منتديات زهران  

العودة   منتديات زهران > المنتديات العامة > الإسلام حياة

تعرف على حبيبك


الإسلام حياة

موضوع مغلقإنشاء موضوع جديد
 
أدوات الموضوع
قديم 22-02-2008, 10:41 AM   #31
العتمه
 
الصورة الرمزية العتمه
 







 
العتمه is on a distinguished road
افتراضي رد : تعرف على حبيبك





غزوة فتح مكة

قال ابن القيم‏ :‏ هو الفتح الأعظم الذي أعز الله به دينه ورسوله وجنده وحزبه الأمـين ، واستنقذ به بلــده وبيته الذي جعله هدى للعالمين ، من أيدي الكفار والمشركين ، وهو الفتح الذي استبشر بـه أهـل السمـاء، وضـربت أطناب عِزِّه على مناكب الجوزاء ، ودخل الناس به فــي ديــن الله أفواجـاً ، وأشرق به وجه الأرض ضياء وابتهاجاً .


سبب الغزوة

قدمنا في وقعة الحديبية أن بنداً من بنود هذه المعاهدة يفيد أن من أحب أن يدخل في عقد محمد (صلى الله عليه وسلم) وعهده دخل فيه ، ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل فيه ، وأن القبيلة التي تنضم إلى أي الفريقين تعتبر جزءاً من ذلك الفريق ، فأي عدوان تتعرض له أي من تلك القبائل يعتبر عدواناً على ذلك الفريق‏ .‏
وحسب هذا البند دخلت خُزَاعَة في عهد رسول الله(صلى الله عليه وسلم)، ودخلت بنو بكر في عهد قريش ، وصارت كل من القبيلتين في أمن من الأخر ، وقد كانت بين القبيلتين عداوة وتوترات في الجاهلية ، فلما جاء الإسلام ، ووقعت هذه الهدنة ، وأمن كل فريق من الآخر ـ اغتنمها بنو بكر ، وأرادوا أن يصيبوا من خزاعة الثأر القديم ، فخرج نَوْفَل بن معاوية الدِّيلي في جماعة من بني بكر في شهر شعبان سنة 8 هـ ، فأغاروا على خزاعة ليلاً ، وهم على ماء يقال له ‏:‏ ‏[ ‏الوَتِير ‏]‏ فأصابوا منهم رجالاً ، وتناوشوا واقتتلوا ، وأعانت قريش بني بكر بالسلاح ، وقاتل معهم رجال من قريش مستغلين ظلمة الليل ، حتى حازوا خزاعة إلى الحرم ، فلما انتهوا إليه قالت بنو بكر ‏:‏ يا نوفل ، إنا قد دخلنا الحرم ، إلهك إلهك ، فقال كلمة عظيمة ‏:‏ لا إله اليوم يا بني بكر ، أصيبوا ثأركم ‏.‏ فلعمري إنكم لتَسرِقُون في الحرم ، أفلا تصيبون ثأركم فيه ‏؟‏
ولما دخلت خزاعة مكة لجأوا إلى دار بُدَيْل بن وَرْقَاء الخزاعي ، وإلى دار مولى لهم يقال له‏:‏ رافع‏ .‏
وأسرع عمرو بن سالم الخزاعي ، فخرج حتى قدم على رسول الله(صلى الله عليه وسلم) المدينة ، فوقف عليه ، وهو جالس في المسجد بين ظهراني الناس فقال ‏:‏
يـا رب إني نـاشـد محمـداً
قـد كنـتم ولداً وكنـا والـداً
فانصر ، هداك الله ، نصر أيداً
فيهـم رسول الله ، قـد تجردا
إن سـيم خسـفاً وجهه تربدا
إن قريشـاً أخلفـوك الموعدا
وجعـلوا لي في كداء رصـدا
وهــم أذل ، وأقــل عـددا حـلف أبينـا وأبيه الأتـلـدا
ثمـة أسـلمنـا ولم ننزع يدا
وأدع عبـاد الله يـأتـوا مددا
أبيض مثل البدر ، يسمو صعدا
في فيـلق كالبحر يجري مزبدا
ونقـضـوا ميثـاقك المـؤكدا
وزعمـوا أن لست أدعـو أحدا
هـم بيتـونا بـالوتـير هجدا
وقتلونا ركعاً سجداً

فقال رسول الله(صلى الله عليه وسلم) ‏:‏ ‏( ‏نصرت يا عمرو بن سالم ‏) ‏، ثم عرضت له سحابة من السماء ، فقال ‏:‏ ‏( ‏إن هذه السحابة لتستهل بنصر بني كعب ‏) ‏‏.‏
ثم خرج بُدَيْل بن وَرْقَاء الخزاعي في نفر من خُزَاعَة ، حتى قدموا على رسول الله(صلى الله عليه وسلم) المدينة، فأخبروه بمن أصيب منهم ، وبمظاهرة قريش بني بكر عليهم ، ثم رجعوا إلى مكة ‏.‏


أبو سفيان يخرج إلى المدينة ليجدد الصلح

ولا شك أن ما فعلت قريش وحلفاؤها كان غدراً محضاً ونقضاً صريحاً للميثاق ، لم يكن له أي مبرر ، ولذلك سرعان ما أحست قريش بغدرها ، وخافت وشعرت بعواقبه الوخيمة ، فعقدت مجلساً استشارياً ، وقررت أن تبعث قائدها أبا سفيان ممثلاً لها ليقوم بتجديد الصلح ‏.‏
وقد أخبر رسول الله(صلى الله عليه وسلم) أصحابه بما ستفعله قريش إزاء غدرتهم ‏.‏ قال :‏ ‏( ‏كأنكم بأبي سفيان قد جاءكم ليشد العَقْدَ ، ويزيد في المدة ‏) .‏
وخرج أبو سفيان ـ حسب ما قررته قريش ـ فلقي بديل بن ورقاء بعُسْفَان ـ وهو راجع من المدينة إلى مكة ـ فقال ‏:‏ من أين أقبلت يا بديل ‏؟‏ ـ وظن أنه أتى النبي(صلى الله عليه وسلم) ـ فقال‏ :‏ سرت في خزاعة في هذا الساحل وفي بطن هذا الوادي ‏.‏ قال ‏:‏ أو ما جئت محمداً‏ ؟‏ قال ‏:‏ لا‏ .‏
فلما راح بديل إلى مكة قال أبو سفيان‏ :‏ لئن كان جاء المدينة لقد علف بها النوى ، فأتى مبرك راحلته ، فأخذ من بعرها ، ففته ، فرأى فيها النوى ، فقال ‏:‏ أحلف بالله لقد جاء بديل محمداً‏ .‏
وقدم أبو سفيان المدينة ، فدخل على ابنته أم حبيبة ، فلما ذهب ليجلس على فراش رسول الله (صلى الله عليه وسلم) طوته عنه ، فقال ‏:‏ يا بنية ، أرغبت بي عن هذا الفراش ، أم رغبت به عني ‏؟‏ قالت‏ :‏ بل هو فراش رسول الله(صلى الله عليه وسلم) ، وأنت رجل مشرك نجس ‏.‏ فقال ‏:‏ والله لقد أصابك بعدي شر‏.‏
ثم خرج حتى أتى رسول الله(صلى الله عليه وسلم) فكلمه ، فلم يرد عليه شيئاً ، ثم ذهب إلى أبي بكر فكلمه أن يكلم رسول الله(صلى الله عليه وسلم) ، فقال ‏:‏ ما أنا بفاعل ‏.‏ ثم أتى عمر بن الخطاب فكلمه ، فقال ‏:‏ أأنا أشفع لكم إلى رسول الله(صلى الله عليه وسلم) ‏؟‏ فو الله لو لم أجد إلا الذَّرَّ لجاهدتكم به ، ثم جاء فدخل على علي بن أبي طالب ، وعنده فاطمة ، وحسن ، غلام يدب بين يديهما ، فقال‏ :‏ يا علي ، إنك أمس القوم بي رحماً ، وإني قد جئت في حاجة ، فلا أرجعن كما جئت خائباً ، اشفع لي إلى محمد ، فقال ‏:‏ ويحك يا أبا سفيان ، لقد عزم رسول الله(صلى الله عليه وسلم) على أمر ما نستطيع أن نكلمه فيه‏ .‏ فالتفت إلى فاطمة ، فقال‏ :‏ هل لك أن تأمري ابنك هذا فيجير بين الناس ، فيكون سيد العرب إلى آخر الدهر ‏؟‏ قالت ‏:‏ والله ما يبلغ ابني ذاك أن يجير بين الناس ، وما يجير أحد على رسول الله(صلى الله عليه وسلم) ‏ . ‏
وحيئذ أظلمت الدنيا أمام عيني أبي سفيان ، فقال لعلي بن أبي طالب في هلع وانزعاج ويأس وقنوط ‏:‏ يا أبا الحسن ، إني أرى الأمور قد اشتدت علي ، فانصحني ، قال ‏:‏ والله ما أعلم لك شيئاً يغني عنك ‏.‏ ولكنك سيد بني كنانة ، فقم فأجر بين الناس ، ثم الْحَقْ بأرضك ‏.‏ قال ‏:‏ أو ترى ذلك مغنياً عني شيئاً‏ ؟‏ قال‏ :‏ لا والله ما أظنه ، ولكني لم أجد لك غير ذلك ‏.‏ فقام أبو سفيان في المسجد ، فقال ‏:‏ أيها الناس ، إني قد أجرت بين الناس ، ثم ركب بعيره ، وانطلق ‏.‏
ولما قدم على قريش ، قالوا ‏:‏ ما وراءك‏ ؟‏ قال ‏:‏ جئت محمداً فكلمته ، فو الله ما رد على شيئاً ، ثم جئت ابن أبي قحافة فلم أجد فيه خيراً ، ثم جئت عمر بن الخطاب ، فوجدته أدنى العدو ، ثم جئت علياً فوجدته ألين القوم ، قد أشار علي بشيء صنعته ، فو الله ما أدري هل يغني عني شيئاً أم لا‏ ؟‏ قالوا ‏:‏ وبم أمرك ‏؟‏ قال ‏:‏ أمرني أن أجير بين الناس ، ففعلت ، قالوا‏ :‏ فهل أجاز ذلك محمد‏ ؟‏ قال‏ :‏ لا‏ .‏ قالوا ‏:‏ ويلك ، إن زاد الرجل على أن لعب بك ‏.‏ قال ‏:‏ لا والله ما وجدت غير ذلك ‏.


التهيؤ للغزوة ومحاولة الإخفاء

يؤخذ من رواية الطبراني أن رسول الله(صلى الله عليه وسلم) أمر عائشة ـ قبل أن يأتي إليه خبر نقض الميثاق بثلاثة أيام ـ أن تجهزه ، ولا يعلم أحد ، فدخل عليها أبو بكر ، فقال ‏:‏ يا بنية ، ما هذا الجهاز ‏؟‏ قالت‏ :‏ والله ما أدري ‏.‏ فقال ‏:‏ والله ما هذا زمان غزو بني الأصفر ، فأين يريد رسول الله ‏؟‏ قالت ‏:‏ والله لا علم لي ، وفي صباح الثالثة جاء عمرو بن سالم الخزاعي في أربعين راكباً ، وارتجز ‏:‏ يا رب إني ناشد محمداً‏ .‏‏.‏‏.‏ الأبيات ‏.‏ فعلم الناس بنقض الميثاق ، وبعد عمرو جاء بديل ، ثم أبو سفيان ، وتأكد عند الناس الخبر ، فأمرهم رسول الله(صلى الله عليه وسلم) بالجهاز ، وأعلمهم أنه سائر إلى مكة ، وقال ‏:‏ ‏" ‏اللّهم خذ العيون والأخبار عن قريش حتى نبغتها في بلادها "‏‏.‏
وزيادة في الإخفاء والتعمية بعث رسول الله(صلى الله عليه وسلم) سرية قوامها ثمانية رجال ، تحت قيادة أبي قتادة بن رِبْعِي ، إلى بطن إضَم ، فيما بين ذي خَشَب وذي المروة ، على ثلاثة بُرُد من المدينة ، في أول شهر رمضان سنة 8 هـ ، ليظن الظان أنه(صلى الله عليه وسلم) يتوجه إلى تلك الناحية ، ولتذهب بذلك الأخبار ، وواصلت هذه السرية سيرها ، حتى إذا وصلت حيثما أمرت بلغها أن رسول الله(صلى الله عليه وسلم) خرج إلى مكة ، فسارت إليه حتى لحقته ‏.‏
وكتب حاطب بن أبي بَلْتَعَة إلى قريش كتاباً يخبرهم بمسير رسول الله(صلى الله عليه وسلم) إليهم ، ثم أعطاه امرأة ، وجعل لها جُعْلاً على أن تبلغه قريشاً ، فجعلته في قرون رأسها ، ثم خرجت به ، وأتى رسول الله(صلى الله عليه وسلم) الخبر من السماء بما صنع حاطب ، فبعث علياً والمقداد فقال ‏:‏ ‏( ‏انطلقا حتى تأتيا رَوْضَةَ خَاخ ، فإن بها ظعينة معها كتاب إلى قريش ‏) ‏، فانطلقا تعادى بهم خيلهما حتى وجدوا المرأة بذلك المكان ، فاستنـزلاها ، وقالا ‏:‏ معك كتاب ‏؟‏ فقالت‏ :‏ ما معي كتاب ، ففتشا رحلها فلم يجدا شيئاً ‏.‏ فقال لها علي ‏:‏ أحلف بالله ، ما كذب رسول الله(صلى الله عليه وسلم) ولا كذبنا ، والله لتخرجن الكتاب أو لنجردنك ‏.‏ فلما رأت الجد منه قالت ‏:‏ أعرض ، فأعرض ، فحلت قرون رأسها ، فاستخرجت الكتاب منها ، فدفعته إليهما ، فأتيا به رسول الله(صلى الله عليه وسلم) ، فإذا فيه ‏:‏ ‏( ‏من حاطب بن أبي بلتعة إلى قريش‏ )‏ يخبرهم بمسير رسول الله(صلى الله عليه وسلم) ، فدعا رسول الله(صلى الله عليه وسلم) حاطباً ، فقال ‏:‏ ‏( ‏ما هذا يا حطب‏ ؟ ‏‏)‏ فقال ‏:‏ لا تَعْجَلْ على يا رسول الله‏ .‏ والله إني لمؤمن بالله ورسوله ، وما ارتددت ولا بدلت ، ولكني كنت امرأ مُلْصَقـًا في قريش ، لست من أنْفَسِهم ، ولي فيهم أهل وعشيرة وولد ، وليس لي فيهم قرابة يحمونهم ، وكان من معك له قرابات يحمونهم ، فأحببت إذ فاتني ذلك أن أتخذ عندهم يداً يحمون بها قرابتي ‏.‏ فقال عمر بن الخطاب‏ :‏ دعني يا رسول الله أضرب عنقه ، فإنه قد خان الله ورسوله ، وقد نافق ، فقال رسول الله(صلى الله عليه وسلم) ‏:‏ ‏" ‏إنه قد شهد بدراً ، وما يدريك يا عمر لعل الله قد اطلع على أهل بدر فقال‏ :‏ اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم "‏، فذَرَفَتْ عينا عمر ، وقال ‏:‏ الله ورسوله أعلم ‏.‏
وهكذا أخذ الله العيون ، فلم يبلغ إلى قريش أي خبر من أخبار تجهز المسلمين وتهيئهم للزحف والقتال ‏.


الجيش الإسلامي يتحرك نحو مكة
ولعشر خلون من شهر رمضان المبارك 8 هـ ، غادر رسول الله(صلى الله عليه وسلم) المدينة متجهاً إلى مكــة ، في عشرة ألاف من الصحابة رضي الله عنهم ، واستخـلف على المدينة أبا رُهْم الغفاري ‏.‏
ولما كان بالجُحْفَة ـ أو فوق ذلك ـ لقيه عمه العباس بن عبد المطلب ، وكان قد خرج بأهله وعياله مسلماً مهاجراً ، ثم لما كان رسول الله(صلى الله عليه وسلم) بالأبواء لقيه ابن عمه أبو سفيان ابن الحارث وابن عمته عبد الله بن أبي أمية ، فأعرض عنهما ، لما كان يلقاه منهما من شدة الأذى والهجو ، فقالت له أم سلمة ‏:‏ لا يكن ابن عمك وابن عمتك أشقى الناس بك‏ .‏ وقال علي لأبي سفيان بن الحارث ‏:‏ ائت رسول الله(صلى الله عليه وسلم) من قبل وجهه ، فقل له ما قال إخوة يوسف ليوسف‏ :‏ "‏قَالُواْ تَاللّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللّهُ عَلَيْنَا وَإِن كُنَّا لَخَاطِئِينَ‏ "‏ ‏[ ‏يوسف ‏:‏91‏ ] ‏، فإنه لا يرضى أن يكون أحد أحسن منه قولاً‏ .‏ ففعل ذلك أبو سفيان ، فقال له رسول الله(صلى الله عليه وسلم) ‏:‏ "‏قَالَ لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ‏ "‏ ‏[ ‏يوسف ‏:‏92 ‏] ‏، فأنشده أبو سفيان أبياتاً منها ‏:‏
لعمرك إني حين أحمل راية
لكالمدلج الحيران أظلم ليله
هداني هاد غير نفسي ودلني لتغلب خيل اللات خيـل محمد
فهذا أواني حين أهدى فأهتدي
على الله من طردته كل مطرد
فضرب رسول الله(صلى الله عليه وسلم) صدره وقال ‏:‏ ‏" ‏أنتَ طَرَّدْتَنِي كل مُطَرَّد‏ "‏‏.‏


الجيش الإسلامي ينزل بمر الظهران
وواصل رسول الله(صلى الله عليه وسلم) سيره وهو صائم ، والناس صيام ، حتى بلغ الكُدَيْد ـ وهو ماء بين عُسْفَان وقُدَيْد ـ فأفطر ، وأفطر الناس معه‏ .‏
ثم واصل سيره حتى نزل بمر الظهران ـ وادي فاطمة ـ نزله عشاء ، فأمر الجيش ، فأوقدوا النيران ، فأوقدت عشرة آلاف نار ، وجعل رسول الله(صلى الله عليه وسلم) على الحرس عمر بن الخطاب رضي الله عنه .

