عرض مشاركة واحدة
قديم 02-12-2009, 08:49 PM   #3
صـدى زهـران
 







 
صـدى زهـران is on a distinguished road
افتراضي رد: حق الاختلاف في وجهات النظر،،،طلب مساعده!!

سوف يتم إضافة المزيد
عن هذا الموضوع بإذن الله
وهذا البعض منه



حقيقة الاختلاف من وجهة النظر الإسلامية
د. عفت محمد الشرقاوي

.1 الخلاف وصورة المسلمين في العالم

قد يخطر ببال الباحث ابتداء عند النظر في موضوع الخلاف أن يتساءل في مثل هذا المقام، عن حقيقة الصورة الواقعية التي يقدمها المسلمون عن أنفسهم أمام العالم اليوم في ظل هذه الخلافات المريرة بينهم. وتلك مسألة هامة لا مناص لنا من مواجهتها مواجهة صادقة أمينة، فهل أصبحت هذه الخلافات ظاهرة عالمية حقاً تكاد تخص المسلمين وحدهم، دون شعوب العالم؟ وإذا كان كذلك فما أسبابه؟ وكيف السبيل إلى الخلاص منه؟.

ولايحتاج المرء إلى طويل تأمل، لكي يتبين له على الفور أن العالم الإسلامي يجتاز في هذا العصر مرحلة من أشق مراحل تاريخه، فيما يتعلق بهذه القضية. فعلى المستوى العالمي، ودون شعوب العالم أجمع، تعاني الأمة الإسلامية على الخصوص قدراً هائلا ًًًمن المتناقضات، والمنازعات الداخلية التي تؤثر أعظم التأثير في سياستها الخارجية وعلاقتها بشعوب العالم، وتحدد صورة الإسلام والمسلمين على وجه غير مقبول في كثير من الأحيان، أمام الرأي العام العالمي.

صحيح أن العنف السياسي هو في صورة من صوره ظاهرة عالمية، وهذا مايقول به كثيرمن المسؤولين في العالم الإسلامي في تحليل هذه الظاهرة، ولكننا هنا أمام ضرب من العنف يُدََّعى له أنه يتم باسم الإسلام، مع أن الإسلام في الحقيقة دين السلام والتعاطف بين المسلمين الذين تجمع بينهم أخوة خاصة هي أخوة العقيدة التي ترتفع فوق كل روابط الدم والولاء الاجتماعي.

لقد دعا الإسلام إلى نبذ الخلاف بين الناس والتواصي بالحق والخير فيهم دفعاً للخلاف وتأليفاً للقلوب، لذلك أثنى اللَّه على نبيه الكريم، ووصفه باللين في خطاب قومه، فقال تعالى: {فبما رحمة من اللَّه لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك }. (سورة آل عمران، من الآية: 159). وذلك نصٌّ بيّنًٌ على حسن خلقه في دعوته للإسلام، بل إننا نجد أنه، عليه الصلاة والسلام، مأمور بذلك أمراً صريحاً في مثل قوله تعالى: {خذ العفو وأمر بالعُرْف وأعرض عن الجاهلين} (سورة الأعراف، الآية: 199).ومثل هذا المعنى كثير ، يتكرر في آيات أخرى عديدة، ولذلك يقول الرسول عليه الصلاة والسلام ، > لاحلم أحب إلى اللَّه تعالى من حلم إمام ورفقه، ولاجهل أبغض إلى اللَّه تعالى من جهل إمام وخرقه<.

والرسول، عليه الصلاة والسلام، إمام العالمين، ولذلك كان أكثرهم حلماً، وأحسنهم خلقاً، وعلى الدعاة أن يهتدوا بهذا الهدي السماوي العظيم والنبإ الرباني الحكيم، وأن يكون رائدهم في الدعوة إلى الإسلام هو التواصي بالحق والصبر دائماً.

ذلك أن التواصي بالحق والصبر هو الأصل الأصيل في منهج الدعوة الإسلامية إلى نبذ الخلاف، كما قال تعالى في وصف الناجين من الخسران: {وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر}.(سورة العصر، الآية: 3) فصيغة التواصي هنا دالة على تبادل الحوار بين الداعية والمدعوين، وذلك بأن يوصي كل من الشخصين صاحبه بتحري الحق فيما يعتقد، بأن ينبهه إلى الحرص على البحث في الأدلة، والتلطف في النظر الموقوف على الحق الذي هو في الواقع لا يُختلف فيه، بعد معرفة وجهه" فإذا رأى منه ضلة هداه، بإقامة الدليل على ما هو الهدى، وإذا رأى منه تقصيراً في النظر نهض به إليه، وإذا وجد منه رعونة في الأخذ بظواهر الأمور دون النفوذ إلى بواطنها، نصح له باستعمال الروية وإمعان الفكر".

