![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
#1
|
|||
|
|||
![]()
المقدمــة:
يقوم الإسلام على الإيمان أو العقيدة التي تكوِّن القاعدة الأساس في بناء الدين، ومنها ينطلق المؤمن، ويضبط كلَّ حركته بضوابطها، وهي تفسِّــر للإنســان طبيعةَ وجودِه ونشــأتَـه وغايتَـه، و مصـيـره، وترسـمُ له معالم صلتِه بالله - تعالى - وبالحياة والأحياء والكونِ من حوله، وعليها تقوم أحكام الشريعة والنظام والأخلاق في كل جوانب الحياة. وقد انصرفت عناية بعض العلماء في مرحلة من مراحل تدوين علم العقيدة إلى الجدل والرد على المخالفين بأسلوب ومنهج يتفق مع منهج أولئك المخالفين، فتأثروا بالمنهج الفلسفي الإغريقي، وفسَّروا القرآن على ضوء الفكر اليوناني، فكان لا بدَّ من إعادة الأمر إلى نصابه بالعودة إلى المصادر الصحيحة الموثوقة في دراسة العقيدة؛ وهي القرآن الكريم والسٌّنة النبوية. وسننظر في المنهج الذي سلكه القرآن الكريم في بيان العقيدة الإسلامية وغَرْسِها في النفوس وتثبيتها في القلوب ليكون لها أثرها في السلوك، وسنعرض وسائل هذا المنهج ومسالكه، بما يتفق مع طبيعة هذا البحث الموجز. المنهج الفطري أو الوجداني: يقرِّر القرآنُ الكريم حقيقةً كبيرةً، وهي أنَّ الإنسان قد خلقه الله على فطرة سليمة تتجه إلى بارئها وتلجأ إليه؛ فقد جُبِلَت النفـوس على معرفة خالقهـا - تعـالى - منذ أن أخذ الله - تعـالى - العهـد والميثاق علـى أبنـاء آدم؛ حيـث قـال - تعالى -: {وَإذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ ألَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} [الأعراف: 172]. وكل مولود في هذا الوجود يولد على الفطرة؛ ولذلك يخاطب الله - تعالى - الإنسان ويذكِّره بهذه الفطرة بأسلوب وجداني حي؛ ليوقظ إحساسه بالأمور الإيمانية والعقيدة، وأهمها: توحيد الله - تعالى - وإفراده بالعبادة وما يتفرع عن ذلك من قضايا الاعتقاد، وليزيل عن هذه الفطرة ما قد يغشاها أو يحرفها عن طريقها السوي من مؤثرات أُسَرية أو اجتماعية، أو من عادات وتقاليد وأوهام وخرافات، أو من غواية وشهوات ومصالح مادية تهبط بالإنسان وتنحرف به عن الجادة. يقول الأستاذ محمد المبارك: (القرآن يخاطب الإنسان ويثيره عن طريق منافعه ومصالحه وحاجاته وملذاته، وعن طريق قضاياه ومشكلاته؛ ليحرك تطلُّعَه وقلقه إلى معرفة الحقيقة ذات الصلة بحياته الحاضرة ومصيره البعيد، ويجعله بذلك متهيئاً للتفكير في الله، ومستعداً لقبول نتائج المنطق السليم مع منفعته)[1]. وليس الوجدان هو الإحساس أو صفة من صفاته؛ ولكنَّـه وعاء الشُّعور بما ينشأ عن إدراك المعاني. والقرآن الكريم يثير الوجدان بطريقته الجميلة المعجزة، ويزيل الغشاوة التي ترين على القلب وتجعل الحسَّ يتبلَّد، ويَعْرِض آيات الله في الكون في صورة حيَّة ينفعل بها الوجدان كأنها جديدة يشهدها الإنسان لأول مرة. وحين ينفعل بها الوجدان ويتأثَّـر، ويتحرك الخيال لتتبع المشهد المعروض وتتحرك المشاعر بشتى الانفعالات، عندئذٍ يوجِّهه (أي القرآن الكريم) إلى أنَّ وراء هذه المشاهد كلِّها قدرة الله المعجزة، وأن صانعها وبارئها هو الله، سبحانه وتعالى؛ فينبغي إذن عبادة ذلك الإله القادر، والتوجُّه إليه وحدَه بالعبادة دون سواه؛ والتلقِّي عنه في كل أمر من الأمور. مجالات المنهج الفطري: بهذه الطريقة الوجدانية الحية يتحدث القرآن الكريم عن الكون بضخامته ودقته المعجزة؛ وعن ظاهرة الموت والحياة، وعن إجراء الرز ق، والأحداث، وقدرة الله التي لا تُحَدُّ، وعن علم الله الشامل للغيب؛ كلُّ ذلك بطريقة فذَّة تجعل الإنسان يستقبل هذه الأمور كلَّها كأنَّه يراها ويلاحظها لأول مرة؛ فينفعل بها وجدانه ويستيقظ لحقيقة الألوهية: 1 - ففي آيات الله الكونيـَّة: يعرض لنا القرآن الكريم جانباً منها بطريقة تصويرية أخَّاذة، ويرسم لها صورة شاملة متكاملة، ويطوف بنا في مجالات رحبة كثيرة، ثم يخلص إلى النتيجة والتوجيه والقناعة الوجدانية، كما في قوله - سبحانه وتعالى -: {هُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَّكُم مِّنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ 10 يُنبِتُ لَكُم بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالأَعْنَابَ وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ إنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل: 10 - ١١]. 2 - وفي ظاهرة الحياة والموت: يتحدَّث القرآن الكريم كثيراً عن أصل الحياة وظهورها، وعن ظاهرة الموت بعد الحياة؛ ليهزَّ الوجدان بهذه الظاهرة المعجزة التي كثيراً ما يمرُّ الإنسان بها دون أن يلتفت إليها؛ أو دون أن يعطيها حقَّها من الاهتمام؛ مع أنها جديرة أن تبعث في نفسه هذا التساؤل: من الذي خلق الحياة في هذه الخلية الحية؟ وعندما تموت هذه الخلية: من الذي سلبها هذه الحياة؟ ولماذا لا تستمر هذه الحياة؟... إلخ. وهنا يجيء جواب الفطرة ومنهج الفطرة في القرآن؛ ليزيل الغشاوة عن النفوس، ويتحدث عن الموت والحياة حديثاً يهزُّ الوجدان فيصحو من تبلُّده، ويتيقظ لحقيقة الألوهية والربوبية التي يرجع إليها الموت والحياة؛ كقوله - تعالى -: {أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَل لَّجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ} [الملك: 21]. وليس هذا في مجال الإنسان فحسب؛ بل في مجال المخلوقات الأخرى كذلك. قال الله - تعالى -: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَاماً إنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لأُوْلِي الأَلْبَابِ} [الزمر: 21]. 3 - وفي الرزق بأنواعه و ألوانه: وهو من أشد الأمور التي تربط القلب بالله - سبحانه - وتحرك الفطرة والوجدان؛ إذ يذكِّرنا الله - تعالى - في كتابه الكريم بأنَّـه – سبحانه - هو الذي يُفيضه على الإنسان دائماً، فقد تكفَّـل الله - تعالى - للإنسان بكل ما يحتاجه؛ من طعام وشراب وملبس ومسكن وهواء، ومن تسخير لكل الموجودات كي ينتفع بها الإنسان، وجعلها تسير على نظام يتفق مع حياة الناس وحاجاتهم. ويَعْرِض القرآنُ الكريم موضوعَ الرزق بطريقة توقظ الفطرة وتحرك الوجدان لمعــرفة الله - تعــالى - ولمعــرفة أنه - سبحانه - المتفرِّد بهذا الرزق والعطاء، وأنه هو الرزَّاق ذو القوة المتين، وأنَّ الأرزاق كلَّها من عند الله، وأنَّ الإنسان مهما بذل من جهد فهو لا ينشئها في الحقيقة، وإنما يعمل فيها بسنَّة الله ومشيئته، ولكن المنشئ والخالق هو الله - تعالى -: {أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ 63 أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ 64 لَوْ نَشَاءُ لَـجَعَلْنَاهُ حُطَاماً فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ 65 إنَّا لَـمُغْرَمُونَ 66 بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ 67 أَفَرَأَيْتُمُ الْـمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ 68 أَأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ الْـمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْـمُنزِلُونَ 69 لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً فَلَوْلا تَشْكُرُونَ 70 أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ 71 أَأَنتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْـمُنشِئُونَ 72 نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعاً لِّلْمُقْوِينَ 73فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} [الواقعة: 63 - 74]. فإذا كان الأمر كله لله - تعالى - في إنبات الزرع، وإنزال الماء من المزن، وتيسير النار والوقود... فإن في هذا كله تذكرة وتبصرة؛ ثم ينتهي السياق حين يهزُّ الوجدان بذلك العرض كله بدعوة الإنسان - وهو في حالة تأثُّره وانفعاله الوجداني هذه - أن يسبِّح باسم ربه العظيم الذي أفاض عليه كل تلك الأرزاق والخيرات، والنعم الظاهرة والباطنة. 4 - وتجري الأحداث حول الإنسان وفي خاصة نفسه من مولده إلى مماته: بعضُهـا أحداثٌ كونيَّة: كالليل والنهار وتعاقُبِهِما المستمر، وطلوع الشمس وغروبها، وطلوع القمر وتدرُّج أوجُهه من أوَّل الشهر حتى يكون بدراً؛ ثم يتضاءل حتى يختفي، والسحاب والمطر والرعد والبرق، وتعاقب الفصول... إلخ. وبعضُها أحداثٌ من محيط البشر: من ميلاد وموت، وصحة وضعف، وطفولة وشباب وكهولة وشيخوخة، وغنى وفقر، وعز وذل... إلخ. 5 - أمــا علــم الله للغـــيب: فإنه علم شامل محيط في كل جانب من جوانبه في الماضي وفي الحاضر وفي المستقبل، وقد يحاول الإنسان شيئاً من ذلك بوسـائل وأسباب ولكنه يعجز عنه؛ أما الله - سبحانه وتعالى - فإنه يعلم الغيب كله؛ لأنه هو العليم بكل ما في السماوات والأرض؛ وكلِّ ما حدث وما يحدث؛ لأنه منشئ الأحداث. والقرآن الكريم ينبِّه الوجدان البشري إلى هذه الحقيقة، فيقول الله - تعالى -: {اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَى وَمَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ 8 عَالِـمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْـمُتَعَالِ} [الرعد: ٨ - ٩]. ففي الآية الكريمة دليل على عظمة الله وشمول علمه للغيب في كل المجالات التي ضربت الآية الكريمة أمثلة عليها: في مجال الإنسان، وفي مجال الحيوان (مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَى)؛ فمن الذي يحصي هذا كله، ومن الذي يعلم خصائص كلِّ حَمْل تحمله كل أنثى؟ إنه لا أحد يستطيع ذلك إلا الله - تعالى - الذي جعل كلَّ شيء عنـده بمقـدار، ولا يغيب عنـه إسرار بالقول ولا خطرات في النفس... فأين يغيب عن الله شيء واحد من أعمال الإنسان؟ فكل شيء مسجل ومحفوظ وسيجزى الإنسان عليه: {وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إلاَّ يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} [الأنعام: 59]. وهنا يجدر التذكير بأن هذا المنهج الوجداني (أو الفطري) الذي يسلكه القـرآن الكريم لغرس العقيدة لا يقتصر على جانب واحد من جوانبها. وفي ختام هذه الفِقْرة حسبنا أن نؤكِّد أنَّ القرآن الكريم يلفت النظر إلى خصائص الفطرة والمواقف العلمية التي تعيد إليها نقاءها وصفاءها باعتبار أن هذا كله يصلح منهجياً إلى اعتبار الفطرة قاعدة من قواعد أخرى، فيتكون منها جميعاً منهج خاص يتميز به الإسلام حين يصطنعه منهجاً لبناء العقيدة الصحيحة في نفوس الأفراد والجماعات. المنهـــج العقلــــــــي: إنَّ المنهج العقلي الذي يسلكه القرآن الكريم في بيان العقيدة وغرسها في النفوس يأتي متسقاً مع المنهج الفطري ومتكاملاً معه؛ ولذلك فإنَّ القرآن الكريم لم يكن مقصوراً على مجرد الخبر عن وجود الله - تعالى - ووحدانيته وسائر أركان العقيدة، وإنما أقام البراهين العقلية التي بها تُعْلَم العلوم الإلهيَّة؛ فكان منهجه ومنهج جميع الأنبياء - عليهم السلام - الجمع بين الأدلة العقلية والسمعية (الشرعية)[2]. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: (فالاستدلال على الخالق بخلق الإنسان في غاية الحُسْن والاستقامة، وهي طريقة عقلية صحيحة، وهي شرعية، دلَّ عليها القرآن وهدى الناس إليها؛ فإن نفس كون الإنسان حادثاً بعد أن لم يكن، ومخلوقاً من نطفة ثم من علقة... فإن هذا يعلمه الناس كلُّهم بعقولهم، فهو إذنْ عقليٌّ؛ لأنه بالعقل تُعلَم صحته، وهو شرعيٌّ أيضاً)[3]. والإسلام ينوِّه تنويهاً كبيراً بالعقل ويُعلي من مكانته وقيمته؛ ونجد شاهداً على ذلك في الآيات القرآنية التي تنزَّلت بشأنه؛ فالعقل هو هبة الله للإنسان، ولذلك جعله الله - تعالى - سبباً للتكليف ومناطاً للمسؤولية؛ وحثَّ على استعماله فيما خُلق له (أي العقل) وفي المجال الذي يستطيعه، ورسم له المنهج الصحيح للعمل والتفكُّر، وأحال عليه في القضايا الكبرى الرئيسية: كمعرفة الله - تعالى - ووحدانيته، وصحة النبوة، والبعث بعد الموت؛ فإنَّ إدراك هذه القضايا إدراكاً كلياً عاماً إنما يكون بالعقل. وإن كان هذا لا يعني أن نجعل العقل حاكماً على مقررات الدين؛ فإن العقل من شأنه أن يتلقى عن الوحي، وأن يفهم ويدرك؛ فإن للعقول حدّاً تنتهي إليه لا سبيل لها إلى مجاوزتها. مجالات المنهج العقلي: والقرآن الكريم يخاطب العقل ويُقنِع الإنسان بالمنطق السهل المؤثر في النفس بأسلوب حي جذاب؛ حيث يوجِّه نظره إلى آيات الله في الكون والرزق والحياة والموت والأحداث الجارية كما سبق الحديث عنها في المنهج الفطري الوجداني، ولكنه مرة أخرى يعرض لها؛ وبأسلوب ومنهج عقلي يؤدي في النهاية إلى الغاية ذاتها، وهي إدراك حقيقة الألوهية وما يتفرع عنها من حقائق وقضايا الإيمان والعقيدة: 1 - ففي مجال الإلوهية: يعرض القرآن الكريم آيات القدر والخلق، ومظاهر الموت والحياة، فيقول الله - سبحانه وتعالى -: {نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلا تُصَدِّقُونَ 57 أَفَرَأَيْتُم مَّا تُمْنُونَ 58 أَأَنتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْـخَالِقُونَ 59 نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْـمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ 60 عَلَى أَن نُّبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنشِئَكُمْ فِي مَا لا تَعْلَمُونَ 61 وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الأُولَى فَلَوْلا تَذَكَّرُونَ 62 أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ 63 أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ 64 لَوْ نَشَاءُ لَـجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ 65 إنَّا لَـمُغْرَمُونَ 66 بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ 67 أَفَرَأَيْتُمُ الْـمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ 68 أَأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ الْـمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْـمُنزِلُونَ 69 لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلا تَشْكُرُونَ 70 أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ 71 أَأَنتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْـمُنشِئُونَ 72 نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِّلْمُقْوِينَ 73 فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} [الواقعة: 57 - 74]. وقد تقدَّمت هذه الآيات الكريمة في المنهج الفطري؛ وهي كذلك مثالٌ على المنهج العقليِّ؛ لما فيها من أسلوب منطقيٍّ يتصف بالحيوية؛ لما فيها من الأسئلة الموجَّهة إلى المخاطَب والإجابة عنها إلى أن يصل إلى النتيجة المطلوبة التي بُدئ بها لإيراد الدليل عليها، مع تعدُّد الأمثلة المأخوذة من حياة الإنسان وما يحيط به. ولو تأمَّل الإنسان بعقله وفكره آياتِ الله المبثوثةَ في الأرض وفي النفس والآفاق، لأيقن بأن وراء هذه الآيات قدرةَ الله - تعالى - وأنها دليل على وحدانيته، فتجب طاعته، والالتزام بأمره ونهيه، وخلع ما يُعبَد من دونه من الأنداد والشركاء. قال الله - تعالى -: {وَفِي الأَرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ 20 وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} [الذاريات: 20 - 21]. وبالأسلوب العقلي المنطقي تأتي أدلة الوحدانية، كقوله - تعالى -: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إلَهٍ إذًا لَّذَهَبَ كُلُّ إلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ}. [المؤمنون:91]، وكما قال - تعالى -: {أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِّنَ الأَرْضِ هُمْ يُنشِرُونَ 21 لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ} [الأنبياء: 21 - ٢٢]. والبراهين العقلية في القرآن ذات طريقة حيَّة وبأسلوب يمكن أن تفهمه الخاصة والعامة؛ كلٌّ بقدر طاقته. 2 - وفي مجال النبوات أيضاً: يخاطب القرآنُ الكريم العقلَ، ويوجِّهه إلى معرفة صدق النبيِّ ومصدر القرآن، وأنه هو الوحي المنزَّه عن الخطأ والاختلاف، فيقول الله - تعالى -: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا} [النساء: 82]. فإن سلامة القرآن من الاختلاف والتناقض، مع سلامته في الأسلوب الذي يجري على منهج واحد، دليلٌ عقليٌّ على أنه من عند الله، تعالى؛ فلو كان من عند غير الله لظهر فيه ذلك التفاوت[4]. 3 - وفي السمعيات: يقيم القرآنُ الكريم الدليلَ العقليَّ على البعث والحساب؛ فإن العقل يمنع أن تكون الحياة عبثاً؛ وأن يُترك الإنسان سدىً دون تكليف ولا محاسبة ولا جزاء يفرَّق فيه بين المؤمن والكافر، وبين التقي والعاصي الفاجر، فيقول الله - تعالى -: {أَيَحْسَبُ الإنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى 36 أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّن مَّنِيٍّ يُمْنَى 37 ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى 38 فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنثَى 39 أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أن يُحْيِيَ الْـمَوْتَى} [القيامة: 36 - 40]. وكذلك يحكم العقل بأنَّ من قَدَر على الخلق في المرة الأُولَى فهو على الإعادة أقدر: {أَوَ لَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِـمَن يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [الروم: 37]. والذي ينبغي أن نُلمِح إليه في آخر كلامنا عن المنهج العقلي: أن الإسلام بيَّن للعقل الطريقَ الذي ينبغي أن يسير فيه حين يريد النظر في مسألة بعينها؛ والطرائق مختلفة والأساليب متعددة؛ ولكل مسألة من المسائل ما يناسبها من طرائق النظر وأساليب الفكر. فإذا كان موضوع النظر هو مسائل الإلوهية، فإن