أبو سفيان بين يدي رسول الله(صلى الله عليه وسلم(


وركب العباس ـ بعد نزول المسلمين بمر الظهران ـ بغلة رسول الله(صلى الله عليه وسلم) البيضاء ، وخرج يلتمس ، لعله يجد بعض الحَطَّابة أو أحداً يخبر قريشاً ليخرجوا يستأمنون رسول الله(صلى الله عليه وسلم) قبل أن يدخلها‏ .‏
وكان الله قد عمى الأخبار عن قريش ، فهم على وَجَلٍ وترقب ، وكان أبو سفيان يخرج يتجسس الأخبار ، فكان قد خرج هو وحكيم بن حزام ، وبديل بن ورقاء يتجسسون الأخبار ‏.‏
قال العباس‏ :‏ والله إني لأسير عليها ـ أي على بغلة رسول الله(صلى الله عليه وسلم) ـ إذ سمعت كلام أبي سفيان وبديل بن ورقاء ، وهما يتراجعان ، وأبو سفيان يقول ‏:‏ ما رأيت كالليلة نيراناً قط ولا عسكراً‏ .‏ قال ‏:‏ يقول بديل ‏:‏ هذه والله خزاعة ، حَمَشَتْها الحرب ، فيقول أبو سفيان ‏:‏ خزاعة أقل وأذل من أن تكون هذه نيرانها وعسكرها‏ .‏
قال العباس‏ :‏ فعرفت صوته ، فقلت ‏:‏ أبا حَنْظَلَة‏ ؟‏ فعرف صوتي ، فقال‏ :‏ أبا الفضل ‏؟‏ قلت ‏:‏ نعم ‏.‏ قال ‏:‏ مالك ‏؟‏ فداك أبي وأمي‏ .‏ قلت ‏:‏ هذا رسول الله(صلى الله عليه وسلم) في الناس ، واصباح قريش والله‏ .‏
قال ‏:‏ فما الحيلة فداك أبي وأمي ‏؟ قلت ‏:‏ والله لئن ظفر بك ليضربن عنقك ، فاركب في عجز هذه البغلة ، حتى آتي بك رسول الله(صلى الله عليه وسلم) فأستأمنه لك ، فركب خلفي ، ورجع صاحباه ‏.‏
قال ‏:‏ فجئت به ، فكلما مررت به على نار من نيران المسلمين ، قالوا ‏:‏ من هذا‏ ؟‏ فإذا رأوا بغلة رسول الله(صلى الله عليه وسلم) وأنا عليها قالوا‏ :‏ عم رسول الله(صلى الله عليه وسلم) على بغلته‏ .‏ حتى مررت بنار عمر بن الخطاب فقال ‏:‏ من هذا ‏؟‏ وقام إلي ، فلما رأى أبا سفيان على عجز الدابة قال ‏:‏ أبو سفيان ، عدو الله‏ ؟‏ الحمد لله الذي أمكن منك بغير عقد ولا عهد ، ثم خرج يشتد نحو رسول الله(صلى الله عليه وسلم) ، وركضتُ البغلة فسبقت ، فاقتحمت عن البغلة ، فدخلت على رسول الله(صلى الله عليه وسلم) ، ودخل عليه عمر ، فقال ‏:‏ يا رسول الله ، هذا أبو سفيان فدعني أضرب عنقه ، قال ‏:‏ قلت‏ :‏ يا رسول الله ، إني قد أجرته ، ثم جلست إلى رسول الله(صلى الله عليه وسلم) فأخذت برأسه ، فقلت‏ :‏ والله لا يناجيه الليلة أحد دوني ، فلما أكثر عمر في شأنه قلت ‏:‏ مهلاً يا عمر ، فوالله لو كان من رجال بني عدي بن كعب ما قلت مثل هذا ، قال ‏:‏ مهلاً يا عباس ، فوالله لإسلامك كان أحب إليّ من إسلام الخطاب ، لو أسلم ، وما بي إلا أني قد عرفت أن إسلامك كان أحب إلى رسول الله(صلى الله عليه وسلم) من إسلام الخطاب ‏.‏
فقال رسول الله(صلى الله عليه وسلم) ‏:‏ ‏" ‏اذهب به يا عباس إلى رحلك ، فإذا أصبحت فأتني به ‏" ‏، فذهبت ، فلما أصبحت غدوت به إلى رسول الله(صلى الله عليه وسلم) ، فلما رآه قال ‏:‏ ‏" ‏ويحك يا أبا سفيان ، ألم يأن لك أن تعلم أن لا إله إلا الله‏ ؟‏‏ "‏ قال‏ :‏ بأبي أنت وأمي ، ما أحلمك وأكرمك وأوصلك ‏؟‏ لقد ظننت أن لو كان مع الله إله غيره لقد أغني عني شيئاً بعد ‏.‏
قال ‏:‏ ‏" ‏ويحك يا أبا سفيان، ألم يأن لك أن تعلم أني رسول الله ‏؟ "‏، قال ‏:‏ بأبي أنت وأمي ، ما أحلمك وأكرمك وأوصلك ‏:‏ أما هذه فإن في النفس حتى الآن منها شيء ‏.‏ فقال له العباس‏ :‏ ويحك أسلم ، واشهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمداً رسول الله ، قبل أن تضرب عنقك ، فأسلم وشهد شهادة الحق‏ .‏
قال العباس ‏:‏ يا رسول الله ، إن أبا سفيان رجل يحب الفخر فاجعل له شيئاً‏ .‏ قال ‏:‏ ‏" ‏نعم ، من دخل دار أبي سفيان فهو آمن ، ومن أغلق عليه بابه فهو آمن ، ومن دخل المسجد الحرام فهو آمن ‏" ‏‏.

الجيش الإسلامي يغادر مر الظهران إلى مكة

وفي هذا الصباح ـ صباح يوم الثلاثاء للسابع عشر من شهر رمضان سنة 8 هـ ـ غادر رسول الله(صلى الله عليه وسلم) مر الظهران إلى مكة ، وأمر العباس أن يحبس أبا سفيان بمضيق الوادي عند خَطْمِ الجبل ، حتى تمر به جنود الله فيراها ، ففعل ، فمرت القبائل على راياتها ، كلما مرت به قبيلة قال‏ :‏ يا عباس ، من هذه ‏؟‏ فيقول ـ مثلا ـ سليم ، فيقول ‏:‏ مالي ولِسُلَيْم ‏؟‏ ثم تمر به القبيلة فيقول ‏:‏ يا عباس ، من هؤلاء‏ ؟‏ فيقول ‏:‏ مُزَيْنَة ، فيقول‏ :‏ مالي ولمزينة ‏؟‏ حتى نفذت القبائل ، ما تمر به قبيلة إلا سأل العباس عنها ، فإذا أخبره قال ‏:‏ مالي ولبني فلان‏ ؟‏ حتى مر به رسول الله(صلى الله عليه وسلم) في كتيبته الخضراء ، فيها المهاجرون والأنصار ، لا يرى منهم إلا الحَدَق من الحديد ، قال :‏ سبحان الله ‏!‏ يا عباس ، من هؤلاء‏ ؟‏ قال ‏:‏ هذا رسول الله(صلى الله عليه وسلم) في المهاجرين والأنصار ، قال ‏:‏ ما لأحد بهؤلاء قِبَلٌ ولا طاقة‏ .‏ ثم قال ‏:‏ والله يا أبا الفضل ، لقد أصبح مُلْكُ ابن أخيك اليوم عظيماً‏ .‏ قال العباس ‏:‏ يا أبا سفيان ، إنها النبوة ، قال‏ :‏ فنعم إذن ‏.‏
وكانت راية الأنصار مع سعد بن عبادة ، فلما مر بأبي سفيان قال له ‏:‏ اليوم يوم الملحمة ، اليوم تُسْتَحَلُّ الحُرْمَة ، اليـوم أذل الله قـريشاً ‏.‏ فلما حـاذى رسول الله(صلى الله عليه وسلم) أبا سفيان قال ‏:‏ يا رسول الله ، ألم تسمع ما قال سعد ‏؟‏ قال ‏:‏ ‏( ‏وما قال‏ ؟ ‏‏)‏ فقال ‏:‏ قال كذا وكذا ‏.‏ فقال عثمان وعبد الرحمن بن عوف ‏:‏ يا رسول الله ، ما نأمن أن يكون له في قريش صولة ، فقال رسول الله(صلى الله عليه وسلم) :‏ ‏" ‏بل اليوم يوم تُعَظَّم فيه الكعبة، اليوم يوم أعز الله فيه قريشاً‏ "‏ ثم أرسل إلى سعد فنزع منه اللواء ، ودفعه إلى ابنه قيس ، ورأى أن اللواء لم يخرج عن سعد ‏.‏ وقيل ‏:‏ بل دفعه إلى الزبير‏ .‏

قريش تباغت زحف الجيش الإسلامي

ولما مر رسول الله(صلى الله عليه وسلم) بأبي سفيان ومضى قال له العباس ‏:‏ النجاء إلى قومك ‏.‏ فأسرع أبو سفيان حتى دخل مكة ، وصرخ بأعلى صوته‏ :‏ يا معشر قريش ، هذا محمد ، قد جاءكم فيما لا قبل لكم به ‏.‏ فمن دخل دار أبي سفيان فهو آمن ‏.‏ فقامت إليه زوجته هند بنت عتبة فأخذت بشاربه فقالت ‏:‏ اقتلوا الحَمِيت الدسم الأخمش الساقين ، قُبِّحَ من طَلِيعَة قوم ‏.‏
قال أبو سفيان‏ :‏ ويلكم ، لا تغرنكم هذه من أنفسكم ، فإنه قد جاءكم بما لا قبل لكم به ، فمن دخل دار أبي سفيان فهو آمن ‏.‏ قالوا‏ :‏ قاتلك الله ، وما تغني عنا دارك ‏؟‏ قال ‏:‏ ومن أغلق عليه بابه فهو آمن ، ومن دخل المسجد فهو آمن ‏.‏ فتفرق الناس إلى دورهم وإلى المسجد ، وبثوا أوباشاً لهم ، وقالوا ‏:‏ نقدم هؤلاء ، فإن كان لقريش شيء كنا معهم ، وإن أصيبوا أعطينا الذي سئلنا‏ .‏ فتجمع سفهاء قريش وأخِفَّاؤها مع عكرمة بن أبي جهل ، وصفوان بن أمية ، وسهيل بن عمرو بالخَنْدَمَة ليقاتلوا المسلمين ‏.‏ وكان فيهم رجل من بني بكر ـ حِمَاس بن قيس ـ كان يعد قبل ذلك سلاحاً ، فقالت له امرأته ‏:‏ لماذا تعد ما أرى ‏؟‏ قال ‏:‏ لمحمد وأصحابه ‏.‏ قالت ‏:‏ والله ما يقوم لمحمد وأصحابه شيء ‏.‏ قال ‏:‏ إني والله لأرجو أن أخدمك بعضهم ، ثم قال ‏:
إن يقبلوا اليوم فمالي عِلَّه هــذا ســلاح كامــل وألَّه
وذو غِرَارَيْن سريع السَّلَّة
فكان هذا الرجل فيمن اجتمعوا في الخندمة ‏.‏


الجيش الإسلامي بذي طوى

أما رسول الله(صلى الله عليه وسلم) فمضى حتى انتهى إلى ذي طوي ـ وكان يضع رأسه تواضعاً لله حين رأي ما أكرمه الله به من الفتح ، حتى أن شعر لحيته ليكاد يمس واسطة الرحل ـ وهناك وزع جيشه ، وكان خالد بن الوليد على المُجَنَّبَةِ اليمنى ـ وفيها أسْلَمُ وسُلَيْم وغِفَار ومُزَيْنَة وجُهَيْنَة وقبائل من قبائل العرب ـ فأمره أن يدخل مكة من أسفلها ، وقال ‏:‏ ‏" ‏إن عرض لكم أحد من قريش فاحصدوهم حصداً ، حتى توافوني على الصفا "‏‏.‏
وكان الزبير بن العوام على المُجَنَّبَةِ اليسرى ، وكان معه راية رسول الله(صلى الله عليه وسلم) ، فأمره أن يدخل مكة من أعلاها ـ من كَدَاء ـ وأن يغرز رايته بالحَجُون ، ولا يبرح حتى يأتيه ‏.‏
وكان أبو عبيدة على الرجالة والحُسَّر ـ وهم الذيم لا سلاح معهم ـ فأمره أن يأخذ بطن الوادي حتى ينصب لمكة بين يدي رسول الله(صلى الله عليه وسلم) ‏.‏
العتمه غير متواجد حالياً  
قديم 22-02-2008, 10:51 AM   #32
العتمه
 
الصورة الرمزية العتمه
 







 
العتمه is on a distinguished road
افتراضي رد : تعرف على حبيبك





غزوة خيبر ووادي القرى في المحرم سنة 7 هـ
سبب الغزوة

كانت خيبر مدينة كبيرة ذات حصون ومزارع على بعد ثمانين ميلا من المدينة في جهة الشمال ، وهي الآن قرية في مناخها بعض الوخامة ‏.‏

سبب الغزوة
ولما اطمأن رسول الله(صلى الله عليه وسلم) من أقوى أجنحة الأحزاب الثلاثة ، وهو قريش ، وأمن منه تماماً بعد صلح الحديبية أراد أن يحاسب الجناحين الباقيين ـ اليهود وقبائل نجد ـ حتى يتم الأمن والسلام ، ويسود الهدوء في المنطقة ، ويفرغ المسلمون من الصراع الدامي المتواصل إلى تبليغ رسالة الله والدعوة إليه‏ .‏
ولما كانت خيبر هي وكرة الدس والتآمر ومركز الاستفزازات العسكرية ، ومعدن التحرشات وإثارة الحروب ، كانت هي الجديرة بالتفات المسلمين أولا‏ً .‏
أما كون خيبر بهذه الصفة ، فلا ننسى أن أهل خيبر هم الذين حزبوا الأحزاب ضد المسلمين ، وأثاروا بني قريظة على الغدر والخيانة، ثم أخذوا في الاتصالات بالمنافقين ـ الطابور الخامس في المجتمع الإسلامي ـ وبغطفان وأعراب البادية ـ الجناح الثالث من الأحزاب ـ وكانوا هم أنفسهم يتهيأون للقتال ، فألقوا المسلمين بإجراءاتهم هذه في محن متوصلة ، حتى وضعوا خطة لاغتيال النبي(صلى الله عليه وسلم) ، وإزاء ذلك اضطر المسلمون إلى بعوث متواصلة ، وإلى الفتك برأس هؤلاء المتآمرين ، مثل سلام بن أبي الحُقَيْق ، وأسِير بن زارم ، ولكن الواجب على المسلمين إزاء هؤلاء اليهود كان أكبر من ذلك ، وإنما أبطأوا في القيام بهذا الواجب ، لأن قوة أكبر وأقوى وألد وأعند منهم ـ وهي قريش ـ كانت مجابهة للمسلمين ، فلما انتهت هذه المجابهة صفا الجو لمحاسبة هؤلاء المجرمين ، واقترب لهم يوم الحساب‏ .‏

غزوة خيبر ووادي القرى في المحرم سنة 7 هـ - الخروج إلى خيبر
قال ابن إسحاق‏:‏ أقام رسول الله(صلى الله عليه وسلم بالمدينة حين رجع من الحديبية ذا الحجة وبعض المحرم ، ثم خرج في بقية المحرم إلى خيبر ‏.‏
قال المفسرون ‏:‏ إن خيبر كانت وعدا وعدها الله تعالى بقوله‏ :‏ "‏وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ‏ "‏ ‏[ ‏الفتح‏ :‏ 20 ‏]‏ يعني صلح الحديبية ، وبالمغانم الكثيرة خيبر‏ .‏
عدد الجيش الإسلامي
ولما كان المنافقون وضعفاء الإيمان تخلفوا عن رسول الله(صلى الله عليه وسلم في غزوة الحديبية أمر الله تعالى نبيه(صلى الله عليه وسلم فيهم قائلاً‏ :‏ ‏" سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ قُل لَّن تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِن قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا بَلْ كَانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلاً‏ "‏ ‏[ ‏الفتح‏ :‏ 15‏] ‏‏.‏
فلما أراد رسول الله(صلى الله عليه وسلم الخروج إلى خيبر أعلن ألا يخرج معه إلا راغب في الجهاد ، فلم يخرج إلا أصحاب الشجرة وهم ألف وأربعمائة ‏.‏
واستعمل على المدينة سِبَاع بن عُرْفُطَةَ الغفاري ، وقال ابن إسحاق‏:‏ نُمَيْلَة بن عبد الله الليثي ، والأول أصح عند المحققين ‏.‏
وبعد خروجه(صلى الله عليه وسلم قدم أبو هريرة المدينة مسلماً ، فوافي سباع بن عرفطة في صلاة الصبح ، فلما فرغ من صلاته أتى سباعاً فزوده ، حتى قدم على رسول الله(صلى الله عليه وسلم ، وكلم المسلمين فأشركوه وأصحابه في سهمانهم ‏.‏