وهكذا يقتضي أدب الاختلاف عند التواصي أن يعمل كل مع صاحبه، مثل ما يجب عليه أن يعمل معه من هذا التوجيه المنهجي الكريم في البحث عن الحقيقة. والمشكلة في مثل هذه الحالة أن بعض الناس قد يخطىء في معرفة الحق بحمل معناه على جزئياته. وهذه حقيقة منهجية هامة في أدب الاختلاف بصفة عامة، فيأتي الواحد منهم إلى أشد الباطل بطلاناً ويدعي أنه الحق. فلو تم التواصى بالحق على أساس هذا الفهم الجزئي الضال، لكان المقصود حينئذ أن يوصي كل منهما صاحبه بما يعتقد (بصفته الشخصية) أنه حق، ويطالبه بالأخذ به، وربما كان الآخر لايعتقد أنه الحق، كما يعتقد موصيه، فيكون التواصي حينئذ ضرباً من التنازع، لأن كلاً منهما يدعو الآخر إلى ما لايرضاه، وهذا هو النوع المنهي عنه.

والمقصود بالتواصي عند الاختلاف هو تبادل الحوار، وتحري الحقيقة حول وجهة النظر، خلال جهد مشترك بين المتواصيين، للوصول إلى الحق. وفرض التواصي شرعا ًبهذا المعنى التبادلي يبيح للصغير ما يبيح للكبير، ولكن في حدود ما تفرضه الخبرة والمعرفة وآداب التخاطب في جانب كل منهما نحو الآخر. وهو مبدأ تربوي رفيع في نظام الأسرة والدولة والاجتماع العالمي، حيث يكون الحق هو مطلب كل إنسان، ويكون التواصي بالحق وبالصبر في طلبه غاية البشرية في التعاون على تحقيقه على المنهج الذي أشرنا إليه.

إن هذا التواصي بالحق والصبر هو جوهر المنهج الإسلامي في أدب الحوار عند الاختلاف، وهو يلخص في إيجاز قضايا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الشريعة الإسلامية اللذين هما في الحقيقة أمران: لأن من أوصى بالحق، ودعا إليه، لايتم له ذلك حتى ينهى عن الباطل، ويصد عنه، ومن أوصى بالصبر على مشاق الأعمال الصالحة، لايكمل له ذلك حتى يبين مساوىء الأعمال الخبيثة.

ومن المؤكد أن تحقيق هذا الواجب لايتم إلا بتحقيق وسائله، ومن وسائل تحقيق هذا التواصي على الوجه الذي بيناه في تحري الحقيقة بين المتحاورين، أن يكون الداعية على علم بآفاق من المعرفة المتصلة بموضوعه مثل علم التاريخ، ليلتمس العبرة فيما يعرض له من أمور الحياة، ثم علم تكوين الأمم وارتفاعها وانحطاطها ليكون الداعية عوناً لأمته على الأخذ بوسائل الرقي، والتقدم فيما يدعو إليه، ثم علم الأخلاق ليفهم مغزى العلاقة الإيجابية بين كل ذلك، إضافة إلى ضرورة الخبرة بعلم النفس وعلم الحس والوجدان، ونحو ذلك مما لابد منه في معرفة مداخل الباطل إلى القلوب، ومعرفة طريق التوفيق بين العقل والحق، وسبل التقريب بين اللذة والمنفعة الدنيوية والأخروية، ووسائل استمالة النفوس من جانب الشر إلى جانب الخير، فإن لم يحصل الداعية علم ذلك كله، فقد الدليل إلى طلب الهداية، ووقع وزر العامة عليه، ولذلك يقول الشيخ محمد عبده:

>لو قضى الزمان بأن يكون من وسائل التمكن من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإشغال الناس بالحق عن الباطل، وبالطيب عن الخبيث، أن يضرب الإنسان في الأرض ويمسحها في الطول والعرض، وأن يتعلم اللغات الأجنبية، ليقف على مافيها مما ينفعه فيستعمله، أو ما يخشى ضرره على قومه فيدفعه، لوجب على أهل العلم أن يأخذوا من ذلك ما يستطيعون<(1).

