منتديات زهران  

العودة   منتديات زهران > المنتديات العامة > الإسلام حياة

تعرف على حبيبك


الإسلام حياة

موضوع مغلقإنشاء موضوع جديد
 
أدوات الموضوع
قديم 22-02-2008, 09:41 AM   #21
العتمه
 
الصورة الرمزية العتمه
 







 
العتمه is on a distinguished road
افتراضي رد : تعرف على حبيبك

مشكووووره الامبرطوره على المرور


الله يعطيك اللعااافيه
العتمه غير متواجد حالياً  
قديم 22-02-2008, 09:44 AM   #22
العتمه
 
الصورة الرمزية العتمه
 







 
العتمه is on a distinguished road
افتراضي رد : تعرف على حبيبك

البرنسيسه
يعطيك العاااافيه على لمروووووووووووووور
العتمه غير متواجد حالياً  
قديم 22-02-2008, 09:53 AM   #23
العتمه
 
الصورة الرمزية العتمه
 







 
العتمه is on a distinguished road
افتراضي رد : تعرف على حبيبك

لاهنت الصغير على المرور



الله يعطيك العافيه
العتمه غير متواجد حالياً  
قديم 22-02-2008, 10:05 AM   #24
العتمه
 
الصورة الرمزية العتمه
 







 
العتمه is on a distinguished road
افتراضي رد : تعرف على حبيبك

حسن الخلق

عن أبي ذر جندب بن جنادة ، و أبي عبد الرحمن معاذ بِن جبل رضي الله عنهما، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها ، وخالق الناس بخلق حسن ) . رواه الترمذي وقال: حديث حسن .

الشرح


التقوى هي سفينة النجاة ، ومفتاح كل خير ، كيف لا ؟ وهي الغاية العظمى ، والمقصد الأسمى من العبادة ؟ ، إنها محاسبة دائمة للنفس ، وخشية مستمرة لله ، وحذر من أمواج الشهوات والشبهات التي تعيق من أراد السير إلى ربه ، إنها الخوف من الجليل ، والعمل بالتنزيل ، والقناعة بالقليل ، والاستعدادُ ليوم الرحيل .







من هنا كانت التقوى هي وصية الله للأولين والآخرين من خلقه ، قال تعالى : { ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم أن اتقوا الله } ( النساء : 131 ) ، وهي وصية النبي صلى الله عليه وسلم لجميع أمته ، ووصية السلف بعضهم لبعضهم ، فلا عجب إذا أن يبتدأ بها رسول الله صلى الله عليه وسلم نصيحته ل معاذ بن جبل و أبي ذر رضي الله عنهما .





والتقوى ليست كلمة تقال ، أو شعاراً يرفع ، بل هي منهج حياة ، يترفّع فيه المؤمن عن لذائذ الدنيا الفانية ، ويجتهد فيه بالمسابقة في ميادين الطاعة ، ويبتعد عن المعاصي والموبقات ، وقد جسد أبي بن كعب رضي الله عنه هذا المعنى لما سئل عن التقوى ؟ فقال : " هل أخذت طريقا ذا شوك ؟ قال : نعم ، قال : فكيف صنعت؟ قال : إذا رأيت الشوك عزلت عنه أو جاوزته أو قصرت عنه ، قال : ذاك التقوى " وقد أخذ ابن المعتز رحمه الله هذا المعنى ، وصاغه بأبيات بديعة من الشعر فقال :




خل الذنوب صغيـــرها وكبيــرها ذاك التقـى
واصنع كمـــاش فوق أر ض الشوك يحذر ما يرى
لا تحقـــرن صغيــرة إن الجبـال من الحصى








ومن تمام التقوى ، أن يترك العبد ما لا بأس به ، خشية أن يقع في الحرام ، ويشهد لذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم : ( فمن اتقى الشبهات ، فقد استبرأ لدينه وعرضه ) رواه مسلم ، وفي هذا المعنى يقول أبو الدرداء رضي الله عنه : "تمام التقوى ، أن يتقي الله العبد ، حتى يتقيه من مثقال ذرة ، وحتى يترك بعض ما يرى أنه حلال ، خشية أن يكون حراما ، فيكون حجابا بينه وبين الحرام ، فإن الله قد بيّن للعباد الذي يصيرهم إليه فقال : { فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ، ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره } ( الزلزلة : 7 - 8 ) " ، فلا تحقرن شيئا من الخير أن تفعله ، ولا شيئا من الشر أن تتقيه .





وفي قوله صلى الله عليه وسلم : ( اتق الله حيثما كنت ) تنبيه للمؤمن على ملازمة التقوى في كل أحواله ، انطلاقاً من استشعاره لمراقبة الله له في كل حركاته وسكناته ، وسره وجهره ، وفي قوله صلى الله عليه وسلم : ( اتق الله حيثما كنت ) إشارة إلى حقيقة التقوى ، وأنها خشية الله في السرّ والعلن ، وحيث كان الإنسان أو صار ، فمن خشي الله أمام الناس فحسب فليس بتقي ، وقد قال تعالى في وصف عباده المؤمنين : { من خشي الرحمن بالغيب وجاء بقلب منيب ، ادخلوها بسلام ذلك يوم الخلود } ( ق : 33 - 34 ) .





وقد يظن ظان أن المتقي معصوم من الزلل ، وهذا خطأ في التصور ؛ فإن المتقي قد تعتريه الغفلة ، فتقع منه المعصية ، أو يحصل منه التفريط في الطاعة ، وهذه هي طبيعة البشر المجبولة على الضعف ، ولكن المتقي يختلف عن غيره بأنه إذا تعثّرت به قدمه ، بادر بالتوبة إلى ربه ، والاستغفار من ذنبه ، ولم يكتف بذلك ، بل يتبع التوبة بارتياد ميادين الطاعة ، والإكثار من الأعمال الصالحة ، كما أمره ربه في قوله : { وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين } ( هود : 114 ) ومن هنا قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( وأتبع السيئة الحسنة تمحها ) .