غزوة خيبر ووادي القرى في المحرم سنة 7 هـ - اتصال المنافقين باليهود
وقد قام المنافقون يعملون لليهود ، فقد أرسل رأس المنافقين عبد الله بن أبي إلى يهود خيبر ‏:‏ إن محمداً قصد قصدكم ، وتوجه إليكم ، فخذوا حذركم ، ولا تخافوا منه فإن عددكم وعدتكم كثيرة ، وقوم محمد شرذمة قليلون ، عزّل ، لا سلاح معهم إلا قليل ، فلما علم ذلك أهل خيبر ، أرسلوا كنانة بن أبي الحقيق وهَوْذَة بن قيس إلى غطفان يستمدونهم ، لأنهم كانوا حلفاء يهود خيبر ، ومظاهرين لهم على المسلمين ، وشرطوا لهم نصف ثمار خيبر إن هم غلبوا المسلمين‏ .‏

غزوة خيبر ووادي القرى في المحرم سنة 7 هـ - الطريق إلى خيبر

وسلك رسول الله(صلى الله عليه وسلم في اتجاهه نحو خيبر جـبل عــصر ـ بالكسر ، وقيل ‏:‏ بالتحريك ـ ثم على الصهباء ، ثم نزل على واد يقال له ‏:‏ الرجيع ، وكان بينه وبين غطفان مسيرة يوم وليلة ، فتهيأت غطفان وتوجهوا إلى خيبر ، لإمداد اليهود ، فلما كانوا ببعض الطريق سمعوا من خلفهم حساً ولغطاً ، فظنوا أن المسلمين أغاروا على أهاليهم وأموالهم فرجعوا ، وخلوا بين رسول الله (صلى الله عليه وسلم وبين خيبر ‏.‏
ثم دعا رسول الله(صلى الله عليه وسلم الدليلين اللذين كانا يسلكان بالجيش ـ وكان اسم أحدهما‏ :‏ حُسَيْل ـ ليدلاه على الطريق الأحسن ، حتى يدخل خيبر من جهة الشمال ـ أي جهة الشام ـ فيحول بين اليهود وبين طريق فرارهم إلى الشام ، كما يحول بينهم وبين غطفان‏ .‏
قال أحدهما‏ :‏ أنا أدلك يا رسول الله(صلى الله عليه وسلم ، فأقبل حتى انتهى إلى مفرق الطرق المتعددة وقال ‏:‏ يا رسول الله ، هذه طرق يمكن الوصول من كل منها إلى المقصد ، فأمر أن يسمها له واحداً واحداً‏ .‏ قال‏ :‏ اسم واحد منها حزن ، فأبى النبي(صلى الله عليه وسلم من سلوكه ، قال‏ :‏ اسم الآخر شاش ، فامتنع منه أيضاً ، وقال ‏:‏ اسم الآخر حاطب ، فامتنع منه أيضاً ، قال حسيل ‏:‏ فما بقي إلا واحد ‏.‏ قال عمر ‏:‏ ما اسمه ‏؟‏ قال ‏:‏ مَرْحَب ، فاختار النبي(صلى الله عليه وسلم سلوكه ‏.‏
غزوة خيبر ووادي القرى في المحرم سنة 7 هـ - بعض ما وقع في الطريق
1ـ عن سلمة بن الأكوع قال ‏:‏ خرجنا مع النبي(صلى الله عليه وسلم إلى خيبر فسرنا ليلاً ، فقال رجل من القوم لعامر ‏:‏ يا عامر ، ألا تسمعنا من هنيهاتك‏ ؟‏ ـ وكان عامر رجلاً شاعراً ـ فنزل يحدو بالقوم ، يقول ‏:
اللهم لولا أنت ما اهتديـنا
فاغـفر فِدَاءً لك ما اقْتَفَيْنا
وألْـقِينْ سكـينة عــلينا ولا تَصدَّقْنا ولا صَلَّينـا
وَثبِّت الأقدام إن لاقينـا
إنا إذا صِـيحَ بنا أبينـا
وبالصياح عَوَّلُوا عــلينا
فقال رسول الله(صلى الله عليه وسلم ‏:‏ ‏( ‏من هذا السائق‏ )‏ قالوا ‏:‏ عامر بن الأكوع ، قال ‏:‏ ‏( ‏يرحمه الله ‏) ‏‏:‏ قال رجل من القوم ‏:‏ وجبت يا نبي الله ، لولا أمتعتنا به ‏.‏
وكانوا يعرفون أن رسول الله(صلى الله عليه وسلم لا يستغفر لإنسان يخصه إلا استشهد ، وقد وقع ذلك في حرب خيبر‏ .‏
2- وفي الطريق أشرف الناس على واد فرفعوا أصواتهم بالتكبير ( الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله ) فقال رسول الله(صلى الله عليه وسلم : "أربعوا على أنفسكم ، إنكم لا تدعون أصم ولا غائباً إنكم تدعون سميعاً قريباً ".
3 ـ وبالصهباء من أدنى خيبر صلى النبي(صلى الله عليه وسلم العصر ، ثم دعا بالأزواد ، فلم يؤت إلا بالسَّوِيق ، فأمر به فثري ، فأكل وأكل الناس ، ثم قام إلى المغرب ، فمضمض ، ومضمض الناس ، ثم صلى ولم يتوضأ ، ثم صلى العشاء‏ .‏
غزوة خيبر ووادي القرى في المحرم سنة 7 هـ - الجيش الإسلامي إلى أسوار خيبر
وبات المسلمون الليلة الأخيرة التي بدأ في صباحها القتال قريبًا من خيبر ، ولا تشعر بهم اليهود ، وكان النبي(صلى الله عليه وسلم إذا أتى قومًا بليل لم يقربهم حتى يصبح ، فلما أصبح صلى الفجر بغَلَس ، وركب المسلمون ، فخرج أهل خيبر بمساحيهم ومكاتلهم ، ولا يشعرون ، بل خرجوا لأرضهم ، فلما رأوا الجيش قالوا ‏:‏ محمد، والله محمد والخَمِيس ، ثم رجعوا هاربين إلى مدينتهم ، فقال النبي (صلى الله عليه وسلم ‏:‏ ‏" ‏الله أكبر، خربت خيبر ، الله أكبر ، خربت خيبر ، إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين‏ "‏ ‏.‏
وكان النبي(صلى الله عليه وسلم اختار لمعسكره منزلاً ، فأتاه حباب بن المنذر فقال : يا رسول الله أرأيت هذا المنزل أنزلكه الله ، أم هو الرأي في الحرب ؟ قال : " بل هو الرأي " فقال : يا رسول الله إن هذا المنزل قريب جداً من حسن نطاة ، جميع مقاتلي خيبر فيها ، وهم يدرون أحوالنا ، ونحن لا ندري أحوالهم ، وسهامهم تصل إلينا . وسهامنا لا تصل إليهم ، ولا نأمن من بياتهم ، وأيضاً هذا بين النخلات ، ومكان غائر ، وأرض وخيمة ، لو أمرت بمكان خال عن هذه المفاسد نتخذه معسكراً . قال(صلى الله عليه وسلم : " الرأي ما أشرت ، ثم تحول إلى مكان آخر " .
ولما دنا من خيبر وأشرف عليها قال ‏:‏ ‏( ‏قفوا‏ )‏ ، فوقف الجيش ، فقال ‏:‏ ‏" ‏اللهم رب السماوات السبع وما أظللن ، ورب الأرضين السبع وما أقللن ، ورب الشياطين وما أضللن ، ورب الرياح وما أذرين ، فإنا نسألك خير هذه القرية ، وخير أهلها ، وخير ما فيها ، ونعوذ بك من شر هذه القرية ، وشرّ أهلها ، وشر ما فيها أقدموا بسم الله ‏" ‏‏.‏
غزوة خيبر ووادي القرى في المحرم التهيؤ للقتال وحصون خيبر
ولما كانت ليلة الدخول ـ وقيل ‏:‏ بل بعد عدة محاولات ومحاربات ـ قال النبي(صلى الله عليه وسلم :‏ ‏(‏ لأعطين الراية غدًا رجلاً يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله ‏‏)‏ فلما أصبح الناس غدوا على رسول الله(صلى الله عليه وسلم ، كلهم يرجو أن يعطاها ، فقال ‏:‏ ‏( ‏أين علي بن أبي طالب‏ ؟ ‏‏)‏ فقالوا ‏:‏ يا رسول الله ، هو يشتكي عينيه ، قال‏ :‏ ‏( ‏فأرسلوا إليه ‏)‏ ، فأتى به فبصق رسول الله(صلى الله عليه وسلم في عينيه ، ودعا له، فبرئ ، كأن لم يكن به وجع ، فأعطاه الراية ، فقال ‏:‏ يا رسول الله ، أقاتلهم حتى يكونوا مثلنا ، قال ‏:‏ ‏" ‏انفذ على رسلك ، حتى تنزل بساحتهم ، ثم ادعهم إلى الإسلام ، وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله فيه ، فو الله لأن يهدي الله بك رجلا واحدًا خير لك من أن يكون لك حمر النعم‏ "‏‏.‏
وكانت خيبر منقسمة إلى شطرين ، شطر فيها خمسة حصون‏ :‏
1 ـ حصن ناعم ‏.‏
2 ـ حصن الصَّعْب بن معاذ‏ .‏
3 ـ حصن قلعة الزبير ‏.‏
4 ـ حصن أبي‏ .‏
5 ـ حصن النِّزَار‏ .‏
والحصون الثلاثة الأولى منها كانت تقع في منطقة يقال لها ‏:‏ ‏( ‏النطاة‏ )‏ وأما الحصنان الآخران فيقعان في منطقة تسمي بالشَّقِّ‏.‏
أما الشطر الثاني ، ويعرف بالكتيبة ، ففيه ثلاثة حصون فقط‏ :‏
1 ـ حصن القَمُوص ‏( ‏وكان حصن بني أبي الحقيق من بني النضير‏ ) ‏.‏
2 ـ حصن الوَطِيح‏ .‏
3 ـ حصن السُّلالم‏ .‏
وفي خيبر حصون وقلاع غير هذه الثمانية ، إلا أنها كانت صغيرة ، لا تبلغ إلى درجة هذه القلاع في مناعتها وقوتها ‏.‏
والقتال المرير إنما دار في الشطر الأول منها ، أما الشطر الثاني فحصونها الثلاثة مع كثرة المحاربين فيها سلمت دونما قتال ‏.‏
غزوة خيبر ووادي القرى في المحرم سنة 7 هـ - بدء المعركة وفتح حصن ناعم
وأول حصن هاجمه المسلمون من حصونهم الثمانية هو حصن ناعم‏ .‏
وكان خط الدفاع الأول لليهود لمكانه الاستراتيجي ، وكان هذا الحصن هو حصن مرحب البطل اليهودي الذي كان يعد بالألف‏ .‏
خرج علي بن أبي طالب رضي الله عنه بالمسلمين إلى هذا الحصن ، ودعا اليهود إلى الإسلام ، فرفضوا هذه الدعوة ، وبرزوا إلى المسلمين ومعهم ملكهم مرحب ، فلما خرج إلى ميدان القتال دعا إلى المبارزة ، قال سلمة بن الأكوع‏ :‏ فلما أتينا خيبر خرج ملكهم مرحب يخطر بسيفه يقول‏ :‏
قد عَلِمتْ خيبر أني مَرْحَب شَاكِي السلاح بطل مُجَرَّب
إذا الحروب أقبلتْ تَلَهَّب
فبرز له عمي عامر فقال ‏:‏
قد علمت خيبر أني عامر شاكي السلاح بطل مُغَامِر
فاختلفا ضربتين ، فوقع سيف مرحب في ترس عمي عامر ، وذهب عامر يسفل له ، وكان سيفه قصيرًا ، فتناول به ساق اليهودي ليضربه ، فيرجع ذُبَاب سيفه فأصاب عين ركبته فمات منه ، وقال فيه النبي(صلى الله عليه وسلم ‏:‏ ‏" ‏إن له لأجرين ـ وجمع بين إصبعيه ـ إنه لجَاهِدٌ مُجَاهِد ، قَلَّ عربي مَشَى بها مِثْلَه ‏" .‏
ويبدو أن مرحبًا دعا بعد ذلك إلى البراز مرة أخرى وجعل يرتجز بقوله ‏:‏
قد علمت خيبر أني مرحب‏ .‏‏.‏‏.‏ إلخ ، فبرز له على بن أبي طالب ‏.‏ قال سلمة ابن الأكوع‏ :‏ فقال علي ‏:‏
أنا الذي سمتني أمي حَيْدَرَهْ كلَيْثِ غابات كَرِيه المَنْظَرَهْ
أُوفِيهم بالصَّاع كَيْل السَّنْدَرَهْ
فضرب رأس مرحب فقتله ، ثم كان الفتح على يديه ‏.‏
ولما دنا علي رضي الله عنه من حصونهم اطلع يهودي من رأس الحصن ، وقال ‏:‏ من أنت‏ ؟‏ فقال ‏:‏ أنا علي بن أبي طالب ، فقال اليهودي ‏:‏ علوتم وما أنزل على موسى ‏.‏
ثم خرج ياسر أخو مرحب ، وهو يقول ‏:‏ من يبارز‏ ؟‏ فبرز إليه الزبير ، فقالت صفية أمه ‏:‏ يا رسول الله ، يقتل ابني ، قال ‏:‏ ‏( ‏بل ابنك يقتله ‏) ‏، فقتله الزبير ‏.‏
ودار القتال المرير حول حصن ناعم ، قتل فيه عدة سراة من اليهود ، انهارت لأجله مقاومة اليهود ، وعجزوا عن صد هجوم المسلمين ، ويؤخذ من المصادر أن هذا القتال دام أيامًا لاقي المسلمون فيها مقاومة شديدة ، إلا أن اليهود يئسوا من مقاومة المسلمين ، فتسللوا من هذا الحصن إلى حصن الصَّعْب ، واقتحم المسلمون حصن ناعم ‏.‏
غزوة خيبر ووادي القرى في المحرم سنة 7 هـ - فتح حصن الصعب بن معاذ
وكان حصن الصعب الحصن الثاني من حيث القوة والمناعة بعد حصن ناعم ، قام المسلمون بالهجوم عليه تحت قيادة الحباب بن المنذر الأنصاري ، ففرضوا عليه الحصار ثلاثة أيام ، وفي اليوم الثالث ، دعا رسول الله(صلى الله عليه وسلم لفتح هذا الحصن دعوة خاصة‏ .‏
روى ابن إسحاق أن بني سهم من أسلم أتوا رسول الله(صلى الله عليه وسلم ، فقالوا‏ :‏ لقد جهدنا ، وما بأيدينا من شيء ، فقال ‏:‏ ‏" ‏اللهم إنك قد عرفت حالهم ، وأن ليست بهم قوة ، وأن ليس بيدي شيء أعطيهم إياه ، فافتح عليهم أعظم حصونها عنهم غَنَاء ، وأكثرها طعامًا ووَدَكًا‏ "‏‏.‏ فغدا الناس ففتح الله عز وجل حصن الصعب بن معاذ ، وما بخيبر حصن كان أكثر طعامًا وودكًا منه‏ .‏
ولما ندب النبي(صلى الله عليه وسلم المسلمين بعد دعائه لمهاجمة هذا الحصن كان بنو أسلم هم المقاديم في المهاجمة ، ودار البراز والقتال أمام الحصن ، ثم فتح الحصن في ذلك اليوم قبل أن تغرب الشمس ، ووجد فيه المسلمون بعض المنجنيقات والدبابات ‏.‏
ولأجل هذه المجاعة الشديدة التي ورد ذكرها في رواية ابن إسحاق ، كان رجال من الجيش قد ذبحوا الحمير ، ونصبوا القدور على النيران ، فلما علم رسول الله(صلى الله عليه وسلم بذلك نهى عن لحوم الحمر الإنسية ‏.‏
غزوة خيبر ووادي القرى في المحرم سنة 7 هـ - فتح قلعة الزبير
وبعد فتح حصن ناعم والصعب تحول اليهود من كل حصون النَّطَاة إلى قلعة الزبير ، وهو حصن منيع في رأس قُلَّةٍ ، لا تقدر عليه الخيل والرجال لصعوبته وامتناعه ، ففرض عليه رسول الله(صلى الله عليه وسلم الحصار ، وأقام محاصرًا ثلاثة أيام ، فجاء رجل من اليهود ، وقال ‏:‏ يا أبا القاسم ، إنك لو أقمت شهرًا ما بالوا ، إن لهم شرابًا وعيونًا تحت الأرض ، يخرجون بالليل ويشربون منها ، ثم يرجعون إلى قلعتهم فيمتنعون منك ، فإن قطعت مشربهم عليهم أصحروا لك‏.‏