.2 الخلاف ونزاع المقايسة

وقد ظن بعض الأصوليين ممن ينفون القياس أن في هذا النهي عن التنازع دليلاً على منع القياس، فبنوا على النهي عن المنازعة هنا النهي عن القياس، لأنهم رأوا أن المنازعة، إذا كانت محرمة، كما في قوله تعالى: {وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم} (سورة الأنفال، من الآية: 46)، فالقياس على ذلك حرام، وبيان الملازمة في رأيهم هو المشاهدة، فهم يرون أن الدنيا ( هكذا يقولون) صارت مملوءة بالاختلافات بسبب القياس، وبيان أن المنازعة محرمة، هو قوله تعالى: {ولاتنازعوا}.

غير أن من يثبتون القياس يردون على هذا بقولهم: ليس كل قياس يوجب المنازعة.

وفي اعتقادنا أن وحدة المقاصد الشرعية أصل ثابت يجمع بين المسلمين، وأن اختلاف مناهج الأدلة في تحقيق هذه المقاصد اجتهاد مشروع في الوصول إلى الحقيقة لايتهدد هذه الوحدة كما سنرى، لأن وحدة المقاصد هي السياج الذي يحمي وحدة الأمة في كل حال.

غير أن الاختلاف منه محرم ومنه غير محرم، كما يقول "الشافعي" فكل ما أقام اللَّه به الحجة في كتابه أو على لسان نبيه منصوصاً بيناً، لم يحل الاختلاف فيه لمن علمه، وماكان من ذلك يحتمل التأويل ويدرك قياساً، فيذهب المتأول أو القائس إلى معنى يحتمله الخبر، وإن خالفه فيه غيره . وهذا غير محرم شرعاًً، لأنه من الاجتهاد الذي يعبر عن خلاف جائز بين علماء المسلمين، بل لعله مفيد أحياناً في إقامة روح الحوار والتواصي بالحق والصبر الذي أشرنا إليه. والأولى بنا في هذه الحالة أن نسميه اختلافاً في الاجتهاد لا اختلافا ًًفي المقاصد.

أما التأويل المخالف للدليل والحجة ففيه يقول تعالى: {وماتفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ماجاءتهمُ البينة}. (سورة البينة، الآية: 4)، ويقول تعـالى:{ولاتكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ماجاءهم البيناتُ}.(سورة آل عمران، من الآية: 105) فذم الاختلاف هنا إنما يتجه إلى: فيما جاءتهم به البينات، وهذا يتصل بقوله تعالى في آية أخرى: {واعتصموا بحبل اللَّه جميعا ولا تفرقوا}.(سورة آل عمران، من الآية:103)، فالاعتصام بحبل اللَّه هو الأصل، وبه يكون الاجتماع والاتحاد الذي يجعل الأمة كالشخص الواحد، والدعوة إلى الخير هي التي تغذو هذه الوحدة، ويكون ذلك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، على وجه من حوار التواصي الذي يوحد كلمة المسلمين.

ذلك أن المتفقين في المقصد لايختلفون اختلافاً ضاراً ينافيه، وإنما يقع الاختلاف بعد التفرق في المقاصد والتباين في الأهواء، بذهاب كل إلى تأييد مقصده، وإرضاء هواه على أساس فهمه الجزئي الضال لما هو : "الحق". أما الاختلاف في الرأي لأجل تأييد المقصد المتفق عليه، فيما ليس فيه نص بين، فهذا لايضر، بل قد ينفع، وهو طبيعي لامفر منه، لأنه يقرر حق الاختلاف، وهو مقرر لكل عالم من علماء الأمة تؤكده أصول الشريعة عند انتفاء الدليل. مثل هذا الاختلاف ليس منهياً عنه، وربما قلنا مرة أخرى إنه من الاختلاف المفيد الذي يكشف خلال التواصي الذي أشرنا إليه عن جوانب جديدة من آفاق الموضوع المطروح. أما الخلاف المنهي عنه حقاً فهو كل خلاف ينشأ عن التفرق أو يدعو إليه. ومن المؤكد أن حسن النوايا في وسائل تأييد المقصود لايدوم معه خلاف، وإذا دام فإنه لايضر، لأنه لايترتب عليه اختلاف في العمل : إذ المتفقون المخلصون يرجع بعضهم إلى قول من ظهر على لسانه البرهان منهم، وإلا عملوا برأي الأكثرين، فيما لايظهر للأقلية برهانه".