العقل أمامه طريقان: أحدهما: أن ينظر في الكون ويتأمَّله ليستنتج من ذلك أن له موجداً، ثم ينظر في تناسق هذا الكون وانسجامِه ليعلم أن موجده واحد عالم حكيم خبير. والطريق الثاني: أن ينصت إلى هذا الإله الذي آمن به حينما يتحدث عما يجب وعما يجوز وما يستحيل على هذا الإله من أسماء وصفات. أما حين يكون الحـديث في مجال النبوة - مثلاً - فإن الإسلام يوجِّه العقلَ وِجْهةً أخرى، فيطالبه بالنظر في إثبات دعوى النبوة من جهات ثلاث: الأولى: النظر في تاريخ مدعي النبوة. والثانية: فيما جاء به هذا النبي من العقائد والشرائع. والثالثة: أن ينظر فيما ادَّعاه من الخوارق والمعجزات[5]. وأخيراً: فإن هناك توازناً واتساقاً بين هذا المنهج العقلي والمنهج الفطري السابق؛ وهذا أيضاً يمكن أن يكون منهجاً آخر؛ فنقول: إن القرآن يسلك منهجاً عقلياً ووجدانياً في الوقت نفسه لبيان حقائق العقيدة والإيمان. منهج الجدل والردِّ على الانحرافات: لقد ألمحنا فيما سبق بيانه إلى أن الفطرة قد تنحرف، وأن الكتب السابقة قد دخلها التحريف والتبديل. وكان لهذا أثره في شيوع الانحرافات والضلالات عند الأمم السابقة؛ فكان لهم معتقدات وتصورات باطلة؛ وكان لهم شبهات طارئة؛ لذلك وقفوا وقفة جائرة ظالمة من دعوة النبي صلى الله عليه وسلم إلى التوحيد؛ لذلك أبرز القرآن الكريم تلك الانحرافات، وجادل أصحابها، وأزال شبهتهم، وأقام عليهم الحجة بكل طريقة. ومن خلال الجدل والحِجَاج والرد والمناقشة لمعتقدات الجاهليين - أيّاً كانوا - تبرز العقيدة الصحيحة التي تتفق مع الفطرة السليمة ويقبلها العقل الصريح. مجالات منهج الجدل والرد على الانحرافات: ومن أعظم الانحرافات والضلالات التي رد القرآن الكريم على أصحابها: إنكار الألوهيَّة والربوبيَّـة والشرك فيهما، وإنكار البعث والنبوة، وانحراف اليهود في تصوُّرهم للإله؛ وانحراف النصارى وشركهم؛ حيث ادَّعوا أنَّ لله ولداً وأنه ثالث ثلاثة. وهناك انحرافات أخرى تتمثل فيما كان عليه الصابئة والمجوس وغيرهم: 1 - فقد ردَّ الله - تعالى - على منكري الربوبية الذين نسبوا الإحياء والإماتة إلى الدهر؛ وهم الصورة الأُولَى للإلحاد الذي عرفته بعض المجتمعات المعاصرة، فقال الله - سبحانه وتعالى -: {وَقَالُوا مَا هِيَ إلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إلاَّ الدَّهْرُ وَمَا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إنْ هُمْ إلاَّ يَظُنُّونَ} [الجاثية: 24]. وبذلك يبيِّن القرآن الكريم أنَّ الإلحاد لا يقوم على شيء من العلم، وإنما هي الظنون والأوهام والأهواء. وقد سبق في المنهج الفطري والعقلي ما يوضح أن وجود الله - تعالى - حقيقة لا يشك فيها عاقل؛ وأن الأدلة كلها قامت على ذلك عقلاً وشرعاً وواقعاً. 2 - ردَّ القرآن الكريم على المشركين ألوان الشرك الذي وقعوا فيه؛ حيث عبدوا الأصنام، وبعضهم كانوا يعبدون الجنَّ أو الملائكة ويزعمون أنها تشفع لهم عند الله... إلخ. وبيَّن القرآن الكريم حقيقة الأمر في ذلك بطريقتين: الأولى: بيان أن اللـه وحـدَه هو الخالق المدبِّر لهذا الكون؛ فلا أحـد يشاركه في الخلـق ولا في التدبير. قال الله - تعالى -: {قُلِ الْـحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ 59 أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنزَلَ لَكُم مِّنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإلَهٌ مَّعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ 60 أَمَّن جَعَلَ الأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَإلَهٌ مَّعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ 61 أَمَّن يُجِيبُ الْـمُضْطَرَّ إذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ أَإلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ 62 أَمَّن يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَن يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإلَهٌ مَّعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ 63 أَمَّن يَبْدَأُ الْـخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَإلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إن كُنتُمْ صَادِقِينَ} [النمل: 59 - 64]. الثـانـية: بيـان عجـز أولئـك الشركاء المزعـومين عن أن يملكوا لأنفسهم ضراً أو نفعاً؛ فكيف ينفعون غيرهم أو يضرونهم؟ يقول - تعالى -: {أَيُشْرِكُونَ مَا لا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ 191 وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلا أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ 192 وَإن تَدْعُوهُمْ إلَى الْهُدَى لا يَتَّبِعُوكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنتُمْ صَامِتُونَ 193 إنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إن كُنتُمْ صَادِقِينَ 194 أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلا تُنظِرُونِ 195 إنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِـحِينَ 196 وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ 197 وَإن تَدْعُوهُمْ إلَى الْهُدَى لا يَسْمَعُوا وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ} [الأعراف: ١٩١ - 198]. 3 - وعندما ادعى المشركون العرب أنَّ لله أولاداً وبناتٍ متابعةً لليهود الذين قالوا: إن عُزيراً ابن الله، ومضاهاةً لقول النصارى الذين قالوا: عيسى ابن الله، عندما قالوا ذلك ردَّ الله - تعالى - عليهم، ونزَّه نفسه عن ذلك، فقـال - سبحانه وتعالى -: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْـجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ 100 بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُن لَّهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ 101 ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إلَهَ إلاَّ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} [الأنعام: ٠٠١ - ٢٠١]. 4 - وعندما تنكَّر العرب للبعث والجزاء، وعجبوا من ذلك أشدَّ العجب واستبعدوا أن يكون هناك حياة أخرى بعد الموت... عندئذٍ حكى الله - تعالى - ذلك عنهم، ثم أقام الأدلة على البعث بتوجيه أنظارهم وعقولهم إلى آيات الله في هذا الكون وقدرته - سبحانه - التي تتجلى في عظمة هذه المخلوقات لأول مرة؛ فكيف لا يقدر على الخلق مرة أخرى؟ وتأمَّل هذه الآيات الكريمة بأسلوبها المعجز الأخَّاذ. قال الله - تعالى -: {ق * وَالْقُرْآنِ الْـمَجِيدِ 1 بَلْ عَجِبُوا أَن جَاءَهُم مُّنذِرٌ مِّنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ 2 أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ 3 قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ الأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِندَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ 4 بَلْ كَذَّبُوا بِالْـحَقِّ لَـمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَّرِيجٍ 5 أَفَلَمْ يَنظُرُوا إلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ 6 وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ 7 تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ 8 وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُّبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْـحَصِيدِ 9 وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَّهَا طَلْعٌ نَّضِيدٌ 10 رِزْقًا لِّلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتًا كَذَلِكَ الْـخُرُوجُ 11 كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ 12 وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإخْوَانُ لُوطٍ 13 وَأَصْحَابُ الأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ 14 أَفَعَيِينَا بِالْـخَلْقِ الأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِّنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ} [ق: ١ - 15]. 