عبد الله باشراحيل...الرجل الذي يلخص شعباً

[علي خليل الشيخي]

بقلم : علي خليل الشيخي
***********************************
في أحد حواراته الصحفية يلخص الشاعر الكبير عبدا لله باشراحيل مفهومه للشعر بالقول: «القصيدة هي الحكمة...» ربما تكون هذه العبارة كفيلة بتفسير موقف الشاعر من القصيدة التي كتبها ناصر الفراعنة في هجائه، وهو موقف اتسم بالتعقل والهدوء وضبط النفس ذلك أن ما كتبه الفراعنة لا يمت، حسب مفهوم باشراحيل، إلى الشعر بصلة، فلا يكفي أن ترصف الكلمات في أبيات ثم توضع الأبيات فوق بعضها البعض لنحصل على الشعر. الشعر مبنى ومعنى ..أفكار ذكية ورؤى جديدة كاشفة وأحاسيس سامية ..هكذا فالشعر الحقيقي لا يمكن أن يجانب الحقيقة الساطعة ولا أن يخاصم الموضوعية والدقة، وإذا كان الخيال المجنح هو مطية الشعر، كما يقال، فهذا لا يعني أن يباح للشاعر تزييف الحقائق واختلاق الأضاليل ومجافاة الوقائع...

للأسف الشديد فإن الفراعنة أخطأ الرسالة الجوهرية للشعر، وخرج به عن مقاصده عندما سمح للغيظ أن يأخذه بعيداً فيصوغ، متسرعاً، قصيدة فيها الكثير مما لا يرضي العقلاء وذوي الذائقة السليمة..

والمدهش حقاً أن الشاعر باشراحيل لم يتخل في رده عن حس الفكاهة ولا عن التسامح، إذ أعلن أنه مستعد لتقديم عشرة ملايين ريال لمن يثبت أنه قام بشراء منديل أم كلثوم بخمسة ملايين دولار، وهي التهمة التي وجهها له الفراعنة في قصيدته...محيلاً كلام الفراعنة إلى الآية الكريمة التي تقول: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ)..

إذن فأمام الشاعر ناصر الفراعنة فرصة لكسب عشرة ملايين ريال أخرى إضافة إلى تلك التي يتنافس عليها في مسابقة (شاعر المليون)، وإذا كانت فرصته في المسابقة قائمة، فهي هنا، أمام تحدي باشراحيل، تبدو مستحيلة..

لقد ساق الفراعنة الكثير من التهم الظالمة وألصقها بغير وجه حق بباشراحيل وذلك دون أن يكلف نفسه عناء الإثبات أو التبرير أو حتى الإشارة إلى المصادر التي استقى منها اتهاماته..وبعيدا عن القصيدة وقائلها فإن شخصية شاعرنا الحضرمي تبقى فوق الشبهات ولن يجد أحد في سيرته إلا ما يبعث على الاعتزاز، فالرجل من أسرة كريمة المحتد مشهود لها بالكرم والأمانة والشهامة وحضور النخوة وكل الصفات الحميدة التي يمليها الأصل الكريم.

هو ابن مكة المكرمة أم الحضارات ومهد الرسالات الإنسانية، فمن شروق بيتها العتيق ألقى الإسلام العظيم بضيائه على العالم، ومن أسواقها الأدبية ومعلقاتها المشهورة خرج أطيب الشعر وأعذب الكلام، وشاعرنا صاحب أياد بيضاء على الحركة الأدبية السعودية والعربية سواء من خلال (جائزة باشراحيل للشعر والأدب)، أو من خلال ما قدم من كتب شعرية في الوطن والإنسان والحرية والتسامح والقيم النبيلة (أكثر من ثلاثين كتاباً شعرياً)، وفي شعره يقول الرئيس الجزائري عبد العزيز بو تفليقة: «كلما قلبت صفحة أضاءت لي قناديل الريح ميداناً آخر من ميادين الحياة المتنوعة اقتحمها الشاعر بقوة بعثت في نفسي الشك في أراء كثر من النقاد الذين قالوا بأن البيئة لها اثر كبير في ما ينتج الأديب ورجح عندي ميدان العبقرية في الفن والإبداع».