وهكذا نجد أن وحدة الدعاة إلى الخير، واتفاقهم في المقصد هي الكفيلة بنبذ كل خلاف، فهم دائماً "الأمة" الذين يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ويواصلون حوار التواصي بالحق والصبر، وفي هذا حفاظ الجامعة وصيانة الوحدة.

.3 لاخلاف مع وحدة المقاصد

يعرف الخلاف لغوياًً بأن يأخذ كل واحد من الطرفين غير طريق الآخر، في حاله أو قوله، والخلاف أعم عن الضد، لأن كل ضدين مختلفان، وليس كل مختلفين ضدين. وعلى ذلك فليس الاختلاف مستلزماً للضدية بطبيعته، وبخاصة إذا اتحدت الغايات، وتوافقت المقاصد.

ولما كانت المقاصد الشرعية ـ مؤسسة على الكتاب الكريم والسنة النبوية ـ واحدة عند جميع المسلمين، فقد اقتضى ذلك من الوجهة النظرية المحض ألا يكون للخلاف محل بينهم، فالأصل المقرر هو عدم الخلاف بين علماء المسلمين، سواء من حيث هذه المقاصد الثابتة، أو من حيث أدلتها الشرعية، إلا ما لزم فيه اجتهاد مشروع بشروطه، وهو اجتهاد لايهبط مستوى تغاير الرأي فيه إلى درجة التناقض الجذري الذي يهدد الغايات الشرعية في حياة المسلمين.

أما من حيث المقاصد الثابتة، فمنها الضروري الذي لابد منه في قيام مصالح الدين والدنيا، كما هو معروف. ومجموع هذه الضروريات عند الأصوليين خمسة وهي: حفظ الدين، والنفس، والنسل، والمال، والعقل. وقد أصبحت العناية الاجتماعية والشرعية بهذه الضروريات ذات صبغة عالمية، فهي موضع الرعاية في المذاهب والملل والقوانين الدولية. وقد عبر ميثاق حقوق الإنسان في هيئة الأمم المتحدة عن هذه الضروريات بطريقته الخاصة. ولذلك فإن هذه المقاصد الضرورية موضع اتفاق علماء المسلمين، بل أصبحت موضع اتفاق مشرّعي العالم جميعاً. ويتصل بهذه المقاصد الضرورية مجموعة من المقاصد الحاجية التي تعين على تحقيق المقاصد الضرورية دون حرج أو مشقة خاصة.

وهناك بعد ذلك التحسينات التي تتصل بما يليق من محاسن العادات، وتجنب المدنسات التي تأنفها العقول الراجحات، وهذا كله يقع تحت قسم مكارم الأخلاق، وقد يكون في هذا باب للاجتهاد المشروع .

هذا هو الأصل الأول الذي يجمع القلوب والعقول حول وحدة فكرية جامعة في الإسلام، ولذلك فإن عدم الخلاف في الأساسيات الضرورية، وما ينشأ حولها من الحاجيات والتحسينات هو القاعدة الأولى التي تربط بين علماء المسلمين كافة برباط جامع.

أما من حيث مناهج الأدلة في تحقيق هذه المقاصد، فالأصل فيها، أيضاً. هو عدم الخلاف، فيما ورد فيه نص صريح، كما قدمنا. والمعروف عند الأصوليين أن كل دليل شرعي، إما أن يكون قطعياً أو ظنياً، وحيث يكون الدليل قطعياً فلا إشكال، ولا خلاف في اعتباره بين العلماء، كوجوب الصلاة والزكاة، ووجوب اجتماع الكلمة، ونبذ الخلاف والسعي إلى تحقيق العدل بين الناس، وما إلى ذلك من الأحكام.

أما إذا كان الدليل ظنياً، ولكنه يرجع إلى أصل قطعي، فالعمل به، أيضا ً، ظاهر، وعليه أخبار الآحاد ولاخلاف في اعتباره، مثل ماجاء في الأحاديث من صفة الطهارة الصغرى والكبرى والصلاة والحج، وغير ذلك مما هو بيان النص الكتاب. وقد يكون الدليل ظنياً معارضاً لأصل قطعي، ولايشهد له أصل قطعي، ولاخلاف في رد مثل هذا الدليل بلا إشكال. فهو من جهة مخالف لأصول الشريعة، ومخالف أصولها لايصح، لأنه ليس منها، وما ليس من الشريعة كيف يُعََدُّ منها؟ وهو من جهة أخرى ليس له مايشهد بصحته، وماهو كذلك ساقط الاعتبار بلا خلاف.