فقطع ماءهم عليهم ، فخرجوا فقاتلوا أشد القتال ، قتل فيه نفر من المسلمين ، وأصيب نحو العشرة من اليهود ، وافتتحه رسول الله(صلى الله عليه وسلم .‏
غزوة خيبر ووادي القرى في المحرم سنة 7 هـ - فتح قلعة أبي
وبعد فتح قلعة الزبير انتقل اليهود إلى قلعة أبي وتحصنوا فيه ، وفرض المسلمون عليهم الحصار ، وقام بطلان من اليهود واحد بعد الآخر بطلب المبارزة ، وقد قتلهما أبطال المسلمين ، وكان الذي قتل المبارز الثاني هو البطل المشهور أبو دُجَانة سِمَاك بن خَرَشَة الأنصاري صاحب العصابة الحمراء‏ .‏
وقد أسرع أبو دجانة بعد قتله إلى اقتحام القلعة ، واقتحم معه الجيش الإسلامي ، وجرى قتال مرير ساعة داخل الحصن ، ثم تسلل اليهود من القلعة ، وتحولوا إلى حصن النزار آخر حصن في الشطر الأول ‏.‏
غزوة خيبر ووادي القرى في المحرم سنة 7 هـ - فتح حصن النزار
كان هذا الحصن أمنع حصون هذا الشطر ، وكان اليهود على شبه اليقين بأن المسلمين لا يستطيعون اقتحام هذه القلعة ، وإن بذلوا قصارى جهدهم في هذا السبيل ، ولذلك أقاموا في هذه القلعة مع الذراري والنساء ، بينما كانوا قد أخلوا منها القلاع الأربعة السابقة ‏.‏
وفرض المسلمون على هذا الحصن أشد الحصار ، وصاروا يضغطون عليهم بعنف ، ولكون الحصن يقع على جبل مرتفع منيع لم يكونوا يجدون سبيلاً للاقتحام فيه‏ ،‏ أما اليهود فلم يجترئوا للخروج من الحصن ، وللاشتباك مع قوات المسلمين ، ولكنهم قاوموا المسلمين مقاومة عنيدة برشق النبال ، وبإلقاء الحجارة ‏.‏
وعندما استعصى حصن النزار على قوات المسلمين ، أمر النبي(صلى الله عليه وسلم بنصب آلات المنجنيق ، ويبدو أن المسلمين قذفوا به القذائف ، فأوقعوا الخلل في جدران الحصن ، واقتحموه ، ودار قتال مرير في داخل الحصن انهزم أمامه اليهود هزيمة منكرة ، وذلك لأنهم لم يتمكنوا من التسلل من هذا الحصن كما تسللوا من الحصون الأخرى ، بل فروا من هذا الحصن تاركين للمسلمين نساءهم وذراريهم‏ .‏
وبعد فتح هذا الحصن المنيع تم فتح الشطر الأول من خيبر ، وهي ناحية النَّطَاة والشَّقِّ ، وكانت في هذه الناحية حصون صغيرة أخرى إلا أن اليهود بمجرد فتح هذا الحصن المنيع أخلوا هذه الحصون ، وهربوا إلى الشطر الثاني من بلدة خيبر‏ .‏
غزوة خيبر ووادي القرى في المحرم سنة 7 هـ - فتح الشطر الثاني من خيبر
ولما أتم رسول الله(صلى الله عليه وسلم فتح ناحية النطاة والشق ، تحول إلى أهل الكتيبة التي بها حصن القَمُوص ‏:‏ حصن بني أبي الحُقَيْق من بني النضير ، وحصن الوَطِيح والسُّلالم ، وجاءهم كل فَلِّ كان انهزم من النطاة والشق ، وتحصن هؤلاء أشد التحصن ‏.‏
واختلف أهل المغازي هل جرى هناك قتال في أي حصن من حصونها الثلاثة أم لا‏ ؟‏ فسياق ابن إسحاق صريح في جريان القتال لفتح حصن القموص ، بل يؤخذ من سياقه أن هذا الحصن تم فتحه بالقتال فقط من غير أن يجري هناك مفاوضة للاستسلام ‏.‏
أما الواقدي ، فيصرح تمام التصريح أن قلاع هذا الشطر الثلاث إنما أخذت بعد المفاوضة ، ويمكن أن تكون المفاوضة قد جرت لاستلام حصن القموص بعد إدارة القتال ، وأما الحصنان الآخران فقد سلما إلى المسلمين دونما قتال ‏.‏
ومهما كان ، فلما أتى رسول الله(صلى الله عليه وسلم إلى هذه الناحية ـ الكتيبة ـ فرض على أهلها أشد الحصار ، ودام الحصار أربعة عشر يومًا ، واليهود لا يخرجون من حصونهم ، حتى همّ رسول الله (صلى الله عليه وسلم أن ينصب عليهم المنجنيق ، فلما أيقنوا بالهلكة سألوا رسول الله(صلى الله عليه وسلم الصلح ‏.
غزوة خيبر ووادي القرى في المحرم سنة 7 هـ - المفاوضة
وأرسل ابن أبي الحُقَيْق إلى رسول الله(صلى الله عليه وسلم ‏ :‏ أنزل فأكلمك ‏؟‏ قال ‏:‏ ‏( ‏نعم ‏)‏ ، فنزل ، وصالح على حقن دماء مَنْ في حصونهم من المقاتلة ، وترك الذرية لهم ، ويخرجون من خيبر وأرضها بذراريهم ، ويخلون بين رسول الله(صلى الله عليه وسلم وبين ما كان لهم من مال وأرض ، وعلى الصفراء والبيضاء ـ أي الذهب والفضة ـ والكُرَاع والْحَلْقَة إلا ثوبًا على ظهر إنسان ، فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم ‏:‏ ‏" ‏وبرئت منكم ذمة الله وذمة رسوله إن كتمتموني شيئا‏ً "‏، فصالحوه على ذلك ، وبعد هذه المصالحة تم تسليم الحصون إلى المسلمين ، وبذلك تم فتح خيبر‏ .‏
غزوة خيبر ووادي القرى في المحرم سنة 7 هـ - قتل ابني أبي الحقيق لنقض العهد
على رغم هذه المعاهدة غيب ابنا أبي الحقيق مالاً كثيراً ، غيبا مَسْكًا فيه مال وحُلُي لحيي بن أخطب ، كان احتمله معه إلى خيبر حين أجليت النضير ‏.‏
قال ابن إسحاق ‏:‏ وأتي رسول الله(صلى الله عليه وسلم بكِنَانة الربيع ، وكان عنده كنز بني النضير ، فسأله عنه ، فجحد أن يكون يعرف مكانه ، فأتى رجل من اليهود فقال ‏:‏ إني رأيت كنانة يطيف بهذه الخربة كل غداة ، فقال رسول الله(صلى الله عليه وسلم لكنانة ‏:‏ ‏" ‏أرأيت إن وجدناه عندك أأقتلك‏ ؟‏ "قال ‏:‏ نعم ، فأمر بالخربة ، فحفرت ، فأخرج منها بعض كنزهم ، ثم سأله عما بقي ، فأبى أن يؤديه‏ .‏ فدفعه إلى الزبير ، وقال ‏:‏ عذبه حتى نستأصل ما عنده ، فكان الزبير يقدح بزند في صدره حتى أشرف على نفسه ، ثم دفعه رسول الله(صلى الله عليه وسلم إلى محمد بن مسلمة ، فضرب عنقه بمحمود بن مسلمة ـ وكان محمود قتل تحت جدار حصن ناعم ، ألقي عليه الرحى ، وهو يستظل بالجدار فمات .‏
وذكر ابن القيم أن رسول الله(صلى الله عليه وسلم أمر بقتل ابني أبي الحقيق ، وكان الذي اعترف عليهما بإخفاء المال هو ابن عم كنانة ‏.‏
وسبى رسول الله(صلى الله عليه وسلم صفية بنت حيي بن أخطب ، وكانت تحت كنانة بن أبي الحقيق ، وكانت عروسًا حديثة عهد بالدخول ‏.
غزوة خيبر ووادي القرى في المحرم سنة 7 هـ - قسمة الغنائم
وأراد رسول الله(صلى الله عليه وسلم أن يجلي اليهود من خيبر ، فقالوا ‏:‏ يا محمد ، دعنا نكون في هذه الأرض ، نصلحها ، ونقوم عليها ، فنحن أعلم بها منكم ، ولم يكن لرسول الله(صلى الله عليه وسلم ولا لأصحابه غلمان يقومون عليها ، وكانوا لا يفرغون حتى يقوموا عليها ، فأعطاهم خيبر على أن لهم الشطر من كل زرع ، ومن كل ثمر ، ما بدا لرسول الله(صلى الله عليه وسلم أن يقرهم ، وكان عبد الله بن رواحة يخرصه عليهم ‏.‏
وقسم أرض خيبر على ستة وثلاثين سهمًا ، جمع كل سهم مائة سهم ، فكانت ثلاثة آلاف وستمائة سهم ، فكان لرسول الله(صلى الله عليه وسلم والمسلمين النصف من ذلك وهو ألف وثمانمائة سهم ، لرسول الله(صلى الله عليه وسلم سهم كسهم أحد المسلمين ، وعزل النصف الآخر ، وهو ألف وثمانمائة سهم ، لنوائبه وما يتنزل به من أمور المسلمين ، وإنما قسمت على ألف وثمانمائة سهم لأنها كانت طعمة من الله لأهل الحديبية من شهد منهم ومن غاب ، وكانوا ألفا وأربعمائة ، وكان معهم مائتا فرس ، لكل فرس سهمان ، فقسمت على ألف وثمانمائة سهم ، فصار للفارس ثلاثة أسهم ، وللراجل سهم واحد .‏
ويدل على كثرة مغانم خيبر ما رواه البخاري عن ابن عمر قال ‏:‏ ما شبعنا حتى فتحنا خيبر ، وما رواه عن عائشة قالت‏ :‏ لما فتحت خيبر قلنا ‏:‏ الآن نشبع من التمر ، ولما رجع رسول الله (صلى الله عليه وسلم إلى المدينة رد المهاجرون إلى الأنصار منائحهم التي كانوا منحوهم إياها من النخيل حين صار لهم بخيبر مال ونخيل ‏.
غزوة خيبر ووادي القرى في المحرم سنة 7 هـ - قدوم جعفر بن أبي طالب والأشعريين
وفي هذه الغزوة قدم عليه ابن عمه جعفر بن أبي طالب وأصحابه ، ومعهم الأشعريون أبو موسى وأصحابه‏ .‏
قال أبو موسى ‏:‏ بلغنا مخرج رسول الله(صلى الله عليه وسلم ونحن باليمن ، فخرجنا مهاجرين إليه ـ أنا وأخوان لي ـ في بضع وخمسين رجلاً من قومي ، ركبنا سفينة ، فألقتنا سفينتنا إلى النجاشي بالحبشة ، فوافقنا جعفرًا وأصحابه عنده ، فقال ‏:‏ إن رسول الله(صلى الله عليه وسلم بعثنا وأمرنا بالإقامة ، فأقيموا معنا ، فأقمنا معه حتى قدمنا فوافقنا رسول الله(صلى الله عليه وسلم حين فتح خيبر ، فأسهم لنا ، وما قسم لأحد غاب عن فتح خيبر شيئا إلا لمن شهد معه ، إلا لأصحاب سفينتنا مع جعفر وأصحابه ، قسم لهم معهم‏ .‏
ولما قدم جعفر على النبي(صلى الله عليه وسلم تلقاه وقَبَّلَ ما بين عينيه وقال‏ :‏ ‏" ‏والله ما أدري بأيهما أفرح ؟‏ بفتح خيبر أم بقدوم جعفر ‏" ‏‏.‏
وكان قدوم هؤلاء على أثر بعث الرسول(صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي عمرو بن أمية الضمري يطلب توجيههم إليه ، فأرسلهم النجاشي على مركبين ، وكانوا ستة عشر رجلاً ، معهم من بقي من نسائهم وأولادهم ، وبقيتهم جاءوا إلى المدينة قبل ذلك ‏.
غزوة خيبر ووادي القرى في المحرم سنة 7 هـ - الزواج بصفية
ذكرنا أن صفية جعلت في السبايا حين قتل زوجها كِنَانة بن أبي الحقيق لغدره ، ولما جمع السبي جاء دحية بن خليفة الكلبي ، فقال :‏ يا نبي الله ، أعطني جارية من السبي ، فقال ‏:‏ اذهب فخذ جارية ، فأخذ صفية بنت حيي ، فجاء رجل إلى النبي (صلى الله عليه وسلم فقال‏ :‏ يا نبي الله ، أعطيت دحية صفية بنت حيي سيدة قريظة وبني النضير ، لا تصلح إلا لك ، قال ‏:‏ ‏(‏ ادعوه بها‏ ) ‏‏.‏ فجاء بها ، فلما نظر إليها النبي(صلى الله عليه وسلم قال ‏:‏ ‏( ‏خذ جارية من السبي غيرها‏ ) ‏، وعرض عليها النبي (صلى الله عليه وسلم الإسلام فأسلمت ، فأعتقها وتزوجها ، وجعل عتقها صداقها ، حتى إذا كان بسد الصهباء راجعًا إلى المدينة حلت ، فجهزتها له أم سليم ، فأهدتها له من الليل ، فأصبح عروسًا بها ، وأولم عليها بحيس من التمر والسمن والسَّوِيق ، وأقام عليها ثلاثة أيام في الطريق يبني بها‏ .‏
ورأى بوجهها خضرة ، فقال ‏:‏ ‏(‏ ما هذا ‏؟ ‏‏)‏ قالت ‏:‏ يا رسول الله ، رأيت قبل قدومك علينا كأن القمر زال من مكانه ، وسقط في حجري ، ولا والله ما أذكر من شأنك شيئاً ، فقصصتها على زوجي ، فلطم وجهي‏ .‏ فقال ‏:‏ تمنين هذا الملك الذي بالمدينة ‏.‏
غزوة خيبر ووادي القرى في المحرم سنة 7 هـ - أمر الشاة المسمومة
ولما اطمأن رسول الله(صلى الله عليه وسلم بخيبر بعد فتحها أهدت له زينب بنت الحارث ، امرأة سَلاَّم بن مِشْكَم ، شاة مَصْلِيَّةً ، وقد سألت أي عضو أحب إلى رسول الله(صلى الله عليه وسلم ‏؟‏ فقيل لها ‏:‏ الذراع ، فأكثرت فيها من السم ، ثم سمت سائر الشاة ، ثم جاءت بها ، فلما وضعتها بين يدي رسول الله(صلى الله عليه وسلم تناول الذراع ، فَلاَكَ منها مضغة فلم يسغها ، ولفظها ، ثم قال ‏:‏ ‏( ‏إن هذا العظم ليخبرني أنه مسموم ‏) ‏، ثم دعا بها فاعترفت ، فقال ‏:‏ ‏( ‏ما حملك على ذلك ‏؟ ‏‏)‏ قالت ‏:‏ قلت ‏:‏ إن كان ملكًا استرحت منه ، وإن كان نبيًا فسيخبر ، فتجاوز عنها‏ .‏
وكان معه بِشْر بن البراء بن مَعْرُور ، أخذ منها أكلة فأساغها ، فمات منها‏ .‏
واختلفت الروايات في التجاوز عن المرأة وقتلها ، وجمعوا بأنه تجاوز عنها أولاً ، فلما مات بشر قتلها قصاصاً ‏.
غزوة خيبر ووادي القرى في المحرم سنة 7 هـ - قتلى الفريقين في معارك خيبر
وجملة من استشهد من المسلمين في معارك خيبر ستة عشر رجلاً ، أربعة من قريش وواحد من أشْجَع ، وواحد من أسْلَم ، وواحد من أهل خيبر والباقون من الأنصار ‏.‏
ويقال‏ :‏ إن شهداء المسلمين في هذه المعارك 81 رجلاً‏ .‏
وذكر العلامة المنصور فوري 91 رجلاً، ثم قال‏:‏ إني وجدت بعد التفحص 32 اسماً ، واحد منها في الطبري فقط ، وواحد عند الواقدي فقط ، وواحد مات لأجل أكل الشاة المسمومة ، وواحد اختلفوا هل قتل في بدر أو خيبر ، والصحيح أنه قتل في بدر ‏.‏
أما قتلى اليهود فعددهم ثلاثة وتسعون قتيلاً‏ .‏