ولئن كانت التقوى صلة مع الله تبارك وتعالى ، وتقرّبا إليه ، فهي أيضا إحسان إلى الخلق ، وطيبة في التعامل ، وإعطاء كل ذي حق حقه ، وهكذا يظهر لنا التكامل والتناسق في القيم الإيمانية ، فإن الأخلاق الحميدة رافد من روافد التقوى ، وشعبة من شعب الإيمان .







وللأخلاق الفاضلة مكانة عظيمة في شريعتنا ، فإنها تثقل ميزان العبد يوم الحساب ، ويبلغ بها درجة الصائم القائم ، وهو سبب رئيس في دخول الجنة ؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل عن أكثر ما يدخل الناس الجنة ؟ ، قال : ( تقوى الله ، وحسن الخلق ) رواه أحمد .





وإذا عرفنا ذلك ، فإن هناك وسائل تعين العبد على التخلق بالأخلاق الحسنة ، أعلاها : التأمل في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وغيره من الأنبياء ، لاسيما وأنهم أعلى الناس خلقا ، وأوفرهم أدبا ، فإذا أراد المسلم التحلي بالصبر ، قرأ قصة نبي الله يوسف عليه السلام ، وإذا أراد التخلّق بالحلم ، نظر إلى حلم رسول الله صلى الله عليه وسلم مع قومه ، وهكذا ينهل من أخلاق الأنبياء ، ويتعلّم منهم شمائل الخير كلها .







وبعد : فقد تبيّن لنا من خلال هذا الحديث معاني التقوى وأحوالها ، كما تبيّن لنا أيضا أن الإسلام يقبل من العاصي توبته ، ولا يطرده من رحمة الله ، وظهرت لنا معالم الخلق الحسن وأهميته ، فجدير بنا أن نعمل بهذه الوصايا الثلاث ، نسأل الله تعالى أن يجعلنا من عباده المتقين، آمين.






































علامة الإيمان

عن عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لا يُؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به ) ، حديث صحيح ، رُويناه في كتاب الحجّة بإسناد صحيح .

الشرح

من أعظم المباديء التي حرص الإسلام على ترسيخها في النفوس المؤمنة ، الانقياد لأحكام الشرع وتعاليمه ، بحيث تصبح أقوال الإنسان وأفعاله صادرة عن الشرع ، مرتبطة بأحكامه ، وحينئذٍ تتكامل جوانب الإيمان في وجدانه ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي معنا : ( لا يُؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به ) .



ولهذا الحديث مدلوله في بيان ضرورة التزام منهج الله تعالى ، والإذعان لأحكامه وشرائعه ، فإن المؤمن إذا رضي بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيا ، حمله ذلك على أن يحكّم شرع الله في حياته ، فيحل حلاله ، ويحرم حرامه ، ويحب ما دعا إليه ، ويبغض ما نهى عنه ، ولا يجد في ذلك ضيقا أو تبرما ، بل إننا نقول : لا يعد إيمان العبد صادقا حتى يكون على مثل هذه الحالة من الانقياد ظاهرا وباطنا ، والتسليم التام لحكم الله ورسوله ، كما دلّ عليه قوله تعالى : { فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما } ( النساء : 56 ) .




وهذا يقتضي من العبد أن يحب الله ورسوله فوق كل شيء ، ويقدّم أمرهما على كل أمر ،كما قال تعالى : { قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين } ( التوبة : 24 ) .




ولسنا نريد بهذه المحبة مجرد كلمات تقال ، أو شعارات ترفع ، لا تثمر عملا ولا انقيادا ، فإن لكل محبة دليلا ، ودليل صدق المحبة موافقة المحبوب في مراده ، وعدم إتيان ما يكرهه أويبغضه ، وإلا فهي دعاوى لا حقيقة لها ، وقد قال العلماء : " كل من ادّعى محبة الله ، ولم يوافق الله في أمره ، فدعواه باطلة " .




وإنك لتقرأ في سير الصحابة الكرام ومن بعدهم ، فتعتريك الدهشة حين تجد منهم الامتثال الفوري للدين ، دون تأخير أو إبطاء ، واستمع إلى أنس رضي الله عنه وهو يصف لنا مشهدا من غزوة خيبر فيقول : " أصبنا حمرا فطبخناها ، فنادى منادي النبي صلى الله عليه وسلم يقول : إن الله ورسوله ينهيانكم عن لحوم الحمر ، فإنها رجس ، فأكفئت القدور بما فيها ، وإنها لتفور باللحم " ، وقريبٌ من ذلك ما ذكر في يوم تحريم الخمر ، إذ امتلأت طرق المدينة بالخمور المراقة على الأرض ، هذا مع شدة حبهم لها ، وتعلقهم بها منذ الجاهلية ، ولكنهم – رضي الله عنهم – قدموا رضا الله فوق كل شيء ، ولم يتقاعسوا عن طاعته طرفة عين .




وكفى بهذا الانقياد ثمرة أن يجد المرء في قلبه حلاوة الإيمان ولذته ، فقد روى البخاري و مسلم عن أنس بن مالك رضي الله عنه ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان : - وذكر منها – أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما ) .



وإذا عدنا إلى قوله صلى الله عليه وسلم : ( حتى يكون هواه تبعا لما جئت به ) لعلمنا أن الغاية المطلوبة هي إخضاع رغبات النفس ومرادها لأوامر الشرع ، وليس المراد أن يحصل التوافق التام بين رغباتها وبين مراد الشارع ، فإن ذلك في الحقيقة أمر عسير ، إذ النفس مفطورة على اتباع الهوى ، والأمر بالسوء ، فجاء الحديث ليبيّن أن اكتمال الإيمان مرهون بالانقياد للشرع ، ولم يعلّق كمال الإيمان على تغيير طبيعة النفس ، المجبولة على حب المعاصي والشهوات إلا من رحم الله .




ومن هنا ندرك أن مخالفة الهوى تتطلّب همّة عالية ، وعزيمة صادقة ، فلا عجب أن يكون جهاد النفس من أفضل الجهاد عند الله ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( أفضل الجهاد أن يجاهد الرجل نفسه وهواه ) رواه ابن النجار وصحّحه الألباني .