5 - ولما انحـرف اليهـود والنصارى في تصوُّرهم عن اللـه وقـدرتـه، ردَّ عليهـم أفكـاراً كثيـرة، كمـا فـي قـوله - تعالى -: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ} [ق: 38]؛ ردّاً على اليهود الذين زعموا أن الله – سبحانه وتعالى - استراح في اليوم السابع. وعندما زعموا أنهم أبناء الله وأحبَّاؤه، أو أنهم شعب الله المختار، ردَّ عليهم بقوله: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم بَلْ أَنتُم بَشَرٌ مِّمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِـمَن يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإلَيْهِ الْـمَصِيرُ} [المائدة: 18]. المنهج الإرادي العملي: الإرادة البشرية مخاطَبة في الإسلام منذ اللحظة الأُولَى التي يتعرض فيها الإنسان للإنذار ثم لعوامل تصديق الرسول. واستجابة الإرادة لهذا الخطاب هي (التسليم) أو الاستسلام: {أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإلَيْهِ يُرْجَعُونَ} [آل عمران: 83]. وفي هذا يقول الإمام أبو جعفر الطحاوي – رحمه الله -: (ولا يثبتُ قدَمُ الإسـلام إلا على ظهر التسـليم والاسـتسـلام؛ فمن رام عِلْم ما حُظِر عنه عِلمُه، ولم يقنع بالتسليم فَهْمُه، حَجَبَه مرامُه عن خالصِ التوحيد وصافي المعرفة وصحيحِ الإيمان، فيتذبذبُ بين الكفر والإيمان والتصديق والتكذيب والإقرار والإنكار؛ موسوساً تائهاً شاكّاً زائفاً؛ لا مؤمناً مصدِّقاً ولا جاحداً مكذِّباً)[6]. ويقول الإمام العلاَّمة ابنُ السَّمْعَانِي – رحمه الله -: (الأصلُ في الدِّين الاتِّباعُ؛ والعقولُ تبعٌ؛ ولو كان الدين بُني على المعقول وجب ألَّا يجوز للمؤمنين أن يقبلوا أشياء حتى يعقلوا. ونحن تدبَّرنا عــامة ما جاء في أمر الدِّين: من ذكر صفات الله - عزَّ وجلَّ - وما تعبَّد الناس من اعتقاده؛ وكذلك ما ظهر من بين المسلمين وتداولوه بينهم وتناقلوه عن سلفهم إلى أن أسندوه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: من ذكر عذاب القبر وسؤال الملَكين... أمور لا تُدرَك حقائقُها بعقولنا، وإنما ورد الأمر بقَبولها والإيمان بها؛ فإذا سمعنا شيئاً من أمور الدِّين و عَقَلناه وفهمناه، فللَّه الحمد في ذلك والشكر ومنه التوفيق، وما لم يمكننا إدراكه وفهمه ولم تبلُغْه عقولُنا آمنَّا به وصدَّقنا واعتقدنا أنَّ هذا من ربوبيَّته، تعالى)[7]. مجالات المنهج الإرادي العملي: وهنا نذكر بعض الآيات التي تتوجه إلى إرادة الإنسان مباشرة تقتضي منها التسليم، وهي على وجه خاص، الآيات الكريمة التي جاءت في صيغة التقرير: 1 - ففي مجال الإلهيَّـات يقــول اللـه - تعـالى -: {فَإنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُل لِّلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالأُمِّيِّينَ ءَأَسْلَمْتُمْ فَإنْ أَسْلَمُواْ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَّإن تَوَلَّوْا فَإنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} [آل عمران: 20]. 2 - وفي مجال النبوات يقول الله - تعالى -: {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْـمُرْسَلِينَ إلاَّ إنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا 20 وَقَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْـمَلائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا 21 يَوْمَ يَرَوْنَ الْـمَلائِكَةَ لا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِّلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَّحْجُورًا 22 وَقَدِمْنَا إلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَّنثُورًا} [الفرقان: 20 - 23]. 3 - وفي مجـال السمعيات يقول الله - سبحانه وتعالى -: {اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا} [الإسراء: 14]. وهذه الآية الكريمة وما سبقها قد جاءت في صياغة تقريرية موجَّهة للإرادةِ للتسليم[8]. منهج تثبيت العقيدة والتذكير بالله: وإذا كانت المناهج السابقة مسالك لبيان العقيدة، فإنها بعد وجودها وبيانها تحتاج إلى أن نتعاهدها، وأن نعمل دائماً على تثبيتها في النفس، فيكون لها الأثر الفاعل في نفس صاحبها؛ فلذلك نجد في القرآن الكريم و في السُّنة النبوية وسائلَ لتثبيت الإيمان في النفس البشرية، منها: التذكير الدائم بعظمة الله - تعالى - وآيات قدرته في الآفاق وفي النفس؛ حتى يخشع القلب ويستسلم: والتذكير بأن الله مع الإنسان يراه ويراقبه ويحصي عليه أعماله؛ ثم يحاسبه عليها يوم القيامة حتى تصبح تقوى الله جزءاً لا يتجزأ من مشاعر القلب، وركيزة ثابتة في حالة السرَّاء والضرَّاء؛ ففي السراء يذكر الله شاكراً لأنعمه، وفي الضراء يذكر الله صابراً ومتطلعاً إليه - سبحانه - ليكشف عنه السوء. ويورد القرآن القصص التي تثبِّت الإيمان ومنها: قصص الأنبياء وأتباعهم من المؤمنين الذين صبروا على الأذى حتى جاء نصر الله، وقصص الكفار الذين كذبوا وعاندوا حتى دمر الله - تعالى - عليهم بكفرهم. وأخيراً يرسم القرآن صوراً محبَّبَة للمؤمنين وصفاتهم، وما ينتظرهم من الجزاء في الآخرة مخلَّدين في الجنات، وصوراً كريهة منفِّرة للكافرين وصفاتهم وما ينتظرهم من الجزاء في الآخرة مخلَّدين في النار وما ينالهم فيها من العذاب يوم القيامة. ويظل القرآن يكرر هذه التوجيهات حتى ترسخ في النفس، وحتى يصبح الله حاضراً في القلب لا يغفل الإنسان عن ذكره؛ فتستقيم مشاعره، ويستقيم سلوكه، ويصبح عبداً ربانياً مقرَّباً إلى الله في الدنيا والآخرة؛ فيرزقه الله الطمأنينة والسعادة في الدنيا، ويمنحه في الآخرة جنته ورضوانه. الخاتمة: بعد هذه اللمحات السريعة، يَحسُن أن نختم هذه المقالة بكلمات عن مميزات المنهج القرآني في عرض العقيدة الإسلامية، ثم نعقب بأهم النتائج: 1 - إن هذا المنهج يتميز: أولاً: بكونه يعرض (الحقيقة) كما هي في عالم الواقع، بالأسلوب الذي يكشف كل زواياها وكل جوانبها وكل ارتباطاتها، وكل مقتضياتها، وهو مع هذا الشمول لا يعقِّد هذه الحقيقة ولا يلفُّها بالضباب، بل يخاطب بها الكينونة البشرية في كل مستوياتها. وثانياً: بكونه مبرأً من الانقطاع والتمزق الملحوظَين في الدراسات (العلمية) والتأملات (الفلسفية)؛ فهو لا يُفرِد كل جانب من جوانب الكل الجميل المتناسق بحديث مستقل كما تصنع أساليب الأداء البشرية؛ وإنما هو يعرض هذه الجوانب في سياق موصول، يستحيل مجاراته أو تقليده. وثالثاً: بكونه - مع تماسك جوانب الحقيقة وتناسقها - يحافظ تمـاماً علـى إعطـاء كلِّ جـانب من جوانبها مساحتَه، التي تساوي وزنه الحقيقي في ميزان الله؛ وهو الميزان، كما أنَّ هذه الحقائق لا يطغى بعضها على بعض في التصور الإسلامي. ورابعاً: بتلك الحيوية الدافقة الموحية، مع الدقة والتقرير والتحديد الحاسم؛ وهي تمنح هذه الحقائق حيوية وإيقاعاً وروعة وجمالاً لا يتسامى إليها المنهج البشري في العرض ولا الأسلوب البشري في التعبير. ثم هي في الوقت ذاته تُعرَض في دقة عجيبة، وتحديد حاسم؛ ومع ذلك لا تجور الدقة على الحيوية والجمال، ولا يجور التحديد على الإيقاع والروعة[9]. 2 - إن القرآن الكريم ومعه السُّنة النبوية هو مصدر هذه العقيدة الذي يتفق مع الفطرة والعقل: وفيه الغَنَاء والكفاية، وهو الهداية والنور، وهو في الوقت ذاته سبب الهداية إلى أقوم طريق في العقيدة والعبادة والأخلاق والتشريع، ولا يجوز أن نحمله على الآراء والمقررات البشرية القابلة للصواب والخطأ، بل ينبغي أن يكون هو المهيمن عليها المصحح لأخطائها والمقوِّم لمنهجها، ويكون فهمه وتفسيره قائماً على مناهج فهم النصوص في اللغة التي نزل بها مع البيان المعصوم من النبي صلى الله عليه وسلم. 3 - ويَحسُن في هذا المقام التأكيد على: وجوب دراسة مباحث العقيدة والإيمان وما يتصل بها دراسة موضوعية من القرآن الكريم وأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، بطريقة تتناسب مع المخاطَبِين في هذا العصر من حيث طريقتُهم في التفكير وأسلوبهم في التعبير، مع المحافظة على المفاهيم الإسلامية، دون انتقاص أو تحريف. ولذلك ينبغي أن نشير أيضاً إلى القضايا الفكرية والعقدية التي تطفو على الساحة اليوم، ومن ثَمَّ دراستها بأسلوب يتفق مع روح العصر، ويستفيد من مقررات العلوم القطعية ونتائجها، دون مجافاة لروح النصوص الشرعية الصريحة الصحيحة؛ إذ إن صحيح المنقول يتفق مع صريح المعقول. ولعل هذا المقام يتسع لتوصية أخرى تتصل بالاهتمام بالتراث الإسلامي الذي خلَّفه لنا علماء السلف - رحمهم الله تعالى - في باب العقيدة والإيمان، مما كتبوه تحت عنوان: (الفقه الأكبر) أو (الشريعة) أو (العقيدة) أو (التوحيد) قبل أن يتأثر هذا العلم بالمؤثرات الأجنبية التي أثَّرت في (علم الكلام). والحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا ونبيِّنا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين. [1] انظر العقيدة في القرآن الكريم، محمد المبارك: (ص81). [3] انظر: النبوات، لابن تيمية: (ص48). [4] انظر: تفسير الفخر الرازي : 10/202 . [5] انظر: عقيدتنا وصِلَتُها بالكون، د. طه الدسوقي: (ص110 - 113). [6] انظر: العقيدة الطحاوية بيان السُّنة، للطحاوي: (ص82). [7] انظر: صون المنطق والكلام، للسيوطي: (ص182). [8] هذه الفقرة مقتبسة من (مداخل إلى العقيدة الإسلامية)، د. يحيى هاشم فرغل: (ص118) وما بعدها. [9] انظر: تفصيل ذلك في كتاب: مقومات التصور الإسلامي: (ص65 / 68). معنى العقيدة لغة واصطلاحاً : إذا رجعنا إلى قواميس اللغة نجد أن كلمة ( عقيدة ) أُخذت من مادة عَقَدَ وأن مَدَار عقيدة في اللغة