غزوة خيبر ووادي القرى في المحرم سنة 7 هـ - فدك
ولما بلغ رسول الله(صلى الله عليه وسلم) إلى خيبر، بعث مُحَيِّصَة بن مسعود إلى يهود فَدَك ، ليدعوهم إلى الإسلام ، فأبطأوا عليه ، فلما فتح الله خيبر قذف الرعب في قلوبهم ، فبعثوا إلى رسول الله(صلى الله عليه وسلم يصالحونه على النصف من فدك بمثل ما عامل عليه أهل خيبر ، فقبل ذلك منهم ، فكانت فدك لرسول الله(صلى الله عليه وسلم خالصة ، لأنه لم يُوجِف عليه المسلمون بخيل ولا ركاب ‏.

غزوة خيبر ووادي القرى في المحرم سنة 7 هـ - وادي القرى
ولما فرغ رسول الله(صلى الله عليه وسلم) من خيبر، انصرف إلى وادي القرى ، وكان بها جماعة من اليهود ، وانضاف إليهم جماعة من العرب ‏.‏
فلما نزلوا استقبلتهم يهود بالرمي ، وهم على تعبئة ، فقتل مِدْعَم ـ عَبْدٌ لرسول الله(صلى الله عليه وسلم) ـ فقال الناس ‏:‏ هنيئا له الجنة ، فقال النبي(صلى الله عليه وسلم) ‏:‏ "‏كلا ، والذي نفسي بيده ، إن الشَّمْلَة التي أخذها يوم خيبر من المغانم ، لم تصبها المقاسم ، لتشتعل عليه نارًا‏ "‏ ، فلما سمع بذلك الناس جاء رجل إلى النبي(صلى الله عليه وسلم) بشِرَاك أو شراكين ، فقال النبي(صلى الله عليه وسلم) :‏ "‏شراك من نار أو شراكان من نار "‏‏.‏
ثم عَبَّأ رسول الله(صلى الله عليه وسلم) أصحابه للقتال ، وصَفَّهم ، ودفع لواءه إلى سعد بن عبادة ، وراية إلى الحُبَاب بن المنذر ، وراية إلى سهل بن حُنَيْف ، وراية إلى عباد بن بشر ، ثم دعاهم إلى الإسلام فأبوا ، وبرز رجل منهم ، فبرز إليه الزبير بن العوام فقتله ، ثم برز آخر فقتله ، ثم برز آخر فبرز إليه علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقتله ، حتى قتل منهم أحد عشر رجلاً ، كلما قتل منهم رجل دعا من بقي إلى الإسلام ‏.‏
وكانت الصلاة تحضر هذا اليوم ، فيصلي بأصحابه ، ثم يعود ، فيدعوهم إلى الإسلام وإلى الله ورسوله ، فقاتلهم حتى أمسوا ، وغدا عليهم فلم ترتفع الشمس قيد رمح حتى أعطوا ما بأيديهم ، وفتحها عنوة ، وغَنَّمَهُ اللهُ أموالهم ، وأصابوا أثاثا ومتاعًا كثيرًا‏ .‏
وأقام رسول الله(صلى الله عليه وسلم) بوادي القري أربعة أيام ‏.، وقسم على أصحابه ما أصاب بها ، وترك الأرض والنخل بأيدي اليهود ، وعاملهم عليها ـ كما عامل أهل خيبر ‏.‏
غزوة خيبر ووادي القرى في المحرم سنة 7 هـ - تيماء
ولما بلغ يهود تيماء خبر استسلام أهل خيبر ثم فَدَك ووادي القُرَى ، لم يبدوا أي مقاومة ضد المسلمين ، بل بعثوا من تلقاء أنفسهم يعرضون الصلح ، فقبل ذلك منهم رسول الله(صلى الله عليه وسلم) ، وأقاموا بأموالهم‏ .‏،وكتب لهم بذلك كتاباً وهاك نصه‏ :‏
هذا كتاب محمد رسول الله لبني عاديا ، أن لهم الذمة ، وعليهم الجزية ، ولا عداء ولا جلاء ، الليل مد ، والنهار شد ، وكتب خالد بن سعيد ‏.‏
غزوة خيبر ووادي القرى في المحرم سنة 7 هـ - العودة إلى المدينة
ثم أخذ رسول الله(صلى الله عليه وسلم) في العودة إلى المدينة ، وفي مرجعه ذلك سار النبي (صلى الله عليه وسلم)ليلة ، ثم نام في آخر الليل ببعض الطريق، وقال لبلال ‏:‏ ‏( ‏اكلأ لنا الليل ‏) ‏، فغلبت بلالاً عيناه ، وهو مستند إلى راحلته ، فلم يستيقظ أحد ، حتى ضربتهم الشمس ، وأول من استيقظ بعد ذلك رسول الله(صلى الله عليه وسلم) ، ثم خرج من ذلك الوادي ، وتقدم ، ثم صلى الفجر بالناس ، وقيل ‏:‏ إن هذه القصة في غير هذا السفر‏.‏
وبعد النظر في تفصيل معارك خيبر ، يبدو أن رجوع النبي(صلى الله عليه وسلم) كان في أواخر صفر أو في ربيع الأول سنة 7 هـ‏ .‏
غزوة خيبر ووادي القرى في المحرم سنة 7 هـ - سرية أبان بن سعيد
كان النبي(صلى الله عليه وسلم) يعرف أكثر من كل قائد عسكري أن إخلاء المدينة تماماً بعد انقضاء الأشهر الحرم ليس من الحزم قطعًا ، بينما الأعراب ضاربة حولها ، تطلب غرة المسلمين للقيام بالنهب والسلب وأعمال القرصنة ، ولذلك أرسل سرية إلى نجد لإرهاب الأعراب تحت قيادة أبان بن سعيد ، بينما كان هو إلى خيبر ، وقد رجع أبان بن سعيد بعد قضاء ما كان واجبًا عليه ، فوافى النبي (صلى الله عليه وسلم)بخيبر ، وقد افتتحها‏ .‏
والأغلب أن هذه السرية كانت في صفر سنة 7هـ ، وقد ورد ذكرها في البخاري ‏.‏
قال ابن حجر‏:‏ لم أعرف حال هذه السرية‏.‏
العتمه غير متواجد حالياً  
قديم 22-02-2008, 10:57 AM   #33
العتمه
 
الصورة الرمزية العتمه
 







 
العتمه is on a distinguished road
افتراضي رد : تعرف على حبيبك

غزوة ذات الرقاع


ولما فرغ رسول الله (صلى الله عليه وسلم) من كسر جناحين قويين من أجنحة الأحزاب الثلاثة تفرغ تمامًا للالتفات إلى الجناح الثالث ، أي إلى الأعراب القساة الضاربين في فيافي نجد ، والذين ما زالوا يقومون بأعمال النهب والسلب بين آونة وأخرى ‏.‏
ولما كان هؤلاء البدو لا تجمعهم بلدة أو مدينة ، ولم يكونوا يقطنون الحصون والقلاع ، كانت الصعوبة في فرض السيطرة عليهم وإخماد نار شرهم تمامًا تزداد بكثير عما كانت بالنسبة إلى أهل مكة وخيبر ، ولذلك لم تكن تجدي فيهم إلا حملات التأديب والإرهاب ، وقام المسلمون بمثل هذه الحملات مرة بعد أخرى ‏.‏
ولفرض الشوكة ـ أو لاجتماع البدو الذين كانوا يتحشدون للإغارة على أطراف المدينة ـ قام رسول الله(صلى الله عليه وسلم) بحملة تأديبية عرفت بغزوة ذات الرقاع ‏.‏
وعامة أهل المغازي يذكرون هذه الغزوة في السنة الرابعة ، ولكن حضور أبي موسى الأشعري وأبي هريرة رضي الله عنهما في هذه الغزوة يدل على وقوعها بعد خيبر ، والأغلب أنها وقعت في شهر ربيع الأول سنة 7 هـ‏ .‏
وملخص ما ذكره أهل السير حول هذه الغزوة‏ :‏ أن النبي(صلى الله عليه وسلم) سمع باجتماع بني أنمار أو بني ثعلبة وبني مُحَارِب من غطفان ، فأسرع بالخروج إليهم في أربعمائة أو سبعمائة من أصحابه ، واستعمل على المدينة أبا ذر أو عثمان بن عفان رضي الله عنهما ، وسار فتوغل في بلادهم حتى وصل إلى موضع يقال له ‏:‏ نخل ، على بعد يومين من المدينة ، ولقي جمعاً من غطفان ، فتقاربوا وأخاف بعضهم بعضاً ولم يكن بينهم قتال ، إلا أنه صلي بهم يومئذ صلاة الخوف ‏. ‏وفي رواية البخاري ‏:‏ وأقيمت الصلاة فصلى بطائفة ركعتين ، ثم تأخروا ، وصلى بالطائفة الأخري ركعتين ، وكان للنبي(صلى الله عليه وسلم) أربع ، وللقوم ركعتان ‏.‏
وفي البخاري عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنهم قال ‏:‏ خرجنا مع رسول الله(صلى الله عليه وسلم) ونحن ستة نفر بيننا بعير نعتقبه ، فنقبت أقدامنا ، ونقبت قدماي ، وسقطت أظفاري ، فكنا نلف على أرجلنا الخرق ، فسميت ذات الرقاع ، لما كنا نعصب الخرق على أرجلنا ‏.‏
وفيه عن جابر‏:‏ كنا مع النبي(صلى الله عليه وسلم) بذات الرقاع ، فإذا أتينا على شجرة ظليلة تركناها للنبي(صلى الله عليه وسلم) ، فنزل رسول الله(صلى الله عليه وسلم) فتفرق الناس في العضاة ، يستظلون بالشجر ، ونزل رسول الله(صلى الله عليه وسلم) تحت شجرة فعلق بها سيفه ‏.‏ قال جابر ‏:‏ فنمنا نومة ، فجاء رجل من المشركين ‏:‏ فاخترط سيف رسول الله(صلى الله عليه وسلم) ، فقال‏ :‏ أتخافني‏ ؟‏ قال ‏:‏ ‏( ‏لا ‏) ‏، قال ‏:‏ فمن يمنعك مني ‏؟‏ قال ‏:‏ ‏( ‏الله ‏)‏ ‏.‏ قال جابر ‏:‏ فإذا رسول الله(صلى الله عليه وسلم) يدعونا ، فجئنا ، فإذا عنده أعرابي جالس ‏.‏ فقال رسول الله(صلى الله عليه وسلم) :‏ ‏( ‏إن هذا اخترط سيفي وأنا نائم ، فاستيقظت وهو في يده صَلْتًا‏ .‏ فقال لي‏ :‏ من يمنعك مني ‏؟‏ قلت ‏:‏ الله ، فها هو ذا جالس‏ ) ‏، ثم لم يعاتبه رسول الله(صلى الله عليه وسلم) ‏.‏ وفي رواية أبي عوانة ‏:‏ فسقط السيف من يده ، فأخذه رسول الله(صلى الله عليه وسلم) ، فقال‏ :‏ ‏( ‏من يمنعك مني ‏؟ ‏‏)‏ قال ‏:‏ كـن خـير آخـذ ، قال‏ :‏ ‏( ‏تشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله ‏؟ ‏‏)‏ قال الأعرابي‏ :‏ أعاهدك على ألا أقاتلك ، ولا أكون مع قوم يقاتلونك ، قال‏ :‏ فخلى سبيله ، فجاء إلى قومه ، فقال ‏:‏ جئتكم من عند خير الناس ‏.‏
وفي رواية البخاري‏: ‏ قال مسدد عن أبي عوانة عن أبي بشر ‏:‏ اسم الرجل غَوْرَث ابن الحارث ‏. ‏قال ابن حجر ‏:‏ ووقع عند الواقدي في سبب هذه القصة ‏:‏ أن اسم الأعرابي دُعْثُور ، وأنه أسلم ، لكن ظاهر كلامه أنهما قصتان في غزوتين ‏.‏ والله أعلم ‏.‏
وفي مرجعهم من هذه الغزوة سبوا امرأة من المشركين ، فنذر زوجها ألا يرجع حتى يهريق دماً في أصحاب محمد(صلى الله عليه وسلم) ، فجاء ليلاً ، وقد أرصد رسول الله(صلى الله عليه وسلم) رجلين رَبِيئة للمسلمين من العدو ، وهما عباد بن بشر وعمار بن ياسر ، فضرب عباداً ، وهو قائم يصلي ، بسهم فنزعه ، ولم يبطل صلاته ، حتى رشقه بثلاثة أسهم ، فلم ينصرف منها حتى سلم ، فأيقظ صاحبه ، فقال‏ :‏ سبحان الله ‏!‏ هلا نبهتني ، فقال‏ :‏ إني كنت في سورة فكرهت أن أقطعها‏ .‏
كان لهذه الغزوة أثر في قذف الرعب في قلوب الأعراب القساة ، وإذا نظرنا إلى تفاصيل السرايا بعد الغزوة نرى أن هذه القبائل من غطفان لم تجترئ أن ترفع رأسها بعد هذه الغزوة ، بل استكانت شيئاً فشيئاً حتى استسلمت ، بل وأسلمت ، حتى نرى عدة قبائل من هذه الأعراب تقوم مع المسلمين في فتح مكة ، وتغزو حُنَيْناً ، وتأخذ من غنائمها ، ويبعث إليها المصدقون فتعطي صدقاتها بعد الرجوع من غزوة الفتح ، فبهذا تم كسر الأجنحة الثلاثة التي كانت ممثلة في الأحزاب ، وساد المنطقة الأمن والسلام ، واستطاع المسلمون بعد ذلك أن يسدوا بسهولة كل خلل وثلمة حدثت في بعض المناطق من بعض القبائل ، بل بعد هذه الغزوة بدأت التمهيدات لفتوح البلدان والممالك الكبيرة ، لأن الظروف في داخل البلاد كانت قد تطورت لصالح الإسلام والمسلمين ‏.‏
وبعد الرجوع من هذه الغزوة أقام رسول الله(صلى الله عليه وسلم) إلى شوال سنة 7 هـ‏ .‏
وبعث في خلال ذلك عدة سرايا‏ ،‏ وهاك بعض تفصيلها‏ :‏
1 ـ سرية غالب بن عبد الله الليثي إلى بني المُلَوَّح بُقدَيْد ، في صفر أو ربيع الأول سنة 7 هـ ‏.‏ كان بنو الملوح قد قتلوا أصحاب بشير بن سُوَيْد ، فبعثت هذه السرية لأخذ الثأر ، فشنوا الغارة في الليل فقتلوا من قتلوا ، وساقوا النعم ، وطاردهم جيش كبير من العدو ، حتى إذا قرب من المسلمين نزل مطر ، فجاء سيل عظيم حال بين الفريقين ‏.‏ ونجح المسلمون في بقية الانسحاب ‏.‏
2 ـ سرية حِسْمَى ، في جمادى الثانية سنة 7 هـ ، وقد مضى ذكرها في مكاتبة الملوك‏ .‏
3 ـ سرية عمر بن الخطاب إلى تُرَبَة ، في شعبان سنة 7 هـ ، ومعه ثلاثون رجلاً‏ .‏ كانوا يسيرون الليل ويستخفون في النهار ، وأتى الخبر إلى هوازن فهربوا ، وجاء عمر إلى محالهم فلم يلق أحداً ، فانصرف راجعاً إلى المدينة ‏.‏
4 ـ سرية بشير بن سعد الأنصاري إلى بني مرة بناحية فَدَك ، في شعبان سنة 7هـ في ثلاثين رجلاً ‏.‏ خرج إليهم واستاق الشاء والنعم ، ثم رجع فأدركه الطلب عند الليل ، فرموهم بالنبل حتى فني نبل بشير وأصحابه ، فقتلوا جميعاً إلا بشير ، فإنه ارْتُثَّ إلى فدك ، فأقام عند يهود حتى برأت جراحه ، فرجع إلى المدينة‏ .‏
5 ـ سرية غالب بن عبد الله الليثي ، في رمضان سنة 7 هـ إلى بني عُوَال وبني عبد ابن ثعلبة بالمَيْفَعَة ، وقيل إلى الحُرَقَات من جُهَيْنَة ، في مائة وثلاثين رجلاً ، فهجموا عليهم جميعاً ، وقتلوا من أشرف لهم ، واستاقوا نعما وشاء ، وفي هذه السرية قتل أسامةُ بن زيد نَهِيكَ بن مِرْدَاس بعد أن قال ‏:‏ لا إله إلا الله ، فلما قدموا وأخبر النبي(صلى الله عليه وسلم) ، كبر عليه وقال ‏:‏ ‏( ‏أقتلته بعد ما قال ‏:‏ لا إله إلا الله‏ ؟‏ ‏)‏ فقال ‏:‏ إنما قالها متعوذاً قال ‏:‏ ‏( ‏فهلا شققت عن قلبه فتعلم أصادق هو أم كاذب‏ ؟‏‏ ) ‏‏.‏
6 ـ سرية عبد الله بن رواحة إلى خيبر ، في شوال سنة 7 هـ في ثلاثين راكبًا‏ .‏ وذلك أن أسِير أو بشير بن زارم كان يجمع غطفان لغزو المسلمين ، فأخرجوا أسيرًا في ثلاثين من أصحابه ، وأطمعوه أن الرسول(صلى الله عليه وسلم) يستعمله على خيبر ، فلما كانوا بقَرْقَرَة نِيَار وقع بين الفريقين سوء ظن أفضى إلى قتل أسير وأصحابه الثلاثين‏ .‏ ذكر الواقدي هذه السرية في شوال سنة ست قبل خيبر بأشهر ‏.‏
7 ـ سرية بشير بن سعد الأنصاري إلى يمن وجَبار ‏[ ‏بالفتح ، أرض لغطفان ، وقيل ‏:‏ لفَزَارَة وعُذْرَة ‏] ‏، في شوال سنة 7 هـ في ثلاثمائة من المسلمين ، للقاء جمع كبير تجمعوا للإغارة على أطراف المدينة ، فساروا الليل وكمنوا النهار ، فلما بلغهم مسير بشير هربوا ، وأصاب بشير نعما كثيرة ، وأسر رجلين ، فقدم بهما المدينة إلى رسول الله(صلى الله عليه وسلم) فأسلما ‏.‏
8 ـ سرية أبي حَدْرَد الأسلمي إلى الغابة ، ذكرها ابن القيم في سرايا السنة السابعة قبل عمرة القضاء ، وملخصها ‏:‏ أن رجلاً من جُشَم بن معاوية أقبل في عدد كبير إلى الغابة ، يريد أن يجمع قيسًا على محاربة المسلمين ‏.‏ فبعث رسول الله(صلى الله عليه وسلم) أبا حدرد مع رجلين ليأتوا منه بخبر وعلم ، فوصلوا إلى القوم مع غروب الشمس ، فكمن أبو حدرد في ناحية ، وصاحباه في ناحية أخرى ، وأبطأ على القوم راعيهم حتى ذهبت فحمة العشاء ، فقام رئيس القوم وحده ، فلما مر بأبي حدرد رماه بسهم في فؤاده فسقط ولم يتكلم ، فاحتز أبو حدرد رأسه ، وشد في ناحية العسكر ، وكبر ، وكبر صاحباه وشدا ، فما كان من القوم إلا الفرار ، واستاق المسلمون الثلاثة الكثير من الإبل والغنم ‏.‏
العتمه غير متواجد حالياً  
قديم 22-02-2008, 10:59 AM   #34
العتمه
 