بقي أن نشير إلى أن هذا الحديث قد اختلف العلماء في صحّته ، فالإمام النووي – كما هو ظاهر في المتن – يصحّح الحديث ، وتبعه على ذلك الحافظ أبو نعيم وغيرهما ، كما وثّق الحافظ ابن حجر العسقلاني رجال السند ، في حين أن الحافظ ابن رجب قد حكم على الحديث بالضعف ، وذلك لضعف أحد رواته .




بيد أن المعنى الذي جاء به هذا الحديث له أصل في الشريعة ، وقد أشارت نصوص الكتاب والسنة إليها – كما بينا ذلك من خلال المقال - ، والله الموفق .



















الأمر بإحسان الذبح والقتل

عن أبي يعلى شداد بن أوس رضي الله عنه ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( إن الله كتب الإحسان على كل شيء ، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة ، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبح ، وليحد أحدكم شفرته ، وليرح ذبيحته ) رواه مسلم .

الشرح





إن المتطلع إلى مبادئ ديننا الحنيف ، ليبهره جوانب التكامل في تشريعاته ، مما يجعله موقنا بتفرد الإسلام في شموليته ، فهو يدعو الإنسان إلى أن يحسن صلته بخالقه ، وفي الوقت ذاته يضع الأسس المتينة ، والقواعد الراسخة في تعامله مع غيره من الخلق .







ومن هنا تظافرت نصوص الكتاب والسنة مؤيدة لهذه الرؤية ، وموضحة لمعالمها ، وجعلت الإحسان هو الأساس الذي تنبثق منه هذه العلاقات ، وقد نبهنا الله سبحانه وتعالى إلى ذلك في كتابه العزيز فقال : { إن الله يأمر بالعدل والإحسان } ( النحل : 90 ) ، فبيّن وجوب العمل بمقتضى الإحسان ، وأحاط العاملين بها بمعيّته الخاصة ، وشملهم برعايته وتأييده ، كما قال عزوجل : { وإن الله لمع المحسنين } ( العنكبوت : 69 ) ، كذلك فإنه قد بيّن السبل لتحقيق ذلك في الكثير من المواضع ، ومن جملتها ، الحديث الذي بين أيدينا ، والذي جاء موضحا كيفية الإحسان إلى الخلق .





فبعد أن قرّر النبي صلى الله عليه وسلم وجوب الإحسان في كل ميدان ، وعلى كل شيء ، وأكّد على ذلك بقوله : ( إن الله كتب الإحسان على كل شيء ) ، عرّج بعدها بذكر مثالين اثنين ، يلزم الإنسان المسلم فيهما مراعاة الإحسان ، والمحافظة عليه .





ففي قوله : ( فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة ) ، توجيه نبوي إلى الإحسان في هيئة القتل ، ويكون ذلك بالإسراع في إزهاق النفس التي أبيح دمها حال القصاص أو حال الحرب ، ولئن جاز للمسلمين معاملة من حاربهم بالمثل ، فإن ذلك لا يبيح لهم التمثيل بالقتلى ، والتشويه للجثث بدون سبب شرعي ، لما في ذلك من منافاة للمثل العليا التي يدعو إليها ديننا الحنيف .





ويدخل ضمن الأمر بإحسان القتل ، تحريم التعذيب بالنار ، وليس ذلك للبشر فحسب ، بل حتى للحيوانات والحشرات ، فقد روى الإمام البخاري رحمه الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( لا تعذبوا بعذاب الله ) ؛ وهذا يؤكد حرص الإسلام على اختيار أيسر الطرق المؤدية إلى خروج الروح عند تحتّم القتل .





ثم انتقل الحديث بعد ذلك إلى قضية الإحسان في الذبح ، بآدابه الراقية التي تجسد معاني الرفق بالحيوان ، وقد ذكر العلماء هذه الآداب في كتب الفقه ، وأسهبوا في شرحها ، فمن ذلك : أن يذبح البهيمة بآلة حادة ، تعجّل من خروج روحها ، وإنهار دمها ، فلا تتعذب كثيرا ، يؤيد ذلك ما رواه الإمام أحمد و ابن ماجة ، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : " أمر النبي صلى الله عليه وسلم بحد الشفار " ، وقد جعل العلماء ذلك شرطا في آلة الذبح ، كما جاء في الحديث : ( ما أنهر الدم ، وذكر اسم الله عليه ، فكلوه ، ليس السن والظفر ) رواه الشيخان .





ومن الإحسان في الذبح ، ألا يقوم الذابح بحد شفرته أمام الذبيحة ، فقد مر رسول الله صلى الله عليه وسلم على رجل واضع رجله على صفحة شاة ، وهو يحد شفرته ، وهي تلحظ إليه ببصرها فقال : ( أتريد أن تميتها موتات ؟، هلا حددت شفرتك قبل أن تضجعها ؟ ) رواه الحاكم ، وكذلك فإنه يستحب له أن لا يذبح ذبيحة بحضرة أخرى ، ولا يظهر السكين أمام الذبيحة إلا عند مباشرته للذبح .





ومن الرفق بالذبيحة ، أن تساق إلى المذبح سوقا هينا ، فلا يجرّها بأذنها ، أو يسوقها سوقا عنيفا ، كما ذكر ذلك الإمام أحمد ، فإذا أراد أن يذبحها ، فعليه أن يضجعها على شقها الأيسر برفق ، لما ثبت في صحيح الإمام مسلم رحمه الله عن عائشة رضي الله عنها : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بكبش أقرن ، فأتى به ليضحي به ، فقال لها : ( يا "عائشة" ، هلمي المدية) ، ثم قال : ( اشحذيها بحجر ) ، ففعلت ، ثم أخذها وأخذ الكبش فأضجعه ، ثم ذبحه " ، وقد صرّح الإمام النووي بوقوع الإجماع على هذه المسألة ، واستحب الشافعية أيضا عرض الماء على الذبيحة قبل ذبحها .