وإذا كانت أمور المقاصد، ومناهج الأدلة، كما أسسها علماء المسلمين باجتهادهم المبدع في تأسيس القواعد وضبط المناهج على هذا النحو من الوضوح الحاسم، فإنه يترتب على ذلك أنه لاخلاف في أصول شريعة الإسلام، على الأقل من وجهة النظر المنهجية، وبخاصة أن الأدلة الشرعية على النحو الذي أشرنا إليه لا تنافي قضايا العقول. ذلك أن الأدلة إنما نصبت في الشريعة لتتلقاها عقول المكلفين بالقبول والاستجابة، ولو نافتها، لم تكن أدلة للعباد على حكم شرعي، ولكان التكليف بمقتضاها تكليفاً بما لايطاق، أو تكليفاً بتصديق ما لايصدقه العقل ولا يتصوره.

من أجل ذلك، فإن الأصلَ المقرر عقلاً وشرعاً أن الشريعة تجري على مقتضى عقول المكلفين، بحيث تصدقها العقول الراجحة، لأن مورد التكليف هو العقل، إذ يسقط التكليف عند فقد العقل، وذلك ثابت قطعاً بالاستقراء التام .

.4 الجذور غير الشرعية للخلاف بين المسلمين

الأصل الثابت من وجهة النظر الشرعية، أنه لاخلاف بين المسلمين كما رأينا، ولكن مما يدعو إلى الأسى أن الواقع التاريخي لا يؤيد ذلك. والثابت أن الجذور الأولى للخلاف قديماً كانت ترتبط بالخلاف حول الخلافة، ثم صار الخلاف السياسي خاصية مميزة لطبيعة الاجتماع العربي. والخلاف السياسي المحض قد ينشأ في الأمم، ولكن مثل هذا الخلاف يمكن السيطرة عليه في وقت من الأوقات، أما حين يَلْتَبسُ الخلاف على الناس باسم الدين، فتقتحم الرؤية السياسية فئةٌ في تفسير بعض النصوص الدينية، فحينئذ يصعب الإصلاح، لأننا نتعامل حينئذ مع رؤى دينية، وليس مع رؤى سياسية خالصة، ولأن كل فريق يعطي نفسه قداسة تنتسب إلى المتعالي، وتستمد من قرائتها للنص الديني رؤيتها السياسية الخاصة، وحينئذ يصعب الحوار لأن كل طرف منها يتحدث باسم المطلق، ويدعي لنفسه قداسته.

وتلك هي المشكلة: لايملك الخليفة أن يدعى التماهي مع مقام النبوة، حتى يتجنب الناس الاختلاف الطارىء بموت الرسول عليه الصلاة والسلام ، وهو في الوقت نفسه، لايملك ماكان يملكه النبي من مصادر المعرفة العليا، أعني الوحي الذي يمده بالتأييد والهداية، ومن المؤكد أن شعور الخلفاء الأول بثقل المسؤولية كان شعوراً عميقاً بالغ العمق، وهذا واضح في خطبهم عند تولي الحكم. تلك هي مرحلة مواجهة الذات الإسلامية مع النص لأول مرة، بعد غياب الهادي، لقد توقف الوحي الإلهي، وذهب الرسول الكريم، عليه الصلاة والسلام ، الذي كان يحمله ويحمل عبء تأويله إلى الناس، وليس عليهم الآن إلا أن يستجمعوا شجاعتهم، ويتعاملوا مع نصوصه وتراث هذه النبوة بعقولهم الخاصة.

كان الخلاف السياسي مصدر أساس من مصادر الفرقة بين المسلمين، أما ما عدا ذلك من الاختلاف في مسائل اجتهادية حول قضايا فقهيه، فلم يكن ذلك سبباًً لخلاف حقيقي بين المسلمين، فالثابت أن فقهاء المسلمين كانوا أوسع علماء المسلمين صدراً في إشاراتهم الخلافية بعضهم إلى البعض الآخر. وربما نشأ الخلاف في أصول العقيدة نفسها أو في مسائل نظرية ثم أخذت المذاهب تتمايز، والنظريات تتبلور والمقالات تنضج، وصار لكل فريق مذهبه المخصوص في الشرع، ومقالته المميزة في العقائد أي رؤيته الخاصة في الأصول.