الصورة الرمزية العتمه
 







 
العتمه is on a distinguished road
افتراضي رد : تعرف على حبيبك





وفي اليوم الذي رجع فيه رسول الله إلى المدينة ، جاءه جبريل عليه السلام عند الظهر ، وهو يغتسل في بيت أم سلمة ، فقال ‏:‏ أو قد وضعت السلاح ‏؟‏ فإن الملائكة لم تضع أسلحتهم ، وما رجعت الآن إلا من طلب القوم ، فانهض بمن معك إلى بني قريظة ، فإني سائر أمامك أزلزل بهم حصونهم ، وأقذف في قلوبهم الرعب ، فسار جبريل في موكبه من الملائكة ‏.‏
وأمر رسول الله(صلى الله عليه وسلم) مؤذناً فأذن في الناس ‏:‏ من كان سامعاً مطيعاً فلا يصَلِّينَّ العصر إلا ببني قريظة ، واستعمل على المدينة ابن أم مكتوم ، وأعطى الراية علي بن أبي طالب ، وقدّمه إلى بني قريظة ، فسار علي حتى إذا دنا من حصونهم سمع منها مقالة قبيحة لرسول الله(صلى الله عليه وسلم) ‏.‏
وخرج رسول الله(صلى الله عليه وسلم) في موكبه من المهاجرين والأنصار ، حتى نزل على بئر من آبار قريظة يقال لها ‏:‏ بئر أنَّا‏ .‏ وبادر المسلمون إلى امتثال أمره ، ونهضوا من فورهم ، وتحركوا نحو قريظة ، وأدركتهم العصر في الطريق فقال بعضهم ‏:‏ لا نصليها إلا في بني قريظة كما أمرنا ، حتى إن رجالاً منهم صلوا العصر بعد العشاء الآخرة ، وقال بعضهم‏ :‏ لم يرد منا ذلك ، وإنما أراد سرعة الخروج ، فصلوها في الطريق ، فلم يعنف واحدة من الطائفتين ‏.‏
هكذا تحرك الجيش الإسلامي نحو بني قريظة أرسالاً حتى تلاحقوا بالنبي(صلى الله عليه وسلم) ، وهم ثلاثة آلاف ، والخيل ثلاثون فرساً ، فنازلوا حصون بني قريظة ، وفرضوا عليهم الحصار‏ .‏
ولما اشتد عليهم الحصار عرض عليهم رئيسهم كعب بن أسد ثلاث خصال ‏:‏ إما أن يسلموا ويدخلوا مع محمد(صلى الله عليه وسلم) في دينه ، فيأمنوا على دمائهم وأموالهم وأبنائهم ونسائهم ـ وقد قال لهم ‏:‏ والله ، لقد تبين لكم أنه لنبي مرسل ، وأنه الذي تجدونه في كتابكم ـ وإما أن يقتلوا ذراريهم ونساءهم بأيديهم ، ويخرجوا إلى النبي(صلى الله عليه وسلم) بالسيوف مُصْلِِتِين ، يناجزونه حتى يظفروا بهم ، أو يقتلوا عن آخرهم ، وإما أن يهجموا على رسول الله(صلى الله عليه وسلم) وأصحابه ، ويكبسوهم يوم السبت ، لأنهم قد أمنوا أن يقاتلوهم فيه ، فأبوا أن يجيبوه إلى واحدة من هذه الخصال الثلاث ، وحينئذ قال سيدهم كعب بن أسد ـ في انزعاج وغضب ‏:‏ ما بات رجل منكم منذ ولدته أمه ليلة واحدة من الدهر حازماً ‏.‏
ولم يبق لقريظة بعد رد هذه الخصال الثلاث إلا أن ينزلوا على حكم رسول الله(صلى الله عليه وسلم) ، ولكنهم أرادوا أن يتصلوا ببعض حلفائهم من المسلمين ، لعلهم يتعرفون ماذا سيحل بهم إذا نزلوا على حكمه ، فبعثوا إلى رسول الله(صلى الله عليه وسلم) أن أرسل إلينا أبا لُبَابة نستشيره ، وكان حليفاً لهم ، وكانت أمواله وولده في منطقتهم ، فلما رأوه قام إليه الرجال ، وجَهَشَ النساء والصبيان يبكون في وجهه ، فَرَقَّ لهم، وقالوا ‏:‏ يا أبا لبابة ، أترى أن ننزل على حكم محمد‏ ؟‏ قال ‏:‏ نعم ، وأشار بيده إلى حلقه ، يقول ‏:‏ إنه الذبح ، ثم علم من فوره أنه خان الله ورسوله فمضى على وجهه ، ولم يرجع إلى رسول الله(صلى الله عليه وسلم) حتى أتى المسجد النبوي بالمدينة ، فربط نفسه بسارية المسجد ، وحلف ألا يحله إلا رسول الله(صلى الله عليه وسلم) بيده ، وأنه لا يدخل أرض بني قريظة أبداً ‏.‏ فلما بلغ رسول الله(صلى الله عليه وسلم) خبره ـ وكان قد استبطأه ـ قال ‏:‏ ‏" أما إنه لو جاءني لاستغفرت له ، أما إذ قد فعل ما فعل فما أنا بالذي أطلقه من مكانه حتى يتوب الله عليه‏ "‏‏.‏
وبرغم ما أشار إليه أبو لبابة قررت قريظة النزول على حكم رسول الله(صلى الله عليه وسلم) ، ولقد كان باستطاعة اليهود أن يتحملوا الحصار الطويل ، لتوفر المواد الغذائية والمياه والآبار ومناعة الحصون ، ولأن المسلمين كانوا يقاسون البرد القارس والجوع الشديد وهم في العراء ، مع شدة التعب الذي اعتراهم ، لمواصلة الأعمال الحربية من قبل بداية معركة الأحزاب ، إلا أن حرب قريظة كانت حرب أعصاب ، فقد قذف الله في قلوبهم الرعب ، وأخذت معنوياتهم تنهار ، وبلغ هذا الانهيار إلى نهايته أن تقدم علي بن أبي طالب والزبير بن العوام ، وصاح علي ‏:‏ يا كتيبة الإيمان ، والله لأذوقن ما ذاق حمزة أو لأفتحن حصنهم ‏.‏
وحينئذ بادروا إلى النزول على حكم رسول الله(صلى الله عليه وسلم) ، وأمر رسول الله(صلى الله عليه وسلم) باعتقال الرجال ، فوضعت القيود في أيديهم تحت إشراف محمد بن مسلمة الأنصاري ، وجعلت النساء والذراري بمعزل عن الرجال في ناحية ، وقامت الأوس إلى رسول الله(صلى الله عليه وسلم) فقالوا ‏:‏ يا رسول الله ، قد فعلت في بني قينقاع ما قد علمت ، وهم حلفاء إخواننا الخزرج ، وهؤلاء موالينا ، فأحسن فيهم ، فقال ‏:‏ ‏( ‏ألا ترضون أن يحكم فيهم رجل منكم‏ ؟ ‏‏)‏ قالوا ‏:‏ بلى ‏.‏ قال ‏:‏ ‏( ‏فذاك إلى سعد بن معاذ ‏) ‏‏.‏ قالوا ‏:‏ قد رضينا ‏.‏
فأرسل إلى سعد بن معاذ ، وكان في المدينة لم يخرج معهم للجرح الذي كان قد أصاب أكْحُلَه في معركة الأحزاب‏ .‏ فأُركب حماراً ، وجاء إلى رسول الله(صلى الله عليه وسلم) ، فجعلوا يقولون ، وهم كَنَفَيْهِ ‏:‏ يا سعد ، أجمل في مواليك ، فأحسن فيهم ، فإن رسول الله قد حكمك لتحسن فيهم ، وهو ساكت لا يرجع إليهم شيئاً ، فلما أكثروا عليه قال ‏:‏ لقد آن لسعد ألا تأخذه في الله لومة لائم ، فلما سمعوا ذلك منه رجع بعضهم إلى المدينة فنعى إليهم القوم‏ .‏
ولما انتهى سعد إلى النبي(صلى الله عليه وسلم) قال للصحابة ‏:‏ ‏( ‏قوموا إلى سيدكم‏ ) ‏، فلما أنزلوه قالوا ‏:‏ يا سعد ، إن هؤلاء قد نزلوا على حكمك ‏.‏ قال ‏:‏ وحكمي نافذ عليهم ‏؟‏ قالوا ‏:‏ نعم‏.‏ قال‏:‏ وعلى المسلمين ‏؟‏ قالوا ‏:‏ نعم ، قال ‏:‏ وعلى من هاهنا‏ ؟‏ وأعرض بوجهه وأشار إلى ناحية رسول الله(صلى الله عليه وسلم) إجلالاً له وتعظيمًا‏ .‏ قال ‏:‏ ‏( ‏نعم ، وعلي‏ )‏ ‏.‏ قال ‏:‏ فإني أحكم فيهم أن يقتل الرجال ، وتسبى الذرية ، وتقسم الأموال ، فقال رسول الله(صلى الله عليه وسلم) ‏:‏ ‏" ‏لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبع سموات "‏‏.‏
وكان حكم سعد في غاية العدل والإنصاف ، فإن بني قريظة ، بالإضافة إلى ما ارتكبوا من الغدر الشنيع ، كانوا قد جمعوا لإبادة المسلمين ألفاً وخمسمائة سيف ، وألفين من الرماح، وثلاثمائة درع ، وخمسمائة ترس ، وحَجَفَة ، حصل عليها المسلمون بعد فتح ديارهم ‏.‏
وأمر رسول الله(صلى الله عليه وسلم) فحبست بنو قريظة في دار بنت الحارث امرأة من بني النجار ، وحفرت لهم خنادق في سوق المدينة ، ثم أمر بهم ، فجعل يذهب بهم إلى الخنادق أرسالاً أرسالاً ، وتضرب في تلك الخنادق أعناقهم ‏.‏ فقال من كان بعد في الحبس لرئيسهم كعب بن أسد ‏:‏ ما تراه يصنع بنا ‏؟‏ فقال‏ :‏ أفي كل موطن لا تعقلون ‏؟‏ أما ترون الداعي لا ينزع‏ ؟‏ والذاهب منكم لا يرجع ‏؟‏ هو والله القتل ـ وكانوا ما بين الستمائة إلى السبعمائة ، فضربت أعناقهم ‏.‏
وهكذا تم استئصال أفاعي الغدر والخيانة ، الذين كانوا قد نقضوا الميثاق المؤكد ، وعاونوا الأحزاب على إبادة المسلمين في أحرج ساعة كانوا يمرون بها في حياتهم ، وكانوا قد صاروا بعملهم هذا من أكابر مجرمي الحروب الذين يستحقون المحاكمة والإعدام ‏.‏
وقتل مع هؤلاء شيطان بني النضير ، وأحد أكابر مجرمي معركة الأحزاب حيي بن أخطب والد صفية أم المؤمنين رضي الله عنها كان قد دخل مع بني قريظة في حصنهم حين رجعت عنهم قريش وغطفان ، وفاء لكعب بن أسد بما كان عاهده عليه حينما جاء يثيره على الغدر والخيانة أيام غزوة الأحزاب ، فلما أتي به ـ وعليه حُلَّة قد شقها من كل ناحية بقدر أنملة لئلا يُسْلَبَها ـ مجموعة يداه إلى عنقه بحبل ، قال لرسول الله(صلى الله عليه وسلم) ‏:‏ أما والله ما لمت نفسي في معاداتك ، ولكن من يُغالب الله يُغْلَب ‏.‏ ثم قال ‏:‏ أيها الناس ، لا بأس بأمر الله ، كتاب وقَدَر ومَلْحَمَة كتبها الله على بني إسرائيل ، ثم جلس ، فضربت عنقه ‏.‏
وقتل من نسائهم امرأة واحدة كانت قد طرحت الرحى على خَلاَّد بن سُوَيْد فقتلته ، فقتلت لأجل ذلك ‏.‏
وكان قد أمر رسول الله بقتل من أنْبَتَ ، وترك من لم ينبت ، فكان ممن لم ينبت عطية القُرَظِي ، فترك حياً فأسلم ، وله صحبة ‏.‏
واستوهب ثابت بن قيس ، الزبير بن باطا وأهله وماله ـ وكانت للزبير يد عند ثابت ـ فوهبهم له رسول الله(صلى الله عليه وسلم) ، فقال له ثابت بن قيس ‏:‏ قد وهبك رسول الله(صلى الله عليه وسلم) إلى ، ووهب لي مالك وأهلك فهم لك ‏.‏ فقال الزبير بعد أن علم بمقتل قومه ‏:‏ سألتك بيدي عندك يا ثابت إلا ألحقتني بالأحبة ، فضرب عنقه ، وألحقه بالأحبة من اليهود ، واستحيا ثابت من ولد الزبير بن باطا عبد الرحمن بن الزبير، فأسلم وله صحبة‏ .‏
واستوهبت أم المنذر سلمي بنت قيس النجارية رفاعة بن سموأل القرظي ، فوهبه لها فاستحيته ، فأسلم وله صحبة ‏.‏
وأسلم منهم تلك الليلة نفر قبل النزول، فحقنوا دماءهم وأموالهم وذراريهم‏.‏
وخرج تلك الليلة عمرو بن سعدي ـ وكان رجلاً لم يدخل مع بني قريظة في غدرهم برسول الله(صلى الله عليه وسلم) ـ فرآه محمد بن مسلمة قائد الحرس النبوي ، فخلى سبيله حين عرفه ، فلم يعلم أين ذهب ‏.‏
وقسم رسول الله(صلى الله عليه وسلم) أموال بني قريظة بعد أن أخرج منها الخمس ، فأسهم للفارس ثلاثة أسهم ، سهمان للفرس وسهم للفارس ، وأسهم للراجل سهماً واحداً ، وبعث من السبايا إلى نجد تحت إشراف سعد بن زيد الأنصاري فابتاع بها خيلاً وسلاحاً‏ .‏
واصطفى رسول الله(صلى الله عليه وسلم) لنفسه من نسائهم رَيْحَانة بنت عمرو بن خُنَافة ، فكانت عنده حتى توفي عنها وهي في ملكه ، هذا ما قاله ابن إسحاق‏ .‏ وقــال الكلبي‏ :‏ إنه(صلى الله عليه وسلم) أعتقها ، وتزوجها سنة 6 هـ ، وماتت مرجعـه مـن حجة الـوداع ، فدفنها بالبقيـع ‏.‏
ولما تم أمر قريظة أجيبت دعوة العبد الصالح سعد بن معاذ رضي الله عنه ـ التي قدمنا ذكرها في غزوة الأحزاب ـ وكان النبي(صلى الله عليه وسلم) قد ضرب له خيمة في المسجد ليعوده من قريب ، فلما تم أمر قريظة انتقضت جراحته ‏.‏ قالت عائشة ‏:‏ فانفجرت من لَبَّتِهِ فلم يَرُعْهُمْ ـ وفي المسجد خيمة من بني غفار ـ إلا والدم يسيل إليهم ، فقالوا‏ :‏ يا أهل الخيمة ، ما هذا الذي يأتينا من قبلكم ، فإذا سعد يغذو جرحه دماً ، فمات منها ‏.‏
وفي الصحيحين عن جابر أن رسول الله(صلى الله عليه وسلم) قال ‏:‏ ‏" ‏اهتز عرش الرحمن لموت سعد بن معاذ‏ "‏‏.‏ وصحح الترمذي من حديث أنس قال‏ :‏ لما حملت جنازة سعد بن معاذ قال المنافقون‏ :‏ ما أخف جنازته ، فقال رسول الله(صلى الله عليه وسلم) ‏:‏ "‏إن الملائكة كانت تحمله "‏‏.‏
قتل في حصار بني قريظة رجل واحد من المسلمين ، وهو خلاد بن سُوَيْد الذي طرحت عليه الرحى امرأة من قريظة ‏.‏ ومات في الحصار أبو سِنان بن مِحْصَن أخو عُكَّاشَة ‏.‏
وأما أبو لُبابة ، فأقام مرتبطاً بالجذع ست ليال ، تأتيه امرأته في وقت كل صلاة فتحله للصلاة ، ثم يعود فيرتبط بالجذع ، ثم نزلت توبته على رسول الله(صلى الله عليه وسلم) سَحَرًا وهو في بيت أم سلمة ، فقامت على باب حجرتها ، وقالت ‏:‏ يا أبا لبابة ، أبشر فقد تاب الله عليك ، فثار الناس ليطلقوه ، فأبى أن يطلقه أحد إلا رسول الله(صلى الله عليه وسلم) ، فلما مر النبي(صلى الله عليه وسلم) خارجاً إلى صلاة الصبح أطلقه ‏.‏
وقعت هــذه الغــزوة فـي ذي القعدة سنـة 5 هـ ، ودام الحصار خمساً وعشريـن ليلة‏ .‏
وأنزل الله تعالى في غزوة الأحزاب وبني قريظة آيات من سورة الأحزاب ، ذكر فيها أهم جزئيات الوقعة ، وبين حال المؤمنين والمنافقين ، ثم تخذيل الأحزاب ، ونتائج الغدر من أهل الكتاب ‏.
العتمه غير متواجد حالياً  
قديم 22-02-2008, 11:03 AM   #35
العتمه
 