وبعد أن يسمّي ، يسرع في قطع الأوداج ، وإنهار الدم ، حتى يريح الذبيحة ، ولا يباشر بقطع شيء منها ، أو سلخها ، حتى تتم الذكاة وتخرج الروح ، ولا ينبغي له أن يبالغ في الذبح حتى يقطع الرأس ، فإن ذلك مناف للإحسان إليها .





إن كل ما سبق ، يزيد المرء إيمانا بكمال هذا الدين ، وتناوله لجميع نواحي الحياة ، وبهذا المنهج الرباني الذي يتألق سموا بتلك المعاني السامية ، يمكن للبشرية أن تخرج من ظلمات التيه ، لتقتبس من نور الإسلام ، وترتبط بخالقها جلّ وعلا برباط محكم وثيق ، فتعيش آمنة مطمئنة ، وهذا ما نتطلع إلى حصوله بإذن الله العلي القدير .















































الإسراع في الخير

عن أبي مالك الحارث بن عاصم الأشعري رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( الطهور شطر الإيمان ، والحمد لله تملأ الميزان ، وسبحان الله والحمد لله تملآن – تملأ – ما بين السماوات والأرض ، والصلاة نور ، والصدقة برهان ، والصبر ضياء ، والقرآن حجة لك أو عليك ، كل الناس يغدو ، فبائع نفسه ، فمعتقها أو موبقها ) رواه مسلم .

الشرح





كان من معجزات النبي صلى الله عليه وسلم في قومه ما أوتيه من الفصاحة والبلاغة في كلامه ؛ فعلى الرغم من كونه أميا لا يحسن القراءة و الكتابة ، إلا أنه أعجز الفصحاء ببلاغته ، ومن أبرز سمات هذا الإعجاز ما عُرف به من جوامع الكلم ؛ فإنه صلى الله عليه وسلم كان يرشد أمته ويوجهها بألفاظ قليلة ، تحمل في طيّاتها العديد من المعاني ، ولم تكن هذه الألفاظ متكلفة أو صعبة ، بل كانت سهلة ميسورة على جميع فئات الناس .





وها نحن أيها القاريء الكريم ، نتناول أحد جوامع كلمه صلى الله عليه وسلم ، فإن هذا الحديث قد اشتمل على العديد من التوجيهات الرائعة ، والعظات السامية ، تدعوا كل من آمن بالله ربا ، وبالإسلام دينا ، أن يتمسك بها ، ويعمل بمقتضاها .





وأول ما ابتدأ به النبي صلى الله عليه وسلم وصيّته هو الطهور ، والطهور شرط الصلاة ، ومفتاح من مفاتيح أبواب الجنان ، ويقصد به الفعل الشرعي الذي يزيل الخبث ، ويرفع الحدث ، ولا تصح الصلاة إلا به ، ويشمل أيضا تطهير الثياب والبدن والمكان .







وقد اختلف العلماء في معنى قوله صلى الله عليه وسلم : ( الطهور شطر الإيمان ) على أقوال ، منها : أن الإيمان الحقيقي يشمل طهارة الباطن والظاهر ، والوضوء يطهّر الظاهر ، وهذا يدل على أن الوضوء شطر الإيمان ، واستشهدوا بالحديث الذي رواه مسلم عن عثمان بن عفان رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( من توضأ فأحسن الوضوء ، خرجت خطاياه من جسده ، حتى تخرج من تحت أظفاره ) ، وقالوا أيضا : الطهارة هي شطر الصلاة ؛ لأن الصلاة لا تصح إلا بطهور ، ومستند هذا القول أن المقصود بقوله في الحديث : ( شطر الإيمان ) هو : الصلاة ، ونظير ذلك قوله تعالى : { وما كان الله ليضيع إيمانكم } ( البقرة : 143 ) ، أي : صلاتكم ، ومما قالوه أيضا : أن الطهور شطر الإيمان ؛ لأن الطهارة تُكفر صغائر الذنوب ، بينما الإيمان يكفر الكبائر ، فصار شطر الإيمان بهذا الاعتبار ، ولعل من الملاحظ أن هذه الأقوال متقاربة ، وكلها تصب في ذات المعنى .











ثم انتقل الحديث إلى الترغيب في ذكر الله عزوجل ، فقال : ( والحمد لله تملأ الميزان ، وسبحان الله والحمد لله تملآن – تملأ – ما بين السماوات والأرض ) ، وهذا يبين عظيم الأجر المترتب على هذه الكلمات الطيبات ، فالحمد لله تملأ الميزان يوم القيامة ؛ وذلك لما اشتملت عليه من الثناء على الله سبحانه وتعالى والتبجيل له ؛ لذلك يستحب للعبد إذا دعا أن يقدم بين يديه الثناء الجميل ، مما يكون أدعى لقبول دعائه ، ثم إن الحمد والتسبيح يملآن ما بين السماء والأرض – بنص الحديث - ؛ والسرّ في ذلك : ما اجتمع فيهما من التنزيه للذات الإلهية ، والثناء عليها ، وما يقتضيه ذلك من الافتقار إلى الله ؛ وهذا ما جعل هاتين الكلمتين حبيبتين إلى الرحمن ، كما جاء في حديث آخر .









وأما الصلاة ، فقد وصفها رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنور ، وإذا كان الناس يستعينون على الظلمة بالنور ، كي تتضح لهم معالم الطريق ، ويهتدوا إلى وجهتهم ، فذلك شأن الصلاة أيضا ، فهي نور الهداية الذي يلتمسه العبد ؛ حيث تمنع الصلاة صاحبها من المعاصي ، وتنهاه عن المنكر ، كما قال تعالى في كتابه : { وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر } ( العنكبوت : 45 ) ، ويقوى هذا النور حتى يُرى أثره على وجه صاحبه ، قال الله تعالى : { سيماهم في وجوههم من أثر السجود } ( الفتح : 29 ) ، ولن تكون الصلاة نورا لصاحبها في الدنيا فحسب ، بل يشمل ذلك الدار الآخرة ، كما قال عليه الصلاة والسلام : ( بشر المشائين في الظلم إلى المساجد ، بالنور التام يوم القيامة ) رواه الترمذي .