في إطار هذا الاختلاف السياسي الذي استحال إلى اختلاف عقدي وتفرق مذهبي ثم انتهى إلى تمايز اجتماعي وثقافي وشعوبي، حاول كل فريق أن يؤكد هُويته الخاصة في مواجهة الفريق الآخر، وربما رأينا اجتهاداًً في اصطناع فروق تميزه عما سواه في جزيئات من الأحكام الفقهية، وهكذا تحولت الأمة الواحدة إلى مجموعة من الفرق ذات الهوُيات الجزئية المختلفة، وتجلى ذلك الاختلاف في الشعارات والطقوس، والأمكنة والرموز، والمراجع، والأسماء والأعلام.

من هنا صار الاختلاف عن الغير داخل الدين الواحد، تباعداً نسبياً عن الأصل الذي ينتمون جميعاً إلىه، وتمزيقاً لمعنى الأخوة الجامعة بين المسلمين، فبقدر ما باعد التعصب والتحزب بين فرقة، وأخرى، باعد، أيضاً، بين كثير من هذه الجماعات، وبين الأصل ذاته، فتعددت التأويلات التي تماهي بين مضمون النص وبين مضمون النظربة المذهبية الخاصة، وبذلك تدخل التاريخي المتعالي والسياسي العارض في المطلق، وأثرت أيديولوجيات المذاهب في قراءة النصوص، وكأنها تحاول أن تحل خطابها السياسي محل الخطاب الإلهي(2)، أو تتحدث باسمه، لأن كل واحد كان يأبى من النص إلا ما يريد أن يراه تعبيراً عن أهواء خاصة بأهل مذهبه. وهكذا اختلطت السياسة بالفكر الديني واختلفت مناهج التفسير باختلاف المذاهب والقراءات الشخصية، أصول الفهم السليم للنصوص الدينية وهذا مادعا أحد اللاهوتيين في الإنجيل: "كل امرىء يطلب عقائده في هذا الكتاب المقدس وكل امرىء يجد فيه على وجه الخصوص ما يطلبه".

في ضوء هذا الاقتحام السياسي لبنية الفكر الديني في الإسلام تم إنشاء تأويلات مذهبية تتفق ومذاهب السنة أو الشيعة أو الخوارج أو المعتزلة، أو الصوفية، أو غيرهم. وتساءل مثلاً بعضهم: هل في القرآن الكريم إشارة لتصويب فعل الخوارج، أو للحرب بين على ومعاوية؟ فقد يجد القارىء تأويلات صريحة تسيء إلى معاوية والأمويين. وفي هذا الصدد تسترعي انتباهنا من بين الروايات رواية تفسر {الشجرة الملعونة} في القرآن بأنها إشارة إلى الفرع الأموي، إضافة إلى تأويلات مختلفة من جانبي السنة والشيعة تعبر عن الجدل السياسي الذي كان يدور بينهما، وربما تطاول هذا الجدل فأصاب شخصيات من خيرة رجال المسلمين ونسائهم بالتحامل والتجريح.

ومن الواضح إذن أن محاولات تطويع الدين وفقاً للاتجاهات السياسية، على الوجه الذي رأينا، كان لها أثر في نشأة الخلاف وتعميق فجوته بين المذاهب الإسلامية. والأصل أن الدين يقرب البعيد ويجمع المتشتت، ويلم الشعث، ويمحق أسباب الخلاف في النفوس، وينشىء بين الآخذين به أخوَّة لاتداينها أخوَّة النسب في شيء. وكلنا يذكر صفات المسلمين الأوائل الذين كانوا يؤثرون إخوتهم في الدين {ولو كان بهم خصاصة}. هذا هو جوهر لاخلاف ولا اعتساف، ولاطرق، ولامشارب، ولا منازعات في الدين ولامشاغب. وإنما نشأ كل ذلك حين نشأ عند السعي في طلب الرئاسة باسم الدين، لأن ذلك يصاحبه غالباًً شيء من الرغبة في عزة الرئاسة، وما يحيط بها من شهوات القوة والسيطرة والنفوذ، وتأويل النصوص الدينية لصالح السلطة السياسية المتوثبة إلى الحكم.

ومن المعروف أن سلطة الحكم في الإسلام لاترتكز على عصمة خاصة باسم الحق الإلهي، انحطت منزلته، إلا حق النصيحة والإرشاد .