على اللزوم والتأكد والاستيثاق والعزم المؤكّد والنية وما يَدينُ به الإنسان وعقَدَ الحبلَ شدَّ بعضه ببعض وكقول العرب اعتقد الشيء بمعنى صلُب وقوي واشتـد لسان العرب لابن منظور وتهذيبه, مادة عَقَدَ وأما مفهومها في الاصطلاح فهو ما تعارف عليه أهل فن معيّن من الألفاظ والتراكيب في التعبير عن حقائق ذلك العلم إذ كلّ علم له مُصطلحـاته الخاصة به تُعدّ جزءاً من منهجه, والمصطلحات تكون صحيحة وتكون فاسدة فالصحيحة مـا ورد في الكتاب والسنة وأقوال السلف استعمالها أو لم تَرِدْ ولكنها دلت على معنى صحيح, مثال ما دل عليه الكتاب والسنة لفظ: الإيمان والإحسان والظلم والعدل ومثال ما دل على معنى صحيح كلفظ الذات والوجود والأزل. والفاسدة هي الألفاظ التي لم ترد في الكتاب ولا في السنة ولا في قول السلف أو وردت ولكنها استُعمِلَت في غير ما سيقت له كلفظ: العدل، إذا استعمل في تخليد مرتكب الكبيرة, والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إذا استعمل في الخروج على أئمة العدل من المسلمين وقال بعضهم معنى العقيدة في الاصطلاح هو: ( العلم بالأحكام العلمية المكتسب من الأدلة اليقينية وَرَدّ الشبهات وقوادِح الأدلة الخلافية ) وبعبارة أخرى هي الأمور التي تصدّق بها النفوس وتطمئن إليها القلوب وهي الأمور العلمية الخبرية التي تضمّنَها حديث جبريل المشهور عن عمرَ بن الخطاب رضي الله عنه وفيه سؤال جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم عن الإسلام والإيمان والإحسان فأجاب عن الإيمان بقوله: ( أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره ) وفي آخِر الحديث قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم ) كما في بعض ألفاظه ويستفاد من حديث جبريل أن الدين ثلاث مراتب: الإسلام والإيمان والإحسان وهو أعلاها وأن الدين عقيدة وشريعة, وأن العقيدة هي الأساس للشريعة وأن العقيدة كجذور الشجرة وساقها وأغصانها والعملُ كثمارِها والعمل يحتاج إلى إخلاصٍ لله وحده ومتابعةٍ لهدْي الرسول صلى الله عليه وسلم وإذا فُقِدَ هذان الشرطان أو أحدُهما لم يُقبل العمل وأنّ شرف كل علم يُقدّر بشرفِ موضوعه ومجال بحثه. فإذا كان الطب أشرف من النجارة فإنما ذلك لأن ميدان بحث النجارة: الأخشاب وميدان بحث علم الطب: الأجسام البشرية. أما شرف العقيدة فيُستمدّ من شرف مجالات بحثه وهل هناك ما هو أعظم من خالق الكون وهل هناك مَن هو أطهرُ من رسل الله من بني البشر وهل هناك ما هو أهم من معرفة الإنسان بربه وخالقه والحكمة من وجوده في الدنيا ولماذا خلقه الله عليها. وهل تَعلُّم هذا العلم فرض عين أم فرض كفاية قال بعض أهل العلم إن تعلّم علم العقيدة فرضُ عين على كل مسلم ومسلمة بحيث يتوافر الاقتناع القلبي والعقلي لدى المسلم أنه على الدين الحق وأما ما زاد على ذلك فهو فرض كفاية إذا قام به البعض سقط عن الباقين. قال تعالى { فاعلم أنه لا إله إلا الله } سورة محمد 19, وقال البخاري : باب العلم قبل القول والعمل, صحيح البخاري, كتاب العلم, باب : رقم 10 أهمية العقيدة : اعلم أن العقيدة هي أساس الدين الإسلامي فمن أجلها أُرسلت الرّسُل وأُنزلت الكتب ومِن أجلها تُنصَب الموازين وتُنشَر الدواوين، ومن أجلها خُلِقت الجنة والنار، والجِنّ والإنس ومن أجلها جُرّدَت السيوف لإزاحة العقبات في سبيل الدعوة إليها. ومن أجلها افترق الناس إلى فريقين فريق في الجنة وفريق في السعير ومن أجلها نَتَجَتِ الموالاة والمعاداة بين الناس حتى بين الآباء والأبناء والإخوة والعشيرة فذاك أبو عبيدة عامر بن الجراح قَتلَ أباه يومَ بدر لأنه كان من المعاندين المحادّين لله ورسوله فأنزل الله عز وجل { لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم والآخر يوادّون مَن حادّ الله ورسوله ولو كانوا آباءَهم أو أبناءَهم أو إخوانهم أو عشيرتهم أولئك كَتبَ في قلوبهم الإيمان وأيّدهم بروحٍ منه ويُدخِلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خـالدين فيهـا رضي الله عنهـم ورضوا عنـه أولئك حزب الله ألا إن حزب الله هم المـفلحون } سورة المجادلة 22 ومن أجلها..ومن أجلها ثم إنه لا صلاح للعباد ولا فلاح ولا نجاح ولا حياةَ طيبةً ولا سعادةَ في الدارين ولا نجاة مِن خزي الدنيا وعذابِ الآخرة إلا بمعرفة أوّل مَفروض عليهم والعلم به وهو الأمر الذي خَلَقهم الله له، وأخَذَ عليهم الميثاق به وأرسل به رسله إليهم وأنزل به كُتبه عليهم ولأجله خُلِقت الدنيا والآخرة والجنة والنار، وبه حَقّت الحاقة ووقعت الواقعة وفي شأنه تُنصَب الموازين وتتطاير الصحف وفيه تكون الشقاوة والسعادة وعلى حسب ذلك تُقسَّم الأنوار ومن يجعل الله له نورا فماله من نور. وذلك الأمر هو معرفة الله عز وجل بإلهيتهوربوبيته وأسمائه وصفاته وتوحيده بذلك ومعرفة ما يناقضه أو بعضه من الشرك والتعطيل والتشبيه واجتناب ذلك. والإيمان بملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر خيره وشره وتوحيد الطريق إلى الله عز وجل بمتابعة كتابه ورسوله والعمل على وفق ما شرعه الله عز وجل ورسوله ومعرفة ما يناقضها من البدع المضلّة فإن الله تعالى أنزل كتابه تبيانـاً لكل شيء فقال { مـا فرّطنـا في الكتاب من شـيء } سورة الأنعام37 وقال { ونزلنا عليك الكتاب تِبياناً لكل شيء } سورة النحل 89 وقال تعالى { ما كان حديثاً يُفترى ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كلّ شيء وهدى ورحمة لقوم يؤمنون } سورة يوسف 111 وقال تعالى { يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يُبين لكم كثيراً مما كنتم تخفون من الكتاب ويعفوا عن كثير قد جاءكم من الله نورٌ وكتاب مبين، يهدي به الله من اتبع رضوانه سُبُل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم } سورة المائدة 15-16 . ولا شفاء للقلوب والأرواح ولا حياة لهـا إلا بطاعة الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم والاستجابة لله تعالى ولرسوله قال تعالى: { يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله ورسوله ولا تولوا عنه وأنتم تسمعون، ولا تكونوا كالذين قالوا سمعنا وهم لا يسمعون، إن شرّ الدواب عند الله الصمّ البُكمُ الذين لا يعقلون، ولو عَلِم الله فيهم خيراً لأسمعهم ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون، يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحيكم }سورة الأنفال 20- 23 ولم يُنجّ الله تعالى مِن عذابه ولم يَكتب رحمته إلاّ لمن اتبع كتابه ورسوله كما قال تعالى: { .. عذابي أُصيب به من أشاء ورحمتي وَسِعَت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون }، {الذين يتبعون الرسول النبيّ الأمّيّ الذي يجدونه مَكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرّم عليهم الخبائث ويَضَع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم فالذين آمنوا به وعزّروه ونصروه واتبعوا النور الذي أُنزل معه أولئك هم المفلحون } سورة الأعراف 156- 157 ، ثم إن العقيدة ضرورية للبشر ضرورة الماء والهواء للإنسان فإنه بدون عقيدة صحيحة ضائع تائه يفقد ذاته ووجوده بل يكون حيراناً في دوامة التساؤلات التي شَغلَت ، ولا تزال تشغل الفكر الإنساني من أين جاء ؟ ومن أين جاء هذا الكون ؟ مَن الموجد, ما صفاته ! ما أسماؤه ! لماذا أوجَدَنا وأوجَدَ الكون ما علاقتنا بالخالق وهل هناك عوالِم غير مشهودة ؟ وهل بعد هذه الحياة من حياة أخرى نصير إليها وكيف تكون تلك الحياة ؟ العقيدة الإسلامية هي التي تجيب عن هذه التساؤلات ومن لم يعرفها فإن حاله حال الشاعر الحيران القائل: هو إيليا أبو ماضي, نصراني جئت لا أعلم من أين ولكني أتيت ولقد أبصرت قُدّامي طريقاً فمشيت وسأبقى سائراً إن شئتُ هذا أم أَبيت كيف جئت كيف أبصرت طريقي لست أدري ؟ وفرقٌ بين من يدري ومن لا يدري { أفمن يمشي مُكباً على وجهه أهدى أمّن يمشي سويا على صراط مستقيم } سورة الملك ونعني بالعقيدة العقيدة الصحيحة وإلا فإن الاعتقاد بوجود إله مسألة فطرية واتجاه الفطرة البشرية إلى خالقها بلون من ألوان العبادة مسألة فطرية لكن تحتاج إلى رسول يبين ذلك لأن الفطرة إذا تركت وشأنها ـ كثيراً ما تضل فتتصور الله عز وجل على غير حقيقته فتجيء الرسل ليردوا الفطرة إلى سلامتها ويعطوها الدين القيّم على حقيقته الربانية { فِطرتَ الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لايعلمون} سورة الروم 30 وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة مرفوعاً ( كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يُهوِّدانِه أو ينصِّرانه أو يمجِّسانه) متفق عليه , البخاري, كتاب القدر, باب : الله أعلم بما كانوا عاملين ج7 ص210, مسلم ,كتاب القدر, باب كل مولود وفي لفظ ( ما من مولود إلا يولد على الفطرة ) والحديث القدسي الذي رواه مسلم في صحيحه ( وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم فاجتالتهم الشياطين عن دينهم ) مسلم, طرف من حديث رواه مسلم, كتاب الجنة باب الصفات ... ج4 ص2197 لمحة موجزة عن الوضع الديني والاجتماعي والسياسي في الجزيرة العربية بوجه خاص وفي العالم بوجه عام لإظهار مدى حاجة الناس إلى رسول في تلك الفترة : أولاً : الوضع الديني في الجزيرة العربية : الوثنية :العرب كغيرهم قد ضلوا الطريق السوي وعَمُوا عن الحق بعد أن زَحَف ظلام الوثنية فملئ البقاع ، وقد بلغ بهم الحمق إلى أن عبدوا الحجارة والأوثان والأنصاب واستقسموابالأزلام ما عدا الحنفاء القلائل ـ حتى كان بعضهم يصنع لنفسه صنماً من التمر والحلوى فإذا جاع أكله ومنهم من اتخذ بيتاً ومن لم يقدر على ذلك نَصَب حجراً أمام الحرم أو غيره مما استحسن ثم طاف به كطوافه بالبيت وسمّوها الأنصاب فإذا كانت تماثيل دعوها الأنصاب والأوثان وسموا طوافهم الدوار وكان الرجل إذا سافر فنـزل منـزلاً أخذ أربعة أحجار فنظر إلى أحسنها فاتخذه معبوداً وجعل ثلاثة أثـافي لِقِدْرِه وإذا ارتحل تركه . فإذا نزل منزلا آخر فَعَل مثل ذلك وإذا لم يجد حجراً جمع حَثْيةً من التراب وحَلَبَ عليها شاته ثم طاف بها واتخذت قريش إسافاً ونائلة على موضع زمزم ينحرون عندهما وكان إساف ونائلة رجلاً وامرأة من جُرهم فوقع إساف على نائلة في الكعبة فمسخهما الله حَجَرين واتخذ أهل كل دار في دارهم صنماً يعبدونه فإذا أراد أحدهم سفراً تمسّح به حين يَركب فكان ذلك آخر ما يصنع حين يتوجه إلى سفره وإذا قَدِمَ مِن سَفرِه تمسّح به فكان ذلك أول مايبدأ به قبل أن يَدخل على أهله وقد كثرت الأصنام إلى أن بلغ الأمر بالعرب في جزيرتهم أن استقلت كل قبيلة بصنم خاص تتعصب له وتُدافع عنه وتحميه وتفتخر به كقول أبي سفيان يوم أحد : ( أُعلُ هُبَل ) مرتين وكقوله أيضا : ( لنا العُزى ولا عزّى لكم ) فأُجيبَ عن الأولى بـ : ( الله أعلا وأجل ) وعن الثانية : ( الله مولانا والكافرون لامولى لهم ) وأول من جاء بالأصنام إلى الجزيرة العربية وعَبَدها ودعا الناس إلى عبادتها ( عمرو بن لُحي الخزاعي ) وهو أول من سيّبالسوائب وقد رآه النبي صلى الله عليه وسلم يجر قَصَبَه في النار كما في صحيح البخاري ج3 ص136 ط الحلبي وقد ذكر الحافظ ابن حجر قصته في الفتح مطولة ج6 ص 547 – 549 . وكانت لقريش ستون وثلاثمائة صنم في جوف الكعبة وحولها وكان أعظمها هُبَل وكان مِن عقيقٍ أحمر على صورة الإنسان مكسورَ اليد اليمنى أدركته قريش وهو كذلك فجعلوا له يداً من ذهب وكان يُقال له هُبل خزيمة ويُقال إنه قَدِم به عمرو بن لحُي من هيب ـ أو هيت وكان من أعظم أصنام قريش فنَصَبه في بطن الكعبة فكان الرجل إذا قدم بدأ به على أهله - بعد طوافه بالبيت - وحَلَق رأسه عنده .المفصّل في تاريخ العرب قبل الإسلام لجواد علي ج6 ص 28 وما بعدها السيرة النبوية ابن هاشم ج1 ص82 - 83 صحيح البخاري, تفسير سورة نوح لقد ساءت أخلاق العرب فأولعوا بالخمر والقِمار وبلغت بـهم الحميّة والقسوة إلى وأد البنات وسقَطَت منـزلة المرأة فكانت تُورَث كما يُورَث المتاع أو الدابة حتى جاء الإسلام ووضعها في المنـزلة اللائقة بها, وكان من المأكولات ما هو حلال للذكور وحرام على الإناث ومنهم من كان يقتل أولاده خشية الإملاق وكانت الدعارة في صورٍ شتى من معالم هذا المجتمع كما روت عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها : أن النكاح كان في الجاهلية على أربعة أنحاء : كما في صحيح البخاريالبخاري بحاشية السندي ج3 ص243 سنن أبي داود بعون المعبود بشرح ابن القيم ج6 ص 263 1- نكاحٌ منها كنكاح الناس اليوم . 2- كان الرجل يقول لامرأته إذا طَهُرَت مِن طمثِها أرسِلي إلى فلان فـاستبضعي منه ويعتزلُها زوجُها ولا يمسّها أبداً حتى يتبين حملُها من ذلك الرجل فإذا تبيّن حملُها أصابها زوجها إن شاء وإنما يفعل ذلك رغبةً في نجابة الولد . 3- ونكاحٌ آخر : يجتمع الرهط ما دون العشرة فيدخلون على المرأة كلهم يصيبها فإذا حملت ووضعت ومرّ عليها ليالي بعد أن تضعَ حملَها أرسلت إليهم, فلم يستطع رجل منهم أن يمتنع حتى يجتمعوا عندها تقول لهم قد عرفتم الذي كان من أمركم وقد ولدتُ فهو ابنكَ يا فلان, تُسمّي من أحبّت باسمه فيلحق به ولدها لا يستطيع أن يمتنع . 4- ونكاحٌ رابع يجتمع الناس الكثير فيدخلون على المرأة لا تمتنع ممن جاءها وهنّ البغايا كُنّ ينصبن على أبوابهن رايات تكون عَلَماً فمن أرادهن دخل عليهن ، فإذا حَمَلَت إحداهن ووضعت حملها جمعوا لها ودَعَوا لها القافة ثم ألحقوا ولدها بالذي يرون فالتاط به ودُعي ابنَه لا يمتنع مِن ذلك فلما بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم بالحق هدم نكاح الجاهلية كله إلاّ نكاح الناس اليوم وكان الرجال يطوفون بالكعبة عُراة ، وكانت المرأة تضع ثيابها كلها إلاّ درعاً مفرجا ثم تطوف فيه وتقول : اليوم يبدو بعضه أوكله فما بدا منه فلا أحلّه . فنـزل قول الله تعالى : { يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد } وقال صلى الله عليــه وســلم : ( لا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان ) مسلم ج4 كتاب التفسير بابقوله تعالى : { خذوا زينتكم عند كل مسجد }ص2320 - البخاري مع فتح الباري ج8, كتاب التفسير باب : ( فسيحوا في الأرض ... ) والباب الذي بعده ص317 - وما بعدها الوضع السياسي : للعرب فضائل كالشجاعة والكرم والوفاء ولكن كان الوضع السياسي في الجزيرة العربية وفي سائر العالم كبِناءٍ أصيب بزلزال شديد هزّه هزاً عنيفاً فإذا كل شيء في غيرِ محلّه فمِن أساسه ومتاعه ما تكسّر، ومنه ما انعطف، ومنه ما فارق محلّه اللائق به وشَغَل مكاناً آخر ومنه ما تكسر وتكوّم . كان الأمم قطعاناً من الغنم ليس لها راعٍ ، والسياسة كجملٍ هائج حبله على غاربه ، والسلطان كسيفٍ في يدِ سكران يجرح به نفسه وأولاده وإخوانه ومَن حوله وكان التظالم فاشياً في المجتمع الجاهلي تُعبر عنه حكمة الشاعر زهير بن أبي سُلمى : ومن لا يَذُدْ عن حوضه بسلاحه يُهدّم ومن لا يَظلم الناس يُظلم وكانت الحروب تستمر عشرات السنين لأتفه الأسباب كداحس والغبراء والبسوس تاريخ الإسلام لحسن إبراهيم , جواهر الأدب لأحمد الهاشمي مقارنة جعفر بن أبي طالب بين الجاهلية والإسلام : قال جعفر مجيباً للنجاشي ـ أثناء هجرته إلى الحبشة في جواره ـ حينما سأله عما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : ( أيها الملك كنا قوما أهل جاهلية نعبدُ الأصنام ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام ونُسيء الجوار ويأكل القوي منا الضعيف ، فكنّا على ذلك حتى بعثَ الله رسولاً منا نعرف نَسَبَه وصِدقه وأمانته وعَفافه فدعانا إلى الله لنوحّده ونعبده ، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا مِن دونه من الحجارة والأوثان وأمَرَنا بصدق الحديث وأداء الأمانة وصِلةِ الرَّحِم وحُسنِ الجِوار والكفّ عن المحارم والدّماء ونهانا عن الفواحش وقولِ الزور، وأكلِ مال اليتيم وقذفِ المحصنات وأمرَنا أن نعبد الله وحده لا نشرك به شيئاً وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام فصدقناه وآمنا به واتبعناه على ماجاء به من ربه . السيرة النبوية ابن هشام ج1 ص336 مصطفى الحلبي مسند أحمد رقم 1740 كما في فقه السيرة للغزالي وصححه الألباني، وذِكرُ الصيام هنا هل المراد به مطلق صيام أو صيام يوم عاشوراء كما هو ثابت في الصحيحين عن عائشة أن قريشا كانت تصومه في الجاهلية وكان رسول صلى الله عليه وسلم يصومه, كما في البخاري ج1 ص341 ومسلم ج3 ص146 أما القول بأنه صوم رمضان فغير محتمل لأنه فُرض في السنة الثانية من الهجرة كما في سبل السلام للصنعاني ج2 ص150 ولِما في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة صام يوم عاشوراء وأمر بصيامه فلما فُرض رمضان ترك يوم عاشوراء فمن شاء صامه ومن شاء تركه ترسيخ العقيدة في العهد المكي : ظل القرآن المكي ينـزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة عشر عاماً ـ يحدّثه فيها عن قضيةٍ واحدة ولكن بأسلوب يَدَعُها في كل عرضٍ جديدة . لقد كان يعالج القضية الأساسية الكبرى في هذه الدعوة الخالدة ألا وهي قضية العقيدة ممثلةً في قاعدتها الأساسية الألوهية والعبودية ومابينهما من علاقة . لقد كان يخاطب بذلك الإنسان بما أنه إنسان يستوي فيه عربيُّ ذلك الزمان وعربيّ كلِّ زمان كما يستوي العربي وكل إنسان في ذلك الزمان وفي كل زمان . قضية لا تتغير : لأنها قضيةُ وجودِه ومصيره وعلاقته بهذا الكون وعلاقته بخالقه لقد كان القرآن المكي يُفسِّر للإنسان سرّ وجوده إشارة إلى قوله تعالى : {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون } آية 26 سورة الذارياتيوضحها قوله تعالى : { قل إن صلاتي ونُسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك لهوبذلك أُمرت} الآية 162 من سورة الأنعام ووجود هذا الكون من حوله كان يقول له من هو ومن أين جاء ؟ ولماذا جاء ؟ أين يذهب في نهاية المطاف ؟ من الذي جاء به من العدم والمجهول ومَن الذي يذهب به وما مصيره هناك ؟ وكان يقول له ما هذا الوجود الذي يُحسّه ويراه ويحسّ أن وراءه غيباً يستشرفه استشرفت الشيء رَفعْتُ بصري إليه . 1هـ . المصباح ج1 ص132 ولا يراه , مَن أنشأ هذا الوجود المليء بالأسرار ؟ من ذا يُدبّره ويجدد فيه ويغير؟ وكان يقول له كيف يتعامل مع خالق هذا الكون ومع الكون أيضا كما يبين له كيف يتعامل مع العباد ؟ ولكن الجاهليات تفسد حياتها حين لا تجد الإجابة الصحيحة عن هذه التساؤلات فتضرب في التيه كما يقول شاعر جاهلي معاصر: جئت لا أعلم من أين ولكني أتيت ولقد أبصرتُ قدامى طريقاً فمشيت وحينئذ تدركها الحيــرة والضيـاع مستفاد من محاضرات أثناء الطلب في مرحلة الدراسات العليا بجامعة أم القرى هذه هي القضية الكبرى التي يقوم عليها وجود الإنسان على توالي الأزمان ولم يتجاوزها القرآن المكي إلى شيء من التفريعات المتعلقة بنظام الحياة إلا بعد أن علم الله أنها استوفت ما تستحقه من البيان واستقرت استقراراً مكيناً ثابتاً في قلوب العصبة المختارة من بني الإنسان التي قدّر الله عز وجل أن يقوم هذا الدين عليها. هذا ومما ينبغي للدعاة اليوم أن يقفوا طويلاً أمام هذا المنهج المكي لينهجوا نهجه حتى إذا ما رسخت العقيدة وامتدت جذورها وتشابكت أغصانها وآتت ثمارها حلوة طرية تحولت وبرزت إلى عالم الواقع لقد شاءت حكمة الله عز وجل أن تكون قضية العقيدة هي الأولى التي تتصدى لهـا الدعوة منذ اليوم الأول للرسالة وأن يبدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم أُولى خطواته بدعوة الناس إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله محمد رسول الله وأن يمضى في دعوته يُعرِّف الناس بربهم ومعبودهم الحق دون سواه, ولما عرف الناس ربهم وحده لا شريك له وتحرر الناس من سلطان العبيد ومن سلطان الشهوات وتقررت في القلوب ( لا إله إلا الله ) صنع الله بها وبأهلها ما شفى الله به صدور المؤمنين وأذهب به غيظهم وقرّت به أعينهم ولله الحمد والمنة وكذلك القرآن المدني لم يكتفِ بالتشريعات فحسب بل إنه يتخللها بتذكير المؤمنين بالعقيدة من حين لآخر من ذلك قوله تعالى : { يـا أيها الذين آمَنوا ، آمِنوا بالله ورسوله والكتاب الذي نزّل على رسوله والكتاب الذي أنزل من قبل ومن يَكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر فقد ضلّ ضلالاً بعيدًا } سورة النساء : 136 وهي مدنية الحكمة من ترسيخ العقيدة في العهد المكي : لما علم الله عز وجلّ أن العقيدة استوفت ما تستحقه من البيان واستقرت استقراراً متيناًَ ثابتاً في قلوب العُصبة المختارة من بَنِي الإنسان التي قدّر الله عزّ وجل أن يقوم هذا الدين على كواهلها لمّا رَسَخت العقيدة المشتملة على أركان الإيمان الستة الواردة في حديث جبريل المشهور عن عمر بن الخطاب الذي رواه الإمام مسلم في صحيحه وفيه إجابة النبي صلى الله عليه وسلم لجبريل عليه السلام لما سأله عن الإيمان فقال صلى الله عليه وسلم : ( أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشرّه ) لما آمنوا بالله رباً خالقاً قادراً محيياً مميتاً مدبِّراً متصرِّفاً في الكون وحده لا شريك له وصَرَفوا العبادة الخالصة لمن هذه صفاته وآمنوا بأن لله عزّ وجلّ ملائكةً موجودين يسجلون أعمالهم وصدّقوا بالبعث والنشور والحساب والميزان وبالقيامة وأهوالها والجنة ونعيمها والنار وعذابها وأنه سيجازى كلٌ بما عمِل إن خيراً فخير وإن شراً فَشَر والآيات والأحاديث الدالة على ذلك كثيرة من ذلك قول الله تعالى{ فَمَن يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره } سورة الزلزلة آية 7 - 8 وقوله { ومن يُطِع الله ورسوله يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك الفوز العظيم ، ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله ناراً خالداً فيها وله عذاب مهين } سورة النساء : 13- 14 وقوله { من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياةً طيبة ولنجزينّهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون } سورة النحل 97 لما كان الأمر كذلك تلقت النفوسُ الأوامرَ والنواهي بالقبول لا تعترض على شيء منها فورَ صدورها . منهج القرآن في الدعوة إلى العقيدة ( الإيمان ) : اعلم أن منهج القرآن الكريم يخاطب في قضية العقيدة ـ مجموعَ الإنسان كلّه لا عقلَه وحدَه ، ولا وجدانه وحدَه ويخاطبه في جميع حالاته حيّ الوجدان ومتبَلِّدَ الحِس ، مُنفتِحَ البصيرة ومُغلَقَها مُستثاراً وهادئـاً، مُتطلِّعاً وخائفاً ضاحكاً باكياً مستقيما ً على أمر الله سبحانه ـ وجانحاً عن السبيل كما أنه ـ وهو يخاطبه ـ يُحيط به من كلِّ جانب ، ويَدخل من كل أقطار نفسه ، من صفحة الكون المعروضة أمامَه, من الأحداث الجارية حوله من نفسه وما يجري فيها من مشاهد الدنيا ومشاهد الآخرة ، مما تدركه الحواس ومما لا تدركه . كما يواجهه بحقيقة نفسه عاجزاً ضعيفاً مُقِراً بعجزه في ساعةِ الكرب ملتجئاً إلى الله عز وجل ساعةَ الشدّة مستكبراً طاغياً حين تنتهي وتمرّ ويظن أنه استغنى عن الله { وإذا مسّ الإنسان الضر دعانا لجنبه أو قاعداً أو قائماً فلما كشفنا عنه ضُرّه مرّ كأن لم يَدعُنا إلى ضُرِ مسّـه كذلك زُيّن للمسرفين ما كانوا يعملون } سورة يونس 12 { وإذا أنعمنا على الإنسان أعرض ونئا بجانبه وإذا مَسّه الشرّ فذو دعاء عريض } سورة فصلت 51 { كلا إن الإنسان ليطغى أن رآه استـغنى } سورة العلق 6- 7 وبهذه المواجهة الدائمة الشاملة المحيطة يظل بالقلب البشري حتى ينفتح لحقيقة الربوبية والألوهية فيؤمن ثم يستقر الإيمان في القلب ثم يستقيم على الإيمان . يخاطبه القرآن بأن ينظر في هذا الكون الضخم الهائل الذي لا تصل إلى مَدَاه العيون ، بل لا تَصِل إلى مَدَاه الأفكار, ضخامةٌ هائلة لا يمكن أن ينجو من وَقعِها الحِس ، ولو أراد أن ينفلت ، ولو كابَر أمامَ الناسِ فيهتزّ القلب لذلك فتنطلق الفطرة تبحث : مَن وراءَ هذه المعجزة ؟ مَن الخالق ؟ ثم تهتدي فتعرف الخالق أو تَضِل فتُسمّيه الطبيعة أو تُسمّيه كائناً مَن كان أو ما كان, ومع الضخامة الهائلة دِقةٌ مُعجزة كذلك, هذا الكون الضخم الهائل لا يتحرك خبطَ عشواء إنه يسير في حركةٍ دقيقة تبلُغ حدّ الإعجاز. هذه الملايين من النجوم في السماء لا يلتقي اثنان منها في هذا الكون العريض ولا يَقع بينهما صِدامٌ إلا أن يشاء الله إنها مُوحيات العقيدة في القلب البشري : { ذلكم الله ربكم لا إله إلاّ هو خالقُ كلّ شيء فاعبدوه وهو على كل شيء وكيل } سورة البقرة 64 ومَن كانت هذه صفاته فهو المستحق أن يُعبَد وحدَه لا شريك له, فلو وَقَفَ الإنسان لحظةً واحدة يَرقُب ما خَلَقَ الله في السماوات والأرض ويستعرض هذا الحشد الذي لا يُحصى من الأجناس والأنواع والهيئات والأحوال والأوضاع والأشكال لو وَقَف لحظةً واحدة لملأ وِطابهالوطاب جمع وطب : سِقاء اللبن من جلد الجَذَع فما فوقه قاموس ج1 ص 137 بما يُغنيه حياتَه كلّها ويَشغلَه بالتدبّر والتأثر ما عاش . مستفادٌ من محاضراتٍ في العقيدة أثناء الدراسات العُليا في جامعة أم القرى . والقرآن لا يكتفي بمخاطبة الوجدان بل يخاطب معها العقول لاسيما في الكلام على آيات الله الكونية الدالة على عِلم الله وقُدرته وحِكمته وإرادته وتَصرّفه وعظيم تدبيره من ذلك قولهتعالى { إنّ في خَلقِ السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار والفُلك التي تجري في البَحر بما يَنفع الناسَ وما أنزل الله من السماء من ماءٍ فأحيا به الأرض بعد موتها وبثّ فيها من كلّ دابة وتصريفِ الرياح والسحاب المسَخَّرِ بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون } سورة البقرة 164 ومِن ذلك الوصايا الجامعة في سورة الأنعام { قل تعالوا أتلُ ما حرّم ربّكم عليكم ألا تُشرِكوا به شيئاً } إلى قوله : لعلكم تعقلون } سورة الأنعام آية 151 وكرّر قولَه تعالى { أفلا تعقلون } في عِدّة مَواضِع مِن القرآن كأمرِه لرسولِ الله صلى الله عليه وسلم أن يحتجّ على قومه بِكونِ القرآن مِن عندِ الله بقوله تعالى : { قل لو شاء الله ما تَلوتُه عليكم ولا أدراكم به فقد لَبثتُ فيكم عُمُراً مِن قَبله أفلا تعقلون } سورة يونس 16 وجعَلَ إهمالَ استخدامِ العقل سببَ عذابِ الآخرة بقوله تعالى في أهل النار { وقالوا لو كنا نسمعُ أو نعقِلُ ما كنا في أصحاب السعير } سورة الملك 10 وقد سَلَك القرآن في دعوة الإنسان إلى الإيمان بالله عزّ وجلّ خالقِ الكون مسالك متعددة فتارةً يخاطب عقلَه ويقنعه بالدليل العقلي في أسلوبٍ حيٍّ جذّاب كقوله تعالى : { نحن خلقناكم فلولا تصدقون * أفرأيتم ما تُمنون * ءأنتم تخلقونه أم نحن الخالقون * نحن قدّرنا بينكم الموت وما نحن بمسبوقين * على أن نُبدِّل أمثالكم وننشئكُم في ما لا تعلمون * ولقد علمتم النشأة الأولى فلولا تذكّرون * أفرأيتم ما تحرثون * ءأنتم تزرعونه أم نحن الزّارعون * لو نشاء لجعلنه حُطاماً فَظَلْتُم تفكّهون * إنا لمغرمون * بل نحن محرومون * أفرأيتم الماء الذي تشربون * ءأنتم أنزلتموه من المزن أم نحن المنـزلون * لو نشاء جعلناه أُجاجاً فلولا تشكرون * أفرأيتم النار التي تورون * ءأنتم أنشأتم شجرتها أم نحن المنشئون * نحن جعلناها تذكرةً ومتاعاً للمُقوين * فسبِّح باسم ربك العظيم } سورة الواقعة57-74 وهذا الأسلوب المنطقي يتصف أيضاً بالحيويّة لما فيه من الأسئلة الموجّهة إلى المخاطَب والإجابة عليها مع تَعددِ الأمثلة المأخوذة من حياة الإنسان التي هي سرُّ الأسرار وما يحيط به من نشأة الحياة النباتية وهي كالحياة الحيوانية معجزة المعجزات والماء هو أصل الحياة, والنار هي المعجزة التي صَنَعَت الحضارة الإنسانية . في هذه المشاهَدَات التي رآها كلّ إنسان، ينشىء القرآن العقيدة لأنه يخاطب كل إنسان في بيئته وهذه المشاهدات هي بذاتها من أضخم الحقائق الكونية، ومن أعظم الأسرار الربانية وهي تَصِلُ بالإنسان إلى حقيقةِ وجود الله وعظمته وربوبيتهوقدرته الكاملة وأنه خالقُ كلّ شيء ولازمُ ذلك إفراده بالعبادة ومِن ذلك قوله تعالى { الذي خلقني فهو يهدينِ * والذي هو يطعمني ويسقين * وإذا مرضتُ فهو يشفين * والذي يميتني ثم يحيين * والذي أطمعُ أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين } سورة الشعراء 78 - 82 وقوله تعالى { أم جعلوا لله شركاءَ خلقوا كخلقه فتشابَه الخلقُ عليهم قل الله خالق كلّ شيء وهو الواحِد القهّار } وقوله { أم خُلِقوا مِن غيرِ شيء أم هُم الخالقون * أم خَلَقوا السماوات والأرض بل لا يوقنون } سورة الطور 35- 36 وأمثال ذلك كثير إذا تدبّرت القرآن الكريم تجدْه قد أخذَ قِسطاً كبيراً من السور المكية عند عَرضِ آيات القدرة القادرة التي لا يُعجِزها شيء في السماوات ولا في الأرض في الخلق ثم في الحياة ثم في الموت, وإحداث الأحداث وتدبير الأمر وعلم الغيب وو... وتلك هي منافذ الفطرة التي تُلجِئها للبحث عن الخالق والتوجّه إليه. القرآن يخاطب الإنسان ويثيره عن طريق منافعه ومصالحه وحاجاته ومَلَذّاتِه وعن طريق قضاياه ومُشكلاتِه ليُحرِّك تَطلّعَه وقَلَقَه إلى معرفةِ الحقيقة ذاتِ الصِّلة بحياته الحاضرة ومَصيرِه البعيد ويجعله بذلك مُتهيئاً ومُستَعداً لقبول النتائج المنسجمة مع مصلحته ويبدو هذا واضحاً في الآيات التالية { وهو الذي جعلَ لكم الليل لباساً والنوم سباتاً وجعلَ النهارَ نُشوراً * وهو الذي أرسل الرياح بُشراً بين يدي رحمتِه وأنزلنا من السماءِ ماءً طهوراً * لنُحـيـي به بلدةً ميتاً ونُسقِيَه مما خلقنا أنعاماً وأَناسِيَّ كثيراً } سورة الفرقان 47-49 وقوله تعالى { وآيةٌ لهم الأرض الميتة أحييناها وأخرجنا منها حباً فمنه يأكلون * وجعلنا فيها جنات من نخيلٍ وأعنابٍ وفجّرنا فيها من العيون * ليأكلوا من ثمره وما عَمِلَته أيديهم أفلا يشكرون } سورة يس 33- 35 وقوله :{ والله جعل لكم من بيوتكم سكناً وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتاً تَستخفّونها يومَ ظَعنِكم ويوم إقامتكم ومن أصوافِها وأوبارِها وأشعارِها أثاثـاً ومَتاعاً إلى حين } ، { والله جَعَلَ لكم مما خلقَ ظِلالاً وجعل لكم من الجبال أكنانـا ًوجعلَ لكم سرابيلَ تَقيكُم الحرّ وسرابيل تَقيكُم بأسَكُم كذلك يُتمّ نعمته عليكم لعلكم تُسلِمون } سورة النحل 80 - 81 ومعنى ( تسلمون ) تُوحِّدون يا أهلَ مكة ا هـ . جلالين لقد أخذ القرآن الكريم الإنسان من مواطن اهتمامه في هذا الكون ونِعَم الله عليه ونقله منها إلى الخالق المنعم فأكسبه بذلك الاقتناعَ بمنطق العقل والشعور ليُخامِرَ إيمانه النفسي فكراً وعاطفة العقيدة في القرآن لمحمد المبارك ص36 ط دار الفكر ومِن الآيات الدالة على كمالِ قُدرته وعظيم سلطانه وأنه الفاعل المختار لا إله إلا هو ولا ربّ سواه الآيات التالية : { الله الذي رفع السموات بغير عَمَدٍ ترونها ثم استوى على العرش وسَخّر الشمس والقمر كلٌ يجري لأجلٍ مُسمّى يُدبِّر الأمرَ يفصِّل الآياتِ لعلكم بلقاء ربكم توقنون } ، { وهو الذي مَـدّ الأرض وجعل فيها رواسيَ وأنهاراً ومن كل الثمرات جعل فيها زوجين اثنين يغشى اليل النهار إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون } ، { وفي الأرض قِطعٌ متجاورات وجنات من أعناب وزرع ونخيل صِنوان وغير صنوان يُسقى بماء واحد ونفضِّل بعضها على بعض في الأُكُل إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون } سورة الرعد 2- 4 يا ربِّ ما أعظم قدرتك, سبحانك لا معبود بحق إلا أنت خَلقتَ هذه الأنواع والألوان من تربة واحدة فهذه حمراء وهذه بيضاء وهذه صفراء وهذه سوداء وهذه متحجرة وهذه سهلة وهذه مُرَمَّلة وهذه سميكة وهذه رقيقة والكلّ متجاوِرات فهذه بصفتها وهذه بصفتها الأخرى، اختلاف أجناس الثمرات والزروع في أشكالها وألوانها وطُعومِها وروائِحها وأوراقها وأزهارِها فهذا في غاية الحلاوة وذا في غاية الحموضة وذا في غاية المرارة وهذا جمعُ هذا وهذا, وذاك أصفر وهذا أحمر وهذا أبيض وهذا أسود وهذا أزرق وكذلك الأزهار مع أنّ كلّها يستمدُ من طبيعةٍ واحدة وهو الماء مع هذا الاختلاف الكثير الذي لا ينحصر ولا ينضبِط ففي ذلك آياتٌ لمن كان واعياً وهذا من أعظم الدِّلالات على الفاعل المختار الذي بِقُدرته فاوَتَ بين الأشياء وخَلَقَها على ما يريد, ولهذا قال تعالى : { إنّ في ذلك لآيات لقوم يعقلون } تفسير ابن كثير ج4 ص 352 - 354 طبعة الشعب وإذا أردتَ الكلام على رَفعِ السماوات بغيرِ عَمَدٍ ثم استواء الله عز وجل على العرش استواءً يليق بجلاله وعظمته على عقيدة السلف الصالح المتمثّل في قول إمام دارِ الهجرة الإمام مالك بقوله المشهور عند أهل السنة والجماعة في رَدِّه على السائل عن كيفية الاستواء بقوله : ( الاستواء معلوم والكَيْفُ مجهول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة ) إذا أردتَ ذلك فراجِع كُتب التفسير بالمـأثور كالدر المنثور للسيوطي وتفسير ابن جرير وتفسير ابن كثير في سبعة مواضع من القرآن ومنها سورة الرعد راجع أيضاً كلام شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم ابن تيمية مجموع الفتاوى ج36 ص85 وما قبلها وما بعدها والقصيدة النونية مع شرحها لابن عيسى ج1 ص 439 وما بعدها, ط المكتب الإسلامي وسائرَ كُتب أهل السنة وأمثال هذه الآيات التي سبق ذكرها هي ما عبّر عنه شيخُ الإسلام ابن تيمية بدليل العناية وفيها أيضاً دليل الاختراع ( الخَلْق ) وقد مَثّلَ للعناية بقوله تعالى : { ألم نجعل الأرض مِهاداً والجبال أوتادا } إلى قوله تعالى { وجناتٍ ألفافـا } سورة النبأ 6- 16 ) وقوله تعالى : { تبارك الذي جَعَلَ في السماء بروجاً وجعل فيها سراجاً وقمراً منيراً وهو الذي جعل الليل والنهار خِلفةً لمن أراد أن يذّكر أو أراد شكورا } سورة الفرقان 61 ـ 62 وقوله تعالى { فلينظر الإنسان إلى طعامه } عبس24 وما بعدها ومثّل للاختراع بقوله تعالى { فلينظر الإنسان مما خُلِق ، خُلِقَ من ماءٍ دافق } سورة الطارق : 5- 6 وقوله تعالى { أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خُلِقَت وإلى السماء كيف رُفِعَت } سورة الغاشية 17- 20 الآيات, وغير ذلك من الآيات ومثّل للجمع بين الدلالتين بقوله تعالى { يأايها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون الذي جعل الأرض فراشاً والسماء بناءً وأنزل من السماء ماءً فأخرج به من الثمرات رزقاً لكُم فلا تجعلوا لله أنداداً وأنتم تعلمون } سورة البقرة : 21- 22 أي : تعلَمون أنه لا ندّ له . |
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
#2 |
![]() |
![]() جعلها الله في موازين جسناتك
تقبل مروري |
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
#3 |
مراقب عام
![]() |
![]() بارك الله فيك اخوي امين
تحيتي وتقديري القسم الاسلامي |
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
مواقع النشر (المفضلة) |
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
|
|
![]() |
||||
الموضوع | كاتب الموضوع | المنتدى | مشاركات | آخر مشاركة |
معاني بعض الأسماء | Mansour Al-zahrani | الاخبار المحلية والعالمية والمنقولات | 1 | 20-09-2010 11:49 AM |
تغيير الأسماء ،،، لا يفوتك | فزاع | الإستراحة | 26 | 07-08-2010 09:12 PM |
ضريبة الأسماء | محمد حسن الزهراني | المنتدى العام | 13 | 16-01-2010 10:05 AM |
بعض الأعجاز العلمي في الأسلام | الراقي 902 | الإسلام حياة | 8 | 27-09-2007 05:11 AM |
الأسلام والغرب | شبل من زهران | الإسلام حياة | 1 | 03-09-2006 05:51 AM |