وإذا كانت الصلاة من مظاهر العبودية البدنية ، فإن الصدقة تعد عبادة مالية ، يزكّي بها المسلم ماله ، ويطهّر بها روحه من بخلها وحرصها على المال ، لاسيما وأن النفوس قد جبلت على محبّة المال والحرص على جمعه ، كما قال الله عزوجل في كتابه : { وتحبون المال حبا جما } ( الفجر : 20 ) .









ومن محاسن هذه العبادة – أي الصدقة - أن نفعها متعد إلى الغير ، إذ بها تُسدّ حاجة الفقير وتُشبع جوعته ، ويكفل بها اليتيم ، وغير ذلك من مظاهر تلاحم لبنات المجتمع المسلم ؛ الأمر الذي جعل هذه العبادة من أحب الأعمال إلى الله تعالى ، وبرهانا ساطعا على إيمان صاحبها ، وصدق يقينه بربّه .







ولنقف قليلا مع قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث : ( والصبر ضياء ) ، لنستوضح دقة هذا التعبير النبوي وروعته ، فإنه صلى الله عليه وسلم قد وصف الصبر بالضياء ، والضياء في حقيقته : النور الذي يصاحبه شيء من الحرارة والإحراق ، بعكس النور الذي يكون فيه الإشراق من غير هذه الحرارة ، ويوضّح هذا المعنى قوله تعالى : { هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا } ( يونس : 5 ) ، فالشمس ضياء لأنها مشتملة على النور والحرارة والإحراق ، أما القمر فهو نور ، وإذا عدنا إلى قوله صلى الله عليه وسلم : ( والصبر ضياء ) أدركنا أن الصبر لابد أن يصاحبه شيء من المعاناة والمشقة ، وأن فيه نوعاً من المكابدة للصعاب ، فلا ينبغي للمسلم أن يعجزه ذلك أو يفتّ من عزيمته ، ولكن ليستعن بالله عزوجل ، ويحسن التوكل عليه ، حتى تمرّ المحنة ، وتنكشف الغمّة .









ثم ينتقل بنا المطاف إلى الحديث عن القرآن الكريم ، فإن الله عزوجل أنزل كتابه ليكون منهاجا للمؤمنين وإماما لهم ، يبيّن لهم معالم هذا الدين ، ويوضّح لهم أحكامه ، ويأمرهم بكل فضيلة ، وينهاهم عن كل رذيلة ، فانقسم الناس نحوه إلى فريقين : فريق عمل بما فيه ، ووقف عند حدوده ، وتلاه حق تلاوته ، وجعله أنيسه في خلوته ، فذلك السعيد به يوم القيامة ، وفريق لم ينتفع به ، بل هجر قراءته ، وانحرف عن دربه ولم يعمل بأحكامه ، فإن هؤلاء يكون القرآن خصيما لهم يوم القيامة ، وبين هذا الفريق وذاك يقول الله عزوجل واصفا إياهما : { وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خسارا } ( الإسراء : 82 ).













ثم يتوّج النبي صلى الله عليه وسلم كلامه بوصية رائعة ، يحدد فيها أحوال الناس وطبائعهم ، إذ الناس سائرون في خضم هذه الحياة ، يغدون ويروحون ، يكدحون في تحقيق مآربهم وطموحاتهم ، والذي يفرُق بينهم : الهدف الذي يعيشون لأجله ، فمنهم من سعى إلى فكاك نفسه وعتقها من نار جهنم ، فباع نفسه لله تعالى ، ومنهم من جعل همّه الحصول على لذات الدنيا الفانية ، وشهواتها الزائلة ، فأهلك نفسه وباعها بثمن بخس ، قال الله عزوجل : { ونفس وما سواها ، فألهمها فجورها وتقواها ، قد أفلح من زكاها ، وقد خاب من دساها } ( الشمس : 7 – 10 ) ، فمن زكّى نفسه ، فقد باعها لله ، واشترى بها الجنة ، ومن دسّ نفسه في المعاصي ، فقد خاب وخسر ، و كتبت عليه الشقاوة في الدنيا والآخرة ، نسأل الله تعالى أن يوفقنا لطاعته ، ويكرمنا بدخول جنته .








































التورع عن الشبهات

عن الحسن بن علي بن أبي طالب سبط رسول الله ، وريحانته رضي الله عنه قال : " حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( دع ما يريبك ، إلى ما لا يريبك ) رواه الترمذي وقال : حديث حسن صحيح .

الشرح


كان النبي صلى الله عليه وسلم دائم النصح لأمته ، يوجههم إلى ما فيه خير لمعاشهم ومعادهم ، فأمرهم بسلوك درب الصالحين ، ووضح لهم معالم هذا الطريق ، والوسائل التي تقود إليه ، ومن جملة تلك النصائح النبوية ، الحديث الذي بين أيدينا ، والذي يُرشد فيه النبي صلى الله عليه وسلم أمته إلى اجتناب كل ما فيه شبهة ، والتزام الحلال الواضح المتيقن منه .

والراوي لهذا الحديث هو : الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما ، سبط رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والسبط : هو ولد البنت ، وقد توفي النبي صلى الله عليه وسلم و للحسن سبع سنين ؛ ولذلك فإن الأحاديث التي رواها قليلة ، وهذا الحديث منها .

وقد صدّر النبي صلى الله عليه وسلم الحديث بقوله : ( دع ما يريبك ) فهذا أمر عام بترك كل ما يريب الإنسان ، والريبة هي الشك كما في قوله سبحانه وتعالى : { الم ، ذلك الكتاب لا ريب فيه } ( البقرة : 1-2 ) ، وعليه فإن الحديث يدعو إلى ترك ما يقع فيه الشك إلى ما كان واضحاً لا ريب ولا شك فيه .

وفي هذا الصدد بحث العلماء عن دلالة الأمر بترك ما فيه ريبة ، هل هو للوجوب ؟ ، بحيث يأثم الإنسان إذا لم يجتنب تلك المشتبهات ؟ ، أم إنه على الاستحباب ؟ .