فلم يعرف المسلمون في عصر من العصور تلك السلطة الدينية التي كانت" للبابا" عند الأمم المسيحية، عندما كان يعزل الملوك، ويحرم الأمراء، ويقرر الضرائب على الممالك، ويضع لها القوانين الإلهية، من أجل ذلك فإن الحاكم في المجتمع الإسلامي" هو حاكم مدني من جميع الوجوه"، وإن اختياره وعزله، إنما هما أمران خاضعان لرأي البشر، من أجل ذلك، فإن المسلمين حين يتناصحون في فلسفة الحكم إنما يقيمون أمة تدعو إلى الخير، وتتواصى بالحق والصبر وهم المراقبون عليها يردونها إلى السبيل السوى إذا انحرفت عنه، ورغم وضوح مبادىء الإسلام في الحكم وتوجيهها الحاكم إلى ما يحقق الخير للمجتمع، وإلى احترام الشعب واتباع الشورى، إلا أن بعض الحكام انحرفوا عن الطريقة المثلى للحكم فأوقدوا نار الخلاف بين المسلمين.

فالخوارج لم ينصروا عقيدة كما كانوا يدعون، ولكنهم تحركوا من أجل تغيير شكل الحكومة لتتفق مع مصالحهم وأهدافهم، وما كان من حرب بين الأمويين والهاشميين فقد كانت حرباً على الخلافة أكثر من كونها صراعاً لنصرة مباديء الدين.

من هنا نعود فنكرر أن التفسير الديني للخلاف السياسي، وإقحام البنية الدينية في الرؤى المتطلعة إلى الحكم، كان مصدر الخلاف الأصلي الذي امتد بعد ذلك في تاريخ الإسلام في صور مختلفة، إن الجهد الديني في النشاط السياسي ينبغي أن يقتصر على الإرشاد والنصح التوجيه. هؤلاء العلماء هم طبقة الخواص، أي أهل الشورى، وهم يقومون بمعونة الدولة على وضع تعاليم اللَّه المثالية في أشكال مكانية وزمانية، وعلى الدولة أن تعمل على تحقيق هذه المبادىء في تنظيمات إنسانية محددة يعين على بيانها والهداية إليها علماء الإسلام.

إن الإسلام لايعرف سلطة مطلقة للحاكم بوصفه ممثلاً لله ولا لمعاونيه بوصفهم وزراء لله، فتلك النظرية غريبة عن الأمة الإسلامية. وكذلك لا يستطيع المسلم أن يندمج اندماجاً كاملاً في بناء جماعي قاهر مثل البناء الشيوعي، لأن الإسلام يعترف بالقيمة الذاتية للأفراد باعتبارهم مدينين بوجودهم للَّه سبحانه وتعالى، ومسؤولين أمامه عن أعمالهم. ويفقد المسلم من جهة أخرى الشعور بالانتماء إلى جماعة كبيرة تجمع إخوته في الإيمان، إذا هو آثر الحياة على النمط الغربي الذي ينزع إلى الفردية، لأن أخوة الإسلام تهب قوة وأمناً ومجالاً من الوعي المشترك.

ولذلك فقد كان مما يؤجج الخلاف في العصر الحديث أن تنشأ تأويلات سياسية للإسلام تتأوله تأويلاً اشتراكياً في بعض البلاد الإسلامية، في مقابل تأويلات أخرى ذات طابع رأسمالي غربي في بلاد إسلامية أخرى ذات نظام حكم مختلف.

إن الزج بالسياسة في الخلافات العقدية له خطر عظيم على وحدة الأمة، وفي تاريخ المذاهب الإسلامية أمثلة على ذلك، فقد بنى المعتزلة آمالاً واسعة على نصرة مذهبهم في مسألة عقدية تتعلق بقدم القرآن)، وذلك لايليق بمبادىء الإسلام التي تكفل حرية الرأي.