وليس من دليل على أهمية باشراحيل وعلو كعبه أفضل من تهافت المترجمين والأدباء على ترجمة أعماله إلى اللغات الإنكليزية والإيطالية والفرنسية والألمانية والإسبانية، وبرغم كل ما يقف في وجه الشعر من مصاعب وتحديات وكل ما يقال عن تراجعه وانحسار دوره في الحياة والمجتمع إلا أن باشراحيل لا يزال يؤمن بأهمية الكلمة وأسبقية الشعر كجزء مهم من تراث أمتنا ووجدانها وها هو يؤكد: «رغم كل ما يجري لا يزال الشعر هو الناطق الرسمي باسم الفنون وباسم الأحداث وهذه المرحلة ستعيد هوية الشعر العربي إلى مكانها الذي يرتقي ولا يسقط بفعل الأضداد. والتحديات التي يواجهها الشعر بمحاولة خلخلته كموهبة فاعلة وكأداة واستبداله بالرواية، التي لم تكن ضمن فنون التراث العربي إضافة إلى الساعين بوعي أو من دون وعي في محاولة تقزيم الشعر وإخفائه وهذا دليل العجز عن الإبداع الشعري».

وباشراحيل في المسلك الشخصي والاجتماعي لا يقل نبلاً عن باشراحيل الشاعر، فهو متواضع للغاية، وصاحب حضور لطيف، ومبادر دوماً إلى كل ما فيه خير المجتمع، يصدر في كل أعماله عن حس أخلاقي صارم يدفعه إلى الحرص على مصلحة الغير أكثر من حرصه على مصلحته الشخصية...

والغريب أن الشاعر الفراعنة قد تجاوز في قصيدته شخص باشراحيل ليصل إلى الحضارم جميعاً، حيث نسب إليهم ما ليس فيهم، متناسياً ما لهؤلاء من فضل في نشر الإسلام وفي إرساء دعائمه في كثير من أصقاع الأرض، ومتجاهلاً ما يجمع عليه الناس في توصيف الحضارمة ونعتهم بكل الفضائل والخصال الطيبة..

الحضارم، وللتذكير فقط، هم من عرب شبة الجزيرة العربية وبالتحديد من منطقة حضرموت، طاف أجدادهم البحار نحو شواطئ جديدة في آسيا وفي أفريقيا وحتى أوروبا منذ قرون خلت، وقد أظهروا من التمسك بالدين والمحافظة على قيمه السامية ما جعلهم قدوة لكثير من المسلمين، كما إن معاملتهم الحسنة واستقامتهم حببت الآخرين بالإسلام فأقبلوا عليه أفواجاً، سواء في اندونيسيا أو ماليزيا أو الفلبين أو سنغافورة أو الهند أو شرقي أفريقيا.

أينما حل الحضارم فهم ينخرطون في نسيج المجتمع ويفيدون أوطانهم بما من الله عليهم من ذكاء وفطنة وحب للعمل، فتراهم يبرعون في التجارة والصناعة، وكذلك في الأدب والفن وجميع أوجه الثقافة، ولا يخفى على أحد ما أطلقه الحضارم من تيارات أدبية وفكرية وما أصدروه من مطبوعات صحفية، ما جعلهم أصحاب فضل كبير في كل مناحي الحياة سواء في الحجاز أم في المغرب أم في الشام أم غرب آسيا أو شرقي أفريقيا...

الميزات الكثيرة للحضارم جعلتهم يتفوقون في دول شرق آسيا على أكثر الأعراق مهارة وإبداعاً، ولا سيما الصينيين الذين اشتهروا بإتقان الصناعة والتجارة، وقد قاموا بترسيخ أعمالهم وحضارتهم ومعها دينهم الذي ساد تلك الأصقاع، تكفي من أجل التأكيد على ذلك نظرة ولو سريعة على الأسماء الحضرمية التي شغلت وتشغل مواقع رفيعة في أكثر من مكان

كالرئيس الماليزي عبد الله بدوي والرئيس السابق مهاتير محمد، وكذلك سلطان دولة بروناي فهو حضرمي الأصل وينتمي إلى عائلة بلقين.

أما في أرض الحجاز فهناك عبد الله بلخير وسالم بن محفوظ وأحمد سعيد بقشان و معتوق الكندي...وغيرهم الكثير ممن ساهموا في نهضة السعودية وازدهارها...

أما في القديم فمنهم امرؤ القيس, والمقنع الكندي وأبو علاء الحضرمي ، وعبد الرحمن الغافقي وأبو عبد الرحمن بن خلدون وآخرين كثر..

سهام التعريض في قصيدة الفراعنة طالت المطربة أم كلثوم أيضاً، إذ وصفها بألقاب نابية غير لائقة، ويتساءل المرء بدهشة: ما الفائدة من كلام كهذا يقال في حق سيدة الغناء العربي وهي التي قدمت على مدى عقود فناً راقياً أمتعت فيه الملايين من الناس على امتداد البلاد العربية..؟..أم كلثوم التي حشدت حولها خيرة الملحنين والموسيقيين واختارت من الشعر أعذبه وأبدت حرصاً بالغاً على المعاني السامية والعبارات الراقية...غنت من كلمات الأمير عبد الله الفيصل ونزار قباني ومحمد إقبال وعلي أحمد باكثير وأحمد رامي وأحمد شوقي..فكيف يمكن تجاهل كل ذلك باستخفاف ؟ ثم هل نجد في سيرة أم كلثوم ما يبرر نعتها بتهم أقل ما يقال عنها أنها خطيرة ؟

يبقى الأمل معقوداً على تراجع الفراعنة عن قصيدته، ولعلها تكون كبوة جواد، فالوطن بحاجة إلى جميع أبنائه بعيداً عن المعارك التي تثير البغضاء وتفرق الإخوة..

أما الشاعر الكبير عبد الله باشراحيل فسيبقى قامة باسقة لا تطالها الأيدي العابثة ولا تؤذي ثمارها حجارة الضغينة أياً كان مصدرها..

ولا أجد ما اختم به مقالي هذا أبلغ من قصيدة الرقم للشاعر عبد الله باشراحيل، ومن الحكم المنضودة فيها والمنثورة بين جنبات حروفها:

ابحث عن الرَّقمْ

فالصفر كالعدم

زوجان

أنجبا خلائق الأصفار

والولائد الأسماء

والرموز أمةٌ

كالشمس، والقمر

أو كالرِّياح، والظَّلام، والصَّباح

والجمالِ، والغيومِ، والمطرْ

كنْ حكمةً

لا حاكماً ولا حكمْ

كن خارقاً، ومبدعاً

وأنت آمرٌ عليك

ومنك خادم لديك

مفكراً وعاملاً

لا خاملاً

تقتات من فتات

فضلة الحياة

تعيش في هوامش الرجاء

كالهباء بالهباء يلتصق

حَدِّق إلى الشَّفق

ابدأ من الألم

من عثرة القدم

ابحث عن الوجود

بالعقل والقلم

سَلْ عالَم الحياةِ

عن سلالةِ الأشياءِ

في الأحياءِ والنَّباتِ، والجِبالِ

والتُّراب، والفضاءْ

عن كلِّ شيءٍ نَابِضٍ

وجامدٍ، وحارقٍ

في الصخر أو في الثَّلج أو في النَّار

واستنطقِ الأنوارَ

من بداية الزَّمان

للخلائق الَّتي

أشادتِ القِدَمْ

ما زال اسمها ورسمها

في موكب النُّبوغِ ينطلق

يُنير في الحلك

لا بالزئير، والصراخ، والصَّفير

بل مثل من

يستكشف المصير

يذرع الأثير بالنَّظر

كُنْ مائز الرَّقمْ

كالزَّهر أو كالنَّخل

لا كسائر الشَّجر

طَلعاً بلا ثَمَر

ألم تَرَ الأَعْلاَم

وهي تعتلي القمم

لأنَّهم

بفطنة الحجى

قد أشعلوا الدُّجى

وصيَّروا الحياةَ بالعلوم تنتظم

وأرسلوا الألباب للآفاق والأعماق

والسَّفَائِنُ الأفكار

إنَّهم

أولئكَ الأرقام في الأُمم

ما أكثرَ الأصفار كالبثور في البياضْ

وليتها رقم!!

[مح العدواني مد]

[align=center]مرحبا اخي علي
في البدايه اشكرك على الحضور الجميل
سؤالي هل تعتقد بالقول؟؟
لا تنه عن خلق وتأتي مثله ..... عار عليك اذا فعلت عظيم
دمت بود[/align]

[أحساس خالد]

اشكرك على هذه الكلمات
ادام الله نبض قلمك وقلبك

تقبل مروري