الصورة الرمزية العتمه
 







 
العتمه is on a distinguished road
افتراضي رد : تعرف على حبيبك

النشاط العسكري بعد صلح الحديبية -
غزوة الغابة أو غزوة ذي قرد


هذه الغزوة حركة مطـاردة ضد فصيلة من بني فَزَارة قامت بعمل القرصنة في لِقَاحِ رسول الله(صلى الله عليه وسلم) ‏.‏
وهي أول غزوة غزاها رسول الله(صلى الله عليه وسلم) بعد الحديبية ، وقبل خيبر ‏.‏ ذكر البخاري في ترجمة باب أنها كانت قبل خيبر بثلاث ، وروى ذلك مسلم مسنداً من حديث سلمة ابن الأكوع ‏.‏ وذكر الجمهور من أهل المغازي أنها كانت قبل الحديبية ، وما في الصحيح أصح مما ذكره أهل المغازي ‏.‏
وخلاصة الروايات عن سلمة بن الأكوع بطل هذه الغزوة أنه قال ‏:‏ بعث رسول الله(صلى الله عليه وسلم) بظهره مع غلامه رَبَاح ، وأنا معه بفرس أبي طلحة ، فلما أصبحنا إذا عبد الرحمن الفزاري قد أغار على الظهر ، فاستاقه أجمع ، وقتل راعيه ، فقلت ‏:‏ يا رباح ، خذ هذا الفرس فأبلغه أبا طلحة ، وأخبر رسول الله(صلى الله عليه وسلم) ، ثم قمت على أكَمَة ، واستتقبلت المدينة ، فناديت ثلاثاً‏ :‏ يا صباحاه ، ثم خرجت في آثار القوم أرميهم بالنبل وأرتجز ، أقول ‏:‏

أنا ابنُ الأكْـوَع واليـومُ يـومُ الرُّضّع

فو الله ما زلت أرميهم وأعقر به م، فإذا رجع إلى فارس جلست في أصل الشجر ، ثم رميته فتعفرت به ، حتى إذا دخلوا في تضايق الجبل علوته ، فجعلت أرديهم بالحجارة ، فما زلت كذلك أتبعهم حتى ما خلق الله تعالى من بعير من ظهر رسول الله(صلى الله عليه وسلم) إلا خلفته وراء ظهري ، وخلوا بيني وبينه ، ثم اتبعتهم أرميهم ، حتى ألقوا أكثر من ثلاثين بردة ، وثلاثين رمحاً يستخفون ، ولا يطرحون شيئاً إلا جعلت عليه آراماً من الحجارة ، يعرفها رسول الله(صلى الله عليه وسلم) وأصحابه ‏.‏ حتى أتوا متضايقاً من ثَنِيَّةٍ ، فجلسوا يتغدون ، وجلست على رأس قَرْن ، فصعد إلى منهم أربعة في الجبل ، قلت ‏:‏ هل تعرفونني ‏؟‏ أنا سلمة بن الأكوع ، لا أطلب رجلاً منكم إلا أدركته ، ولا يطلبني فيدركني ، فرجعوا‏ .‏ فما برحت مكاني حتى رأيت فوارس رسول الله(صلى الله عليه وسلم) يتخللون الشجر ، فإذا أولهم أخرم ، وعلى أثره أبو قتادة ، وعلى أثره المقداد بن الأسود ، فالتقى عبد الرحمن وأخرم ، فعقر بعبد الرحمن فرسه ، وطعنه عبد الرحمن فقتله ، وتحول على فرسه ، ولحق أبو قتادة بعبد الرحمن فطعنه فقتله ، وولى القوم مدبرين ، فتبعتهم أعدو على رجلي ، حتى يعدلوا قبل غروب الشمس إلى شعب فيه ماء يقال له ‏:‏ ذو قَرَد ، ليشربوا منه ، وهم عطاش ، فأجليتهم عنه ، فما ذاقوا قطرة منه ، ولحقني رسول الله(صلى الله عليه وسلم) والخيل عشاء ، فقلت ‏:‏ يا رسول الله ، إن القوم عطاش ، فلو بعثتني في مائة رجل استنقذت ما عندهم من السَّرْح ، وأخذت بأعناق القوم ، فقال‏ :‏ ‏(‏ يا بن الأكوع ‏.‏ ملكت فأسجح ‏)‏، ثم قال ‏:‏ ‏( ‏إنهم ليقرون الآن في غطفان ‏)‏‏ .‏
وقال رسول الله(صلى الله عليه وسلم) ‏:‏ ‏" ‏خير فرساننا اليوم أبو قتادة ، وخير رجالتنا سلمة‏ "‏‏.‏ وأعطاني سهمين ، سهم الراجل وسهم الفارس ، وأردفني وراءه على العَضْبَاء راجعين إلى المدينة ‏.‏
استعمل رسول الله(صلى الله عليه وسلم) على المدينة في هذه الغزوة ابن أم مكتوم ، وعقد اللواء للمقداد بن عمرو ‏.
العتمه غير متواجد حالياً  
قديم 22-02-2008, 11:08 AM   #36
العتمه
 
الصورة الرمزية العتمه
 







 
العتمه is on a distinguished road
افتراضي رد : تعرف على حبيبك

حجة الوداع



في اليوم التاسع من ذي الحجة من السنة العاشرة للهجرة النبوية، وقف نبي الهدى في بطن الوادي وهو على ناقته القصواء، وحوله أربعين ألفاً من الصحابة[1]، ما بين راكب وواقف حتى بلغوا مد البصر، وفيهم ربيعة بن أمية بن خلف[2] الذي كان يصرخ في الناس بقول رسول الله . فكانت هذه الخطبة البليغة التي افتتحها بقرب أجله :
أيها الناس، اسمعوا قولي، فإني لا أدري لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا بـهذا الموقف أبداً.
إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا. ألا كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع، ودماء الجاهلية موضوعة، وإن أول دم أضع من دمائنا دم ابن ربيعة بن الحارث، وكان مسترضعاً في بني سعد فقتلته هذيل، وربا الجاهلية موضوع، وأول رباً أضع من ربانا ربا عباس بن عبد المطلب،فإنه موضوع كله.
فاتقوا الله في النساء، فإنكم أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، ولكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحداً تكرهونه، فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضرباً غير مبرح، ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف.
وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به، كتاب الله.
وأنتم تسألون عني، فما أنتم قائلون؟ قالوا: نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت.
فقال بأصبعه السبابة يرفعها إلى السماء، وينكتها إلى الناس اللهم اشهد .. اللهم اشهد .. اللهم اشهد.
وبعد أن فرغ النبي من إلقاء الخطبة نزل عليه قوله تعالى:
{اليوم أكملت لكم دينكم، وأتممت عليكم نعمتي، ورضيت لكم الإسلام دينا} [المائدة:3] .
وعندما سمعها عمر بكى، فقيل له: ما يبكيك؟ قال: إنه ليس بعد الكمال إلا النقصان[3].
بهذه الخطبة البليغة قرر رسول الله قواعد الإسلام، وهدم قواعد الشرك والجاهلية، وقرر فيها تحريم المحرمات التي اتفقت الملل على تحريمها، وهي الدماء والأموال والأعراض، ووضع فيها أمور الجاهلية تحت قدميه، وأوصاهم بالنساء خيراً، وبشر الأمة بأنها لن تضل أبداً ما دامت معتصمة بكتاب الله. ثم أخبرهم بأنه مسؤول عنهم عند ربهم، بل واستنطقهم فقالوا بلسان واحد: نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت[4].
* * *
وخطب النبي يوم النحر -عاشر ذي الحجة- حين ارتفع الضحى، وهو على بغلة شهباء، والناس بين قائم وقاعد.
وأعاد في خطبته هذه بعض ما كان ألقاه أمس، ثم زاد عليها :
أيها الناس {إنما النسيء زيادة في الكفر يُضل به الذين كفروا يُحلونه عاماً ويحرمونه عاما ليواطئوا عدة ما حرم الله فيُحلوا ما حرم الله} [التوبة:37] .
الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق السماوات والأرض، السنة اثنا عشر شهرا منها أربعة حرم، ثلاث متواليات، ذو القعدة وذو الحجة والمحرم، ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان.
كانت قبيلة مضر إحدى القبائل العربية التي تحافظ على حرمة شهر رجب أشد من سائر العرب، ولكن هذه المحافظة ليست لله وحده، وإنما هي عادة توارثوها عن آبائهم، فنالوا بذلك حظ الدنيا، حيث أُضيف لقبهم إلى شهر رجب، بينما القبائل الأخرى لا تستحله ولكنهم يتحايلون على توقيته.
واستمر الرسول في خطبته هذه قائلاً :
أي شهر هذا؟ قلنا: الله ورسوله أعلم، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، قال: أليس ذا الحجة؟ قلنا: بلى. قال: أي بلد هذا؟ قلنا: الله ورسوله أعلم، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، قال: أليست البلدة؟ قلنا: بلى. فأي يوم هذا؟ قلنا: الله ورسوله أعلم. فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، قال: أليس يوم النحر؟ قلنا: بلى قال: فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا، في بلدكم هذا في شهركم هذا.
"وستلقون ربكم، فيسألكم عن أعمالكم، ألا فلا ترجعوا بعدي ضلالا يضرب بعضكم رقاب بعض.
ألا هل بلغت؟ قالوا: نعم، قال: اللهم اشهد. فليبلغ الشاهد الغائب فرب مبلغ أوعى من سامع[5].
لقد اكتمل الدين وأتم الله الشريعة الخالدة. حتى الآداب التي تعلمها الصحابة من نبيهم قد بلغت قمتها، فقد كانوا قبل ذلك يقدموا بين يدي الله ورسوله حتى أنزل الله فيهم قرآناً {يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله} [الحجرات:1] فهاهم اليوم، يوم اكتمال الدين عندما سألهم نبيهم أي شهر هذا؟ لم يجب أحدٌ منهم وهم يعلمون أنه الشهر الحرام. بل أجابوا جميعاً إجابة التأدب مع نبيهم :
الله ورسوله أعلم.
ثم كرر عليهم السؤال للمرة الثانية والثالثة، ورغم معرفتهم بالإجابة إلا أنهم أجابوا جميعاً :
الله ورسوله أعلم.
حتى قال :
أليس ذا الحجة؟ .. أليست البلدة؟ .. أليس يوم النحر؟
قلنا: بلى .. بلى .. بلى.


________________________________________
[1] على أقل تقدير وقيل بلغوا مائة ألف.
[2] السيرة النبوية لابن هشام، 4/605.
[3] صحيح البخاري 5/148.
[4] زاد المعاد، 2/233.
[5] صحيح لبخاري، 5/148
العتمه غير متواجد حالياً  
قديم 22-02-2008, 11:12 AM   #37
العتمه
 
الصورة الرمزية العتمه
 







 
العتمه is on a distinguished road
افتراضي رد : تعرف على حبيبك

اشتداد المرض



وفي يوم الخميس قبل الوفاة بأربعة أيام، اشتد برسول الله الوجع. وكان ابن عباس يبكي عندما يذكر يوم الخميس ويقول : يوم الخميس، وما يوم الخميس اشتد برسول الله وجعه. فقال :
هلموا أكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعده.
وفي البيت رجال فيهم عمر فقال عمر:
قد غلب عليه الوجع، وعندكم القرآن، حسبكم كتاب الله.
فاختلف أهل البيت واختصموا، فمنهم من يقول: قربوا يكتب لكم رسول الله ، ومنهم من يقول ما قال عمر، فلما أكثروا اللغط والاختلاف قال رسول الله :
قوموا عني[1].
لقد اتضح حدوث اللغط والاختلاف في الأمة إلى قيام الساعة، فمنهم من يرى الأخذ بالرخصة -كما فعل عمر عندما رأى الوجع على رسول الله - حتى لا يُحملوا الأمة ما لا تُطيق. ومنهم من يرى الأخذ بالعزيمة حتى ولو غلب الوجع على الأمة.
وأوصى ذلك اليوم بثلاث :
أخرجوا المشركين من جزيرة العرب، وأجيزوا الوفود بنحو ما كنت أجيزهم. وسكت عن الثالثة، أونسيها[2].
والنبي مع ما كان به من شدة المرض كان يصلي بالناس جميع صلواته حتى ذلك اليوم -يوم الخميس قبل الوفاة بأربعة أيام- وقد صلى بالناس ذلك اليوم صلاة المغرب، فقرأ فيها بالمرسلات عرفا[3].
وبينما الرسول راقداً عند عائشة إذا بصوت بلال ينادي لصلاة العشاء : الله أكبر الله أكبر .. فلما انتهى الأذان ألتفت إلى عائشة رضي الله عنها وقال :
ضعوا لي ماء في المخضب.
قالت عائشة : ففعلنا، فاغتسل، فذهب لينوء فأغمي عليه، ثم أفاق، فقال:
أصلى الناس؟
فأجاب من كان عنده :
لا يارسول الله، وهم ينتظرونك.
فكرر الرسول :
ضعوا لي ماء في المخضب.
ففعلوا للمرة الثانية والثالثة وفي كل مرة يغتسل ثم يغمى عليه حينما يريد أن ينوء. فلم يتمكن حتى قال:
مروا أبا بكر فليصل بالناس.
فلما علمت عائشة رضي الله عنها أن أباها سوف يخلف رسول الله في الصلاة، خشيت أن يتشاءم الناس من أبي بكر، فحاولت مراجعته عدة مرات، لعله يعدل. وهذا ما صرحت به لاحقا. لكن رسول الله أصر أن يكون خليفته في الصلاة أبي بكر، فأعاد قائلاً :
مروا أبا بكر فليصل بالناس.
فلما رأت أم المؤمنين أن لا مناص من ذلك. اتخذت لذلك عذرا لعله يكون مناسب ليعدل الرسول عن أبي بكر. فأوعزت إلى حفصه أن تقول له:
يا رسول الله إن أبا بكر رجل أسيف وإنه متى يقم مقامك لا يسمع الناس، فلو أمرت عمر.
فلم يجد إلا أن يصفهن قائلاً:
مة، إنكن لأنتن صواحب يوسف.
ثم اعاد كلمته الأولى:
مروا أبا بكر فليصل بالناس[4].
وكان عبد الله بن زمعة بن الأسود -أخ سودة بنت زمعة إحدى أمهات المؤمنين- في بيت رسول الله، فعندما خرج إلى الصلاة دعاه بلال إلى الصلاة وقال :
مروا من يصلي بالناس.
وكان أبوبكر غائباً، فلم يجد عبد الله إلا أن قال لعمر :
قم يا عمر فصلّ بالناس.
فلما كبر، سمع رسول الله صوت عمر، وكان صوت عمر مجهراً، فقال رسول الله :
فأين أبو بكر؟
يأبى الله ذلك والمسلمون.
يأبى الله ذلك والمسلمون[5].
وفي يوم الأحد وجد النبي من نفسه خفة، فخرج لصلاة الظهر يتهادى بين رجلين ورِجلاه تخطان في الأرض، وأبو بكر يصلي بالناس، فلما رآه أبو بكر ذهب ليتأخر، فأوما إليه بأن لا يتأخر، قال: أجلساني إلى جنبه، فأجلساه إلى يسار أبي بكر، فكان الرسول يصلي بالناس جالساً وأبو بكر قائماً، وكان أبو بكر يقتدي بصلاة رسول الله ، ويقتدي بالناس بصلاة أبي بكر.
* * *
لقد بدأت طلائع توديع الرسول للحياة منذ وقت مبكر. فعندما بعث معاذ إلى اليمن قال له :
يا معاذ، إنك عسى أن لا تلقاني بعد عامي هذا[6].
وفي حجة الوداع في يوم عرفة قال :
أيها الناس، اسمعوا قولي، فإني لا أدري لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا بهذا الموقف أبداً.
وقال وهو عند جمرة العقبة:
خذوا عني مناسككم، فلعلي لا أحج بعد عامي هذا.
ونزلت عليه سورة النصر في أوسط أيام التشريق، فعرف أنه الوداع، وأنه نُعيت إليه نفسه.


________________________________________
[1] صحيح البخاري 5/159.
[2] صحيح البخاري 5/159.
[3] صحيح البخاري 5/159.
[4] صحيح البخاري، كتاب الأذان، 197. السيرة النبوية لابن هشام، 4/652.
[5] السيرة النبوية لابن هشام، 4/652.
[6] البداية والنهاية، 5/90.
العتمه غير متواجد حالياً  
قديم 22-02-2008, 11:18 AM   #38
العتمه
 
الصورة الرمزية العتمه
 







 
العتمه is on a distinguished road
افتراضي رد : تعرف على حبيبك

يوم الوفاه



وفي يوم الإثنين وبينما الصحابة في صلاة الفجر وأبو بكر يصلي بهم، أراد أن يطمئن إلى حالهم في الصلاة خلف إمامهم، وأن تقر عينه برؤيتهم في صفوف منتظمة قبل أن يفارقهم، فتحامل على نفسه حتى وقف على قدميه، ومد يده إلى السترة ليرفعها ويرى الناس.
وبينما المسلمون على تلك الحال من الخشوع والانتظام؛ إذا بالستر من حجرة عائشة ينكشف أمامهم ويظهر لهم وجه رسول الله تعلوه ابتسامة مشرقة. فكاد المسلمون يفتتنون في صلاتهم فرحاً برسولهم الذي تخلف عنهم ثلاثة فروض، وقد عبر أنس بن مالك رضي الله عنه بهذا المشهد حين قال:
وهمّ المسلمون أن يفتتنوا في صلاتهم فرحاً برسول الله فأشار إليهم بيده رسول الله أن أتموا صلاتكم، ثم دخل الحجرة وأرخى الستر[1].
ومما قاله أنس أيضاً :
وما رأيت رسول الله أحسن هيئة منه تلك الساعة[2].
فنكص أبو بكر على عقبيه، ليصل الصف، وظن أن رسول الله يريد أن يخرج إلى الصلاة. فلما اطمأن على حال المسلمين وهم خلف إمامهم في صفوف منتظمة تبسم تبسم الرضى وضحك مسروراً، ثم أشار إليهم بيده أن أتموا صلاتكم، ودخل الحجرة وأرخى الستر.
ولما ارتفع الضحى، دعا النبي فاطمة رضي الله عنها، فلما جاءت ورأت أباها ممتداً على الأرض لم تتمكن قواه أن تحمله. وكان من عادته إذا رأى فاطمة هب واقفاً وقبل ما بين عينيها ثم أجلسها مكانه. لكنه في هذا المرة اكتفى بإرسال نضرة إليها. فلما رأته على تلك الحال انكبت عليه تقبله وقد تساقطت الدموع من على خدها وهي تقول:
واكرب أباه.
فأخذ عليه السلام يلاطفها ويخفف من وطأتها وهو يقول:
ليس على أبيك كرب بعد اليوم[3].