إن من حق الاختلاف في المسائل الكلامية أن تعد كل فرقة رأيها هو المصيب، فتقطع بصدقه، وتحكم بخطإ خصومها، ولكن ليس بتكفيرهم أو تعذيبهم كما فعل المعتزلة. ومع ذلك فإن لمثل هذه المسائل الغيبية ذات الطابع الفلسفي وجوهاًً مختلفة، ولابد لكل ناظر متأمل أن يصيب في وجه من الوجوه، ومن الأفضل أن نفسح المجال لهذا التعدد، ولإمكانات القراءة المتفتحة. والواقع أن موضوع الصفات الإلهية، على وجه الخصوص، كان مصدراً من مصادر الخلاف بين الفرق الإسلامية، بل إن هذا الموضوع ظل مصدراً دائماًً للخلاف في كثير من الأديان عبر التاريخ، لأن الكلام فيه يتعلق بغيب لا يرقى العقل البشري إلى إدراكه، إلا من خلال نصوص دينية، جاءت بلغة البشر وعلى أساليبهم، وفي متناول تصوراتهم وقدراتهم، وفي هذا الإطار يمكن أن نفهم قول رسول الله عليه الصلاة والسلام ، > تفرقت اليهود على إحدى وسبعين أو اثنتين وسبعين فرقة، والنصاري مثل ذلك. وتفترق أمتي على ثلاثٍ وسبعين فرقة<.

ويمكن تفسير هذه الظواهر الخلافية بملاحظة أن الأديان في مصادرها الأولى تعتمد على شقين: الشق الأول هو النصوص، والشق الثاني هو مايتعلق بفهم هذه النصوص. أما ما يتعلق بالنص القرآني، فقد حفظه اللَّه من كل عبث، ووصل إلينا صحيحاً متواتراً بالرواية جيلاً بعد جيل، وكذلك وصلت مجموعة الأحاديث المتواترة والصحيحة، فاختلاف المسلمين إذن لا يتعلق بالنصوص وإنما يتعلق بتأويلها.

ومن جهة أخرى فإن للسنة دورها الهام في بيان شؤون العقيدة، ولذلك يجب الرجوع إليها حتى وإن وصلت إلينا عن طريق أحاديث الآحاد التي لا يأخذ بعض الفقهاء بها في تقرير مسائل العقيدة، ولذلك يقول الشافعي في أمر اللَّه بوجوب طاعة الرسول: "جعله (اللَّه) علماًً لدينه بما افترض من طاعته وحرم من معصيته، وأبان من فضيلته، بما قرن من الإيمان برسوله مع الإيمان به".

وإذا كانت أحاديث الآحاد مصدراً لاختلاف العلماء، من حيث مرتبتها كدليل شرعي، فإن هناك مسألة أخرى أكثر إثارة للخلاف في تفسير النصوص، وهي مسألة الصيغ المجازية التي وردت في القرآن الكريم والحديث النبوي ومدى علاقتها بالحقيقة.

.5 التأويل وحق القراءة

ومع أننا نؤيد ابن تيمية فيما يتعلق بموضوعات الصفات الإلهية، فإن لنا رأياً مختلفاً في هذه المسألة، وقد نستطيع أن نغلق اليوم بعض أبواب الاختلاف إذا حرصنا في تأويلاتنا للنصوص الدينية المتصلة بالأمور الغيبية أن نتجنب القطع بالتأويل، إلا عند الضرورة الملحة التي تفرضها طبيعة استعمال اللغة العربية. وفي جميع الأحوال تظل التفسيرات والتأويلات نسبية تعبر عن آراء منسوية إلى جهد أصحابها وثقافة عصرهم.

ويبدو أن الجدل في ذلك سوف يستمر إلى مدى يعلمه اللَّه، مصداقاً لحديث النبوة في موضوع الفرق، ومع ذلك فإن استمرار هذا الاجتهاد والجدل المشروع خارج ثوابت المقاصد الشرعية لايعني استمرار الخلاف بين المسلمين، فالقرآن حمال أوجه، وهذه الأوجه إنما تتحقق بالقراءات ذات الدلالات المتفتحة على العصر، وفقاً لمستويات الاستقبال، وحاجة المتلقي، وفي هذا ما فيه من التعبير عن حيوية هذا الدين، وجدارته بالبقاء هادياً لكل الناس.

وسوف تظل الاجتهادات المختلفة علامة حية على بقاء هذا الدين، وشرطاً ضرورياً لاستمراره، فذلك هو حق القراءة الذي يمنحه الإسلام لكل من يهتدي بهديه إذ يستقبل النص بقلبه، كأنه يراه وجهاً لوجه، بلا وسيط، ويجاهد بالرغم من نسبيته الزمانية والمكانية للدخول في عالم المطلق.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
التوقيع
.
.
.
جاري البحث
.
.
.
أخر مواضيعي
صـدى زهـران غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس