالة يوضح فيها ما حدث له، ثم سوّى موضع الحفرة، وأحكم إغلاقها، ورمى بها في البحر، وهو واثق بأنه استودعها الله الذي لا تضيع عنده الودائع، فكان حريصاً أن يكون وفياً مع الله عز وجل الذي طلبه وكيلاً وكفيلاً، ثم يكون وفياً مع صاحب الدين.

أما الدائن فقد خرج إلى شاطئ البحرفي الموعد المتفق عليه سلفاً، يلتمس السفينة التي ستأتيه بماله، ولكنه لم يجدها، ووجد خشبة قذفت بها الأمواج إلى الشاطئ، فأخذها لينتفع بها أهله حطباً، ولما قطعها بالمنشار وجد المال والرسالة من صاحبه.

ومرت الأيام، ثم عاد المدين إلى بلده، فبادر بزيارة الدائن، ومعه ألف دينار أخرى – خشيته ألا تكون الألف دينار الأولى قد وصلت، فاعتذر لصاحبه، ووضح له أسباب تأخره عن الموعد، فأخبره الدائن بأن الله سبحانه وتعالى – وهو شاهده وكفيله – قد أدى عنه دينه في موعده المحدد!!

فهل تعلّم الناس الوفاءَ بالدين والوعد والعهد من هذه القصة العظيمة المؤثرة؟!

أعرف أحد الأصدقاء ترك مع رجل مبلغاً من المال، ليعطي طالب علم منه راتباً شهرياً يعينه على استكمال دراسته، كما أعطاه مبلغاً آخر لطفل معوق مريض لصرف الدواء كل شهر، فلما عاد وجد الرجل قد أنفق المال على نفسه، وحَرَم الطالب والطفل المريض ولم يعطهما شيئاً!!

فلما راجع فاعل الخير ذلك الرجل الذي استأمنه على تلك الأمانة وذكّره بالوفاء سخر منه، واستهزأ به، فلما أكّد التذكرة قائلاً: الله شهيد علينا، رد عليه قائلاً: ارفع عليّ دعوى قضائية، وائت بالشاهد!!

- الوفاء بالوعد:
عن أبي الحسماء قال: بايعت النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يبعث، وبقيت له بقية، فوعدته أن آتيه بها في مكان، فنسيت، ثم ذكرت بعد ثلاث ليال، فجئت فإذا هو في مكانه لم يفارقه فقال: "يا فتى، لقد شققت عليّ، أنا هنا منذ ثلاثة أنتظرك".

وقد حذّر الرسول صلى الله عليه وسلم من إخلاف الوعد الذي هو نقيض الوفاء، وجعله من صفات المنافقين، فقال: "آية المنافق ثلاثة، إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان".

وقد أمر الله عز وجل عباده بالوفاء بالعقود، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) (المائدة/ 1).

وكلمة العقود هنا تشمل كل قولٍ أو فعلٍ يعده الناس عقداً، ما لم يتضمن تحريماً لحلال أو تحليلاً لحرام.. فهل راجع الناس تصرفاتهم، وقوموا نقضهم للوعود والعقود؟!!

إن الوفاء صفة جميلة، فهي من صفات الله التي أثبتها لنفسه في محكم التنزيل. قال سبحانه: (...وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (التوبة/ 111).

فليتنا راجعنا أنفسنا، وسائر أقوالنا وأعمالنا، لنعيد حساباتنا، ونرتب أوراقنا، ونكون أوفياء مع ربنا، ومع من حولنا، قبل أن نوضع في القبور، وقبل أن تنشر أوراقنا يوم النشور.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
التوقيع
اللهم إني اسألك ياحي ياقيوم العفو والعافيه وحسن الخاتمه وأرحم والدي ووالدتي وأسكنهم فسيح جناتك
أخر مواضيعي
رد مع اقتباس