وبينما يتحدث إلى فاطمة ويسارها بشئ إذا بها تبكي. فلم تلبث حتى دعاها وسارها مرة أخرى فضحكت. فلما سألتها عائشة فيما بعد عن هذا التحول السريع من البكاء إلى الفرح أجابت:
سارني النبي أنه يُقبض في وجعه الذي توفي فيه، فبكيت. ثم سارني فأخبرني أني أول أهله يتبعه فضحكت[4].
ودعا الحسن والحسين فقبلهما، وأوصى بهما خيرا، ودعا أزواجه فوعظهنّ وذكرهنّ.
ودخل عليه أسامة بن زيد، فلما رأه رسول الله جعل يرفع يده إلى السماء ثم يضعها عليه، فعرف أسامة أنه يدعو له.[5]
فلما انتهى من موعظة زوجاته ووصيته بالحسن والحسين؛ اشتد عليه المرض، وظهر أثر السم الذي أكله بخيبر حيث أوقف الله جلت قدرته أثر السم خلال تلك السنين حتى يُبلغ النبي دعوته ويكمل الدين. فلما حان يوم وفاته أمر الله السم أن يُحدث أثره وعلى الأبهر أن ينقطع حتى قال عليه الصلاة السلام:
يا عائشة، ما أزال أجد ألم الطعام الذي أكلت بخيبر، فهذا أوان وجدت انقطاع أبهري[6] من ذلك السم[7].
ولم يكتف بمشهد الصحابة في الصلاة بل أكد على أهمية الصلاة حتى آخر وصية في حياته حيث قال:
الصلاة الصلاة وما ملكت أيمانكم.
الصلاة الصلاة وما ملكت أيمانكم.
الصلاة الصلاة وما ملكت أيمانكم[8].
كان الرسول مستنداً على عائشة، وكانت عائشة تفتخر بهذا النعمة التي منّ الله بها عليها فكانت تقول:
إن من نعم الله عليّ أن رسول الله توفي في بيتي وفي يومي وبين سحري ونحري[9].
فدخل عليها عبد الرحمن بن أبي بكر وفي يده السواك. فلما رأت عائشة السواك بيده. ألتفت إلى رسول الله فرأته يرمق أخاها بنظراته. فعرفت أنه يحب السواك. وكانت رضي الله عنها أعرف نساءه بأحواله حتى من خلال نظراته وهذا ما جعله يطمئن إليها ويقضي بقية أيامه عندها. حتى جعل الله وفاته في يوم عائشة . فقالت لرسول الله :
آخذه لك؟
فأشار برأسه أن نعم.
فأخذت السواك من أخيها ثم أعطتها لرسول الله فاشتد عليه. فقالت:
ألينه لك؟
فأشار برأسه أن نعم.
فلينته، فاخذ يستن، وبين يديه ركوة فيها ماء، فجعل يدخل يديه في الماء فيمسح بها وجهه، ويقول:
لا إله إلا الله، إن للموت سكرات.
ثم نصب يده فجعل يقول :
في الرفيق الأعلى[10].
فأخذت عائشة تمعن النظر إليه وهو يستن بها كأحسن ما كان مستناً. وبينما هو كذلك إذا ببصره يشخص نحو السقف، وشفتاه تتحرك. فأصغت عائشة إليه فإذا هو يقول:
مع الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، اللهم اعفر لي وارحمني، وألحقني بالرفيق الأعلى. اللهم الرفيق الأعلى[11].
ومالت يده ولحق بالرفيق الأعلى. إنا لله وإنا إليه راجعون.
مات ودرعه مرهونة عند يهودي بثلاثين صاعاً من شعير[12].


________________________________________
[1] صحيح البخاري، 5/164.
[2] السيرة النبوية لابن هشام، 4/653.
[3] صحيح البخاري، 5/167.
[4] صحيح البخاري، 5/160.
[5] السيرة النبوية لابن هشام، 4/651.
[6] الأبهر: عرق في الظهر، يقال هو الوريد في العنق. إذا انقطع مات صاحبه. [لسان العرب، 1/517].
[7] صحيح البخاري، 5/158.
[8] سنن ابن ماجة، رقم الحديث 2697.
[9] صحيح البخاري، 5/164.
[10] صحيح البخاري، 5/164.
[11] صحيح البخاري، 5/160،167.
[12] صحيح البخاري، 5/168.
العتمه غير متواجد حالياً  
قديم 22-02-2008, 11:20 AM   #39
العتمه
 
الصورة الرمزية العتمه
 







 
العتمه is on a distinguished road
افتراضي رد : تعرف على حبيبك

بعد الوفاه



تسرب خبر وفاة رسول الله في أرجاء المدينة، وأظلمت نواحيها، وتذكر أنس بن مالك رضي الله عنه يوم الهجرة يوم دخول رسول الله إلى المدينة، وقارنه بهذا اليوم الذي مات فيه، فقال:
ما رأيت يوماً قط كان أحسن ولا أضوأ من يوم دخل علينا فيه رسول الله ، وما رأيت يوماً كان أقبح ولا أظلم من يوم مات فيه رسول الله [1].
ولما علمت فاطمة بوفاة أبيها قالت:
يا أبتاه، أجاب رباً دعاه .. يا أبتاه، من جنة الفردوس مأواه .. يا أبتاه، إلى جبريل ننعاه[2].
أما عمر بن الخطاب لما بلغه الخبر أخذ يتوعد ويقول:
إن رجالاً من المنافقين يزعمون أن رسول الله قد توفي، وإنه ما مات، ولكنه ذهب إلى ربه كما ذهب موسى بن عمران وقد غاب عن قومه أربعين ليلة، ثم رجع إليهم بعد أن قيل قد مات، والله ليرجعن رسول الله كما رجع موسى فليقطعن أيدي رجال وأرجلهم زعموا أن رسول الله مات[3].
لقد كان هذا التصرف من عمر راجعاً إلى اجتهاد منه رضي الله عنه كما قال في اليوم الذي يليه : أما بعد، فإني قلت لكم أمس مقالة وإنها لم تكن كما قلت، وإني والله ما وجدت المقالة التي قلت لكم في كتاب أنزله الله و لا في عهد عهده إلى رسول الله ، ولكنني كنت أرجو أن يعيش رسول الله حتى يدبرنا[4].
أما أبا بكر فقد كان غائباً عند زوجة له في موضع قريباً من المدينة يدعى "السنح"، وكان قد استأذن رسول الله بعد صلاة الفجر من يوم الإثنين عندما بدأ له الرسول في صحة جيدة، فقال :
يا نبي الله. إني أراك قد أصبحت بنعمة من الله وفضل كما نحب، واليوم يوم بنت خارجة (زوجته)، أفأتيها؟
فأذن له قائلاً:
نعم.
وبينما أبو بكر في موضعه بالسنح، إذا بسالم بن عبيد يأتيه مسرعاً فزعاً يجهش بالبكاء. فتفرس أبو بكر هيئته ثم قال:
لعل نبي الله توفي؟
فلم يستطيع سالماً أن يُصرّح بالإجابة واكتفى بقوله:
إن عمر بن الخطاب قال: لا يتكلم أحد بموته إلا ضربته بسيفي هذا.
فما أن بلغ الخبر أبي بكر أخذ بيد سالم وانطلق مسرعاً ولم يلتفت إلى شيء حتى دخل على رسول الله في بيت عائشة ورسول الله مسجى في ناحية البيت عليه برد، فأقبل حتى كشف عن وجهه ثم أقبل عليه حتى كاد يمس وجهه، حتى استبان أنه توفي فقبله وبكى، ثم قال:
بأبي أنت وأمي، ، أما الموتة التي كتب الله عليك فقد ذقتها ثم لن تصيبك بعدها موتة أبداً[5].
ثم رد الثوب على وجهة.
فقال الذين من حوله:
يا صاحب رسول الله. أتوفي رسول الله؟
فأجاب الصديق بقوله :
نعم.
قالوا:
هل يصلى عليه؟
نعم يجئ نفرٌ منكم فيكبرون فيدعون ويذهبون حتى يفرغ الناس.
فعلموا أنه كما قال. قالوا:
يا صاحب رسول الله، أين يدفن؟
حيث قبض الله روحه، فإنه لم يقبضه إلا في موضع طيب، فعرفوا أنه كما قال.
وأقبل أبو بكر حتى نزل على باب المسجد حين بلغه الخبر ثم خرج وعمر يكلم الناس. فأشار بيده إلى عمر قائلاً:
على رسلك يا عمر فأنصت.
فأبى عمر رضي الله عنه إلا أن يسترسل في الكلام والوعيد. فلما رآه أبو بكر لا ينصت أقبل على الناس يكلمهم، فلما سمع الناس كلامه أقبلوا عليه وتركوا عمر.
كانت جموع الناس تعبر إلى أبي بكر. وكانت العيون كلها متجهة إليه كأنها مشدودة إليه بحبال غير مرئية. فحمد الله وأثنى عليه ثم قال:
أيها الناس إنه من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت. ثم تلا هذه الآية: {وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئاً وسيجزي الله الشاكرين}. [آل عمران: 144].
فلما سمع الناس تلك المقولة العظيمة، والآية الكريمة، استعادوا ذاكرتهم إلى الوراء وتذكروا وقت نزولها على رسول الله وكأنهم يسمعونها لأول مرة فأخذوا يرددونها في أفواههم.
أما عمر بن الخطاب فقد بقي واقفاً في مكانه .. حاول أن يكمل وقوفه على الأرض إلا أنه لم يشعر بالقوة الكافية ليفعل فقال في نفسه :
والله ما هو إلا أن سمعت أبا بكر تلاها، فعقِرتُ حتى ما تقلني رجلاي وحتى أهويت إلى الأرض حين سمعته تلاها أن النبي قد مات[6].
لقد بقيت جنازة الرسول حتى يوم الثلاثاء. لانشغال الصحابة عنها حتى اختيار أبا بكر خليفة عليهم، لأن أمر الخلافة من الأمور التي لا تقبل التأجيل أو التعطيل مهما كلف الثمن. إذ كيف يبقى المسلمون بدون حاكم يسوس قضاياهم.
فلما كان يوم الثلاثاء غسلوا رسول الله من غير أن يجردوه من ثيابه،
قالت عائشة :
لما أرادوا غسل النبي قالوا : ما ندري أنجرده من ثيابه كما نجرد موتانا، أو نغسله وعليه ثيابه، فلما اختلفوا ألقى الله عليهم النوم حتى ما منهم رجل إلا وذقنه في صدره فكلمهم مكلمٌ من ناحية البيت لا يدرون من هو، أن غسلوا رسول الله وعليه ثيابه، فغسلوه وعليه قميصه يصبون الماء فوق القميص، ويدلكون بالقميص دون أيديهم.
عندئذ تذكرت عائشة رضي الله عنها مراد رسول الله من قوله :
ما ضرك لو مُتِّ قبلي، فقمتُ عليك وكفنتك، وصليت عليك ودفنتك؟
فقالت رضي الله عنها :
لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما غسله إلا نساؤه[7].
وقد شارك في غسله العباس بن عبد المطلب وعلي بن أبي طالب، والفضل وقثم ابنى العباس، وشقران مولى رسول الله ، وأسامة بن زيد، وأوس بن خولي. فكان العباس والفضل وقثم يقلبونه، وأسامة وشقران يصبان الماء، وعلي يغسله، وأوس أسنده إلى صدره[8].
ثم كفنوه في ثلاثة أثواب. أدرجوه فيها إدراجاً.
واختلفوا في موضع دفنه، فما من خلاف حدث بينهم إلا حرصاً منهم تنفيذ تعاليم نبيهم. فقال أبو بكر:
إني سمعت رسول الله يقول: ما قُبض نبي إلا دفن حيث يقبض، فرفع فراشه الذي توفي عليه، فحفر تحته.
ولما أرادوا أن يحفروا لرسول الله ، وكان أبو عبيدة بن الجراح يُضّرح كحفر أهل مكة، وكان أبو طلحة زيد بن سهل هو الذي يحفر لأهل المدينة، فكان يلحد، فدعا العباس رجلين، فقال لأحدهما: اذهب إلى أبي عبيدة بن الجراح، وللآخر اذهب إلى أبي طلحة. اللهم خِر لرسول الله ، فوجد صاحب أبي طلحة أبا طلحة، فجاء به، فلحد لرسول الله [9].
يا سبحان الله لقد قدر الله أن يكون قبره موافقاً لقبور الأنصار كما كانت حياته موافقه لاختيار الأنصار. فالأنصار الذين بايعوا رسول الله في بيعة العقبة الثانية وطلبوا أن يكون الرسول معهم بعد أن يُظهره الله كما قال أبو الهيثم بن التيهان: يا رسول الله إن بيننا وبين الرجال (يعني اليهود) حبالاً، وإنا قاطعوها فهل عسيت إن نحن فعلنا ذلك، ثم أظهرك الله أن ترجع إلى قومك وتدعنا؟ فتبسم رسول الله ، ثم قال:
بل الدم بالدم والهدم بالهدم أنا منكم وأنتم مني، أحارب من حاربتم، وأسالم من سالمتم[10].
وقد أكّد لهم رسول الله وقوفه معهم بعد عزوة حنين عندما أعطى الغنائم للمهاجرين وترك الأنصار حتى كثر منهم القالة، فجمعهم ووضح لهم الحكمة من التقسيم ثم ختم قوله :
لو أن الأنصار سلكوا وادياً أو شعباً لسلكت في وادي الأنصار، ولولا الهجرة لكنت أمراً من الأنصار[11].
ودخل الناس الحجرة أرسالاً عشرة فعشرة، يصلون على رسول الله ولا يؤمهم أحد، وصلى عليه أولاً أهل عشيرته، ثم المهاجرون، ثم الإنصار، وصلت عليه النساء بعد الرجال، ثم صلى عليه الصبيان. ولم يؤم الناس على رسول الله أحد[12].
وبينما أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها جالسة مع النساء في ليلة الإربعاء؛ إذا بصوت المساحي تعلو في جوف الليل فعلمن بدفن النبي .
فلما دُفن رسول الله قالت فاطمة لأنس بن مالك :
يا أنس أطابت أنفسكم أن تحثوا على رسول الله التراب[13].



________________________________________
[1] شرح السنة للبغوي، 14/50.
[2] صحيح البخاري، 5/167.
[3] السيرة النبوية لابن هشام، 4/655.
[4] صحيح البخاري، رقم الحديث 7219.
[5] السيرة النبوية لابن هشام، 4/656.
[6] صحيح البخاري، 5/166.
[7] سنن أبي داود، رقم الحديث 3141.
[8] السيرة النبوية لابن هشام، 4/662.
[9] السيرة النبيوة لابن هشام، 4/663.
[10] السيرة النبيوة لابن هشام، 1/442.
[11] صحيح البخاري، 4/268.
[12] السيرة النبيوة لابن هشام، 4/663.
[13] صحيح البخاري، 5/167.
العتمه غير متواجد حالياً  
قديم 22-02-2008, 11:25 AM   #40
العتمه
 
الصورة الرمزية العتمه
 







 
العتمه is on a distinguished road
افتراضي رد : تعرف على حبيبك

واخيراً انتهى الموضوع


وارجو من المشرف التثبيت
العتمه غير متواجد حالياً  
موضوع مغلق

مواقع النشر (المفضلة)


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 
أدوات الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة
الانتقال السريع

المواضيع المتشابهه للموضوع : تعرف على حبيبك
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
¸♥ ¸♥ زوجك ,حبيبك, زعلان عندي الحل , تعالي نراضيه ¸♥ ¸♥ ¸♥ فراشه شفافه شقائق الرجال 24 19-05-2008 09:12 AM
كلما احزنك زوجك .......اذهبي الي حبيبك من يغدق عليك الحنان ابومهند2008 شقائق الرجال 10 25-04-2008 12:05 AM
شوف اوصاف حبيبك جمعان الدوسي الإستراحة 14 21-03-2008 11:00 AM
كيف تعرف انك تحب فتى السعبرة المنتدى العام 13 20-03-2008 09:03 PM
آه من حبك... لو تعرف Dr_asmaa المنتدى الأدبي 10 25-01-2008 08:41 PM


الساعة الآن 02:49 AM.


Powered by vBulletin
Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd.
جميع ما يطرح في المنتديات من مواضيع وردود تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الإدارة
Copyright © 2006-2016 Zahran.org - All rights reserved