إن المتأمل لهذا الحديث مع الأحاديث الأخرى التي جاءت بنفس المعنى ، يلاحظ أنها رسمت خطوطا واضحة لبيان منهج التعامل مع ما يريب ، فالأمر هنا في الأصل للتوجيه والندب ؛ لأن ترك الشبهات في العبادات والمعاملات وسائر أبواب الأحكام ، يقود الإنسان إلى الورع والتقوى ، واستبراء الدين والعرض كما سبق في حديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما ، ولكن الناس في ذلك ليسوا سواء ، فإذا تعلقت الريبة في أمر محرم أو غلب الظن أن الوقوع في هذا العمل يؤدي إلى ما يغضب الله ورسوله ، عندها يتوجب على العبد ترك ما ارتاب فيه .

ولسلفنا الصالح رضوان الله عليهم الكثير من المواقف الرائعة ، والعبارات المشرقة ، التي تدل على تحليهم بالورع ، وتمسكهم بالتقوى ، فمن أقوالهم : ما جاء عن الصحابي الجليل أبي ذر الغفاري رضي الله عنه أنه قال : " تمام التقوى ترك بعض الحلال خوفا أن يكون حراما " ، ويقول الفضيل بن عياض رحمه الله : " يزعم الناس أن الورع شديد ، وما ورد عليّ أمران إلا أخذت بأشدهما ، فدع ما يريبك إلى ما لا يريبك " ، وعن أبي إسماعيل المؤدب قال : جاء رجل إلى العمري فقال : " عظني " ، قال : فأخذ حصاة من الأرض فقال : " زنة هذه من الورع يدخل قلبك ، خير لك من صلاة أهل الأرض " .

ولقد ظهر أثر الورع جليا على أفعالهم ، فمن ذلك ما رواه الإمام البخاري رضي الله عنه ، أن أبابكر رضي الله عنه ، كان له غلام يخرج له الخراج ، وكان أبو بكر رضي الله عنه يأكل من خراجه ، فجاء له الغلام يوما بشيء ، فأكل منه أبو بكر فقال له الغلام : " تدري ما هذا؟ " فقال :" وما هو ؟ " قال الغلام : " كنت تكهنت لإنسان في الجاهلية ، وما أُحسِن الكهانة ، إلا أني خدعته ، فلقيني ، فأعطاني بذلك ، فهذا الذي أكلت منه " ، فما كان من هذا الخليفة الراشد رضي الله عنه ، إلا أن أدخل يده فقاء ما في بطنه .

ومما ورد في سير من كانوا قبلنا ، ما جاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( اشترى رجل من رجل عقارا له ، فوجد الرجل الذي اشترى العقار في عقاره جرة فيها ذهب ، فقال له الذي اشترى العقار : " خذ ذهبك مني ؛ إنما اشتريت منك الأرض ، ولم أبتع منك الذهب " ، وقال الذي له الأرض : " إنما بعتك الأرض وما فيها " فتحاكما إلى رجل ، فقال الذي تحاكما إليه : " ألكما ولد ؟ " قال أحدهما : " لي غلام " ، وقال الآخر : " لي جارية " ، قال : " أنكحوا الغلام الجارية ، وأنفقوا على أنفسهما منه ، وتصدقا ) .

وقد رؤي سفيان الثوري في المنام ، وله جناحان يطير بهما في الجنة ، فقيل له : بم نلت هذا ؟ فقال : بالورع .

وللفقهاء وقفة عند هذا الحديث ، فقد استنبطوا منه قاعدة فقهية مهمة تدخل في أبواب كثيرة من الأحكام ، ونصّ القاعدة : " اليقين لا يزول بالشك " ، فنطرح الشك ونأخذ باليقين ، وحتى نوضّح المقصود من هذه القاعدة نضرب لذلك مثلا ، فإذا أحدث رجل ، ثم شك : هل تطهّر بعد الحدث أم لا ؟ فإن الأصل المتيقّن منه أنه قد أحدث ، فيعمل به ، ويلزمه الوضوء إذا أرد أن يصلي ؛ عملا بالقاعدة السابقة ، وهكذا إذا توضأ ثم شك : هل أحدث بعد الوضوء أم لا ؟ فالأصل أنه متوضأ ؛ لأن وضوءه متيقنٌ منه ، وحدثُه مشكوك فيه ، فيعمل باليقين .

وللحديث زيادة أخرى وردت في بعض طرق الحديث ، فقد جاء في الترمذي : ( فإن الصدق طمأنينة ، والكذب ريبة ) ، وفي ذلك إشارة إلى أن المسلم إذا ابتعد عن كل ما يريبه ، فقد حمى نفسه من الوقوع في الحرام من باب أولى ، وهذا يورثه طمأنينة في نفسه ، مبعثها بُعده عن طريق الهلاك ، أما إذا لم يمتثل للتوجيه النبوي ، وأبى الابتعاد عن طريق الشبهات ، حصل له القلق والاضطراب ، لأن من طبيعة المشكوك فيه ألا يسكن له قلب ، أو يرتاح له ضمير.

وخلاصة القول : إن هذا الحديث يعطي تصورا واضحا للعبد فيما يأخذ وفيما يترك ، ومدى أثر ذلك على راحة النفس وطمأنينة الروح ، نسأل الله تعالى أن يجعلنا من أهل الورع والتقى ؛ إنه وليّ ذلك والقادر عليه .































أخوة الإسلام

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لا تحاسدوا ، ولا تناجشوا ، ولا تباغضوا ، ولا تدابروا ، ولا يبع بعضكم على بيع بعض ، وكونوا عباد الله إخوانا ، المسلم أخو المسلم ، لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره ، التقوى هاهنا – ويشير إلى صدره ثلاث مرات – بحسب امريء من الشر أن يحقر أخاه المسلم ، كل المسلم على المسلم حرام : دمه وماله وعرضه ) رواه مسلم .

الشرح

الأخوة الإسلامية شجرة وارفة الظلال ، يستظل بفيئها من أراد السعادة ، إنها شجرة تؤتي أكلها كل حين ، شهيّة ثمارها ، طيّبة ريحها ، تأوي إليها النفوس الظمأى ، لترتوي منها معاني الود والمحبة ، والألفة والرحمة .



إنها ليست مجرد علاقة شخصية ، ولكنها رابطة متينة ، قائمة على أساس من التقوى وحسن الخلق ، والتعامل بأرقى صوره ، وهي في الوقت ذاته معلم بارز ، ودليل واضح على تلاحم لبنات المجتمع ووحدة صفوفه ، وحسبك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ربط الأخوة بالإيمان ، وجعل رعايتها من دلائل قوته وكماله ، ولا عجب حينئذٍ أن يأتي الإسلام بالتدابير الكافية التي تحول دون تزعزع أركان هذه الأخوّة .



وفي ضوء ذلك ، جاء هذا الحديث العظيم لينهى المؤمنين عن جملة من الأخلاق الذميمة ، والتي من شأنها أن تعكر صفو الأخوة الإسلاميّة ، وتزرع الشحناء والبغضاء في نفوس أهلها ، وتثير الحسد والتدابر ، والغش والخداع ، وأخلاقاً سيئة أخرى جاء ذكرها في الحديث .



فقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الحسد ، ولا عجب في ذلك ! ، فإنه أول معصية وقعت على الأرض ، وهو الداء العضال الذي تسلل إلينا من الأمم الغابرة ، فأثمر ثماره النتنة في القلوب ، وأي حقد أعظم من تمني زوال النعمة عن الآخرين ؟ ، يقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( دب إليكم داء الأمم : الحسد والبغضاء ، ألا إنها هي الحالقة ، لا أقول تحلق الشعر ، ولكن تحلق الدين ) رواه الترمذي .



وعلاوة على ذلك ، فإن الحسد في حقيقته تسخّط على قضاء الله وقدره ، واعتراضٌ على تدبير الله وقسمته للأرزاق والأقوات ، وهذه جناية عظيمة في حق الباري تبارك وتعالى ، وقد قال بعضهم :

ألا قل لمن ظل لي حاسـد أتدري على من أسأت الأدب

أسأت على الله في حكمه لأنك لم ترض لي مــا

ومما جاء النهي عنه في الحديث : النجش ، وأصل النجش : استخدام المكر والحيلة ، والسعي بالخديعة لنيل المقصود والمراد ، ولا شك أن هذا لون من ألوان الغش المحرم في الشرع ، والمذموم في الطبع ، إذ هو مناف لنقاء السريرة التي هي عنوان المسلم الصادق ، وزد على ذلك أن في التعامل بها كسرٌ لحاجز الثقة بين المؤمنين .



والنجش لفظة عامة ، تشمل كل صور المخادعة والتحايل ، لكن أشهر صورها النجش في البيع ، ويكون ذلك إذا أراد شخص أن يعرض سلعة في السوق رغبةً في بيعها ، فيتفق مع أشخاص آخرين ، بحيث يُظهرون للمشتري رغبتهم في شراء هذه السلعة من البائع بسعر أكبر ، مما يضطر المشتري إلى أن يزيد في سعر السلعة ، فهذا وإن كان فيه منفعة للبائع فهو إضرار بالمشتري وخداع له .



ومن الآفات التي جاء ذمها في الحديث ، البغضاء بين المؤمنين ، والتدابر والتهاجر ، والاحتقار ونظرات الكبر ، وغيرها من الأخلاق المولّدة للشحناء ، والمسبّبة للتنافر .



والإسلام إذ ينهى عن مثل هذه المسالك المذمومة ؛ فإنه يهدف إلى رعاية الإخاء الإسلامي ، وإشاعة معاني الألفة والمحبة ؛ حتى يسلم أفراد المجتمع من عوامل التفكك وأسباب التمزق ، فتقوى شوكتهم ، ويصبحوا يدا واحدة على أعدائهم ؛ فالمؤمن ضعيف بنفسه ، قوي بإخوانه ، ومن هنا جاء التوجيه في محكم التنزيل بالاعتصام بحبل الله ، والوحدة على منهجه ، ونبذ كل مظاهر الفرقة والاختلاف ، يقول الله عزوجل في كتابه : { واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا } ( آل عمران : 103 ) .



ولن تبلغ هذه الوحدة مداها حتى يرعى المسلم حقوق إخوانه المسلمين ، ويؤدي ما أوجبه الله عليه تجاههم ، ولتحقيق ذلك لابد من مراعاة جملة من الأمور ، فمن ذلك : العدل معهم ، والمسارعة في نصرتهم ونجدتهم بالحقّ في مواطن الحاجة ، كما قال الله عزوجل في كتابه : { وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر } ( الأنفال : 72 ) ، وقد حثّ النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك ، ففي صحيح البخاري عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( انصر أخاك ظالما أو مظلوما ، فقال رجل : يا رسول الله أنصره إذا كان مظلوما ، أفرأيت إذا كان ظالماً ، كيف أنصره ؟ ، قال : تمنعه من الظلم ؛ فإن ذلك نصره ) .


ثم توّج النبي صلى الله عليه وسلم حديثه بالتذكير بحرمة المؤمن فقال : ( كل المسلم على المسلم حرام : دمه وماله وعرضه ) فالمسلم مأمور بالحفاظ على حرمات المسلمين ، وصيانة أعراضهم وأموالهم وأعراضهم ، فلا يحل له أن يصيب من ذلك شيئا بغير حق ، وحسبك أن النبي صلى الله عليه وسلم اختار أشرف البقاع وأشرف الأيام ، وتحيّن موقف الحاجة إلى الموعظة ، لينبّه الناس إلى ذلك الأمر العظيم ، لقد خطب الناس يوم النحر فقال : ( يا أيها الناس ، أي يوم هذا ؟ ) ، قالوا : يوم حرام ، قال : ( فأي بلد هذا ؟ ) ، قالوا : بلد حرام ، قال : ( فأي شهر هذا ؟ ) ، قالوا : شهر حرام ، قال : ( فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام ، كحرمة يومكم هذا ، في بلدكم هذا ، في شهركم هذا ) .


فإذا رعى المسلمون تلك المباديء التي أصلها هذا الحديث ، وصارت أخوّتهم واقعا ملموسا ، فسوف نشهد أيّاما من العزة والرفعة لهذه الأمة ، وسوف يصبح التمكين لها قاب قوسين أو أدنى ، بإذن الله تعالى .













حرمة دم المسلم وأسباب هدره

عن ابن مسعود رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لايحل دم امريء مسلم يشهد أن لا إله إلا الله ، وأني رسول الله ، إلا بإحدى ثلاث : الثيّب الزاني ، والنفس بالنفس ، والتارك لدينه المفارق للجماعة ) رواه البخاري و مسلم .

الشرح





ابتعث الله سبحانه وتعالى نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم بالدين الخاتم ، الذي يخرج الناس من عبادة العباد ، إلى عبادة رب العباد ، ومن جور الأديان ، إلى عدل الإسلام ، فإذا دخل الإنسان حياض هذا الدين ، والتزم بأحكامه ، صار فردا من أفراد المجتمع الإسلامي ، يتمتع بكافة الحقوق المكفولة له ، ومن جملة هذه الحقوق ، عصمة دمه وماله وعرضه .





وإعطاء المسلم هذه الحقوق له دلالته الخاصة ، فالحديث عن العصمة بكافة صورها هو حديث عن حرمة المسلم ، ومكانته في هذا المجتمع ، وقد قرر النبي صلى الله عليه وسلم هذه الحقوق يوم حجة الوداع فقال : ( إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام ، كحرمة يومكم هذا ، في بلدكم هذا ، في شهركم هذا ) رواه مسلم ، وقال أيضا : (من صلّى صلاتنا ، واستقبل قبلتنا ، وأكل ذبيحتنا فذلك المسلم الذي له ذمة الله وذمة رسوله) رواه البخاري .





والشريعة الإسلامية - بما تكفله من هذه الحقوق - تسعى إلى تحقيق الوحدة بين لبنات المجتمع المسلم ، وتعميق الروابط بين المؤمنين ، وبهذا يتحقق لهذا المجتمع أمنه ، وسلامة أفراده .



ولكن المشكلة تكمن في أولئك الأفراد ، الذين يشَّكل وجودهم خطرا يهدد صرح الأمة ، ولم تكن هذه الخطورة مقتصرة على فسادهم الشخصي ، أو وقوعهم في بعض المحرمات وتقصيرهم في حقوق ربهم ، إنما تعدت إلى انتهاك حقوق الآخرين ، وتهديد حياة الاستقرار التي يعيشها هذا المجتمع ، فمن هنا رفع الإسلام عن هؤلاء المنعة الشرعية ، وأسقط حقهم في الحياة .





وفي الحديث الذي بين أيدينا بيان لتلك الأمور التي من شأنها أن تزيل العصمة عن فاعلها ، وتجعله مهدر الدم ، وهي في قوله صلى الله عليه وسلم : ( الثيّب الزاني ، والنفس بالنفس ، والتارك لدينه المفارق للجماعة ) .






فأما الزاني المحصن ، فإن الحكم الشرعي فيه هو الرجم حتى الموت ، ولعل في حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه ، دلالة واضحة على هذا الحكم ، يقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( ..والثيب بالثيب جلد مائة ، والرجم ) رواه مسلم ، وقد رجم النبي صلى الله عليه وسلم ماعزا و الغامدية رضي الله عنهما في عهده ، وأجمع المسلمون على هذا الحكم ، وكان فيما نزل من القرآن ، ثم نسخ لفظه وبقي حكمه : " والشيخ والشيخ إذا زنيا فارجموهما البتّة نكالا من الله ، والله عزيز حكيم " - انظر مجموع الفتاوى 20/399 - .





وليس ثمة شك في أن هذا الحكم الذي شرعه الله تعالى في حق الزاني المحصن ، هو غاية العدل ، وهو الدواء الوحيد لقطع دابر هذه الظاهرة ، فإن الله سبحانه وتعالى أعلم بعباده ، وهو الذي خلقهم ، فهو أدرى بما يصلحهم وينفهم ، لأنه أحكم الحاكمين ، ولكنا إذا أردنا أن نتلمس الحكمة في تشريع الله تعالى لهذا النوع من العقوبة ، بحيث اختصت في هذا الحد من الحدود ولم تشرع في غيره ، فنقول : إذا أردنا أن نعرف ذلك فعلينا أن نتأمل الآثار المدمرة التي يخلفها مثل هذا الفعل الشنيع على جميع المستويات ، فهو ليس انتهاكا لحقوق الآخرين واعتداء على أعراضهم فحسب ، بل هو جريمة في حق الإنسانية ، وإفساد للنسل والذرية ، وسبب في اختلاط الأنساب ، فلهذا وغيره ، جاء حكم الله تعالى في الزاني المحصن على هذا النحو .





ويجدر بنا أن نشير إلى أن هذه العقوبة لا تتم إلا عندما يقرّ الزاني بما فعله من تلقاء نفسه ، أو بشهادة أربعة شهود على حصول ذلك منه ، وهذا في الحقيقة قد يكون متعذراً ، ومن ناحية أخرى دعت الشريعة من زلت قدمه بهذه الخطيئة أن يستر على نفسه ولا يفضحها ، ويتوب إلى الله عزوجل ، ولا داعي لفضح نفسه ، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يراجع من يعترف بفعله مرات ومرات ، لعله يتراجع عن اعترافه هذا ، ونلمس ذلك جليا في قوله صلى الله عليه وسلم : ( لعلك قبلت أو غمزت أو نظرت ) البخاري ، ومن هنا نرى أن الشريعة وضعت هذا الحد ضمن قيود واضحة ، وضوابط محددة ؛ حتى لا يطبق إلا في نطاق لازم ، وفي الموضع الصحيح .







إن ذلك يعطينا تصورا واضحة بأن هذه العقوبة ليست غاية أو هدفا في حد ذاتها ، ولكنها وسيلة لاستئصال هذه الظاهرة والقضاء عليها ، وهذا ما أثبته التاريخ في العهد النبوي ، فإن كتب السير لم تنقل لنا حصول هذه الجريمة الخلقية إلا في عدد محدود للغاية .





ثم ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أمرا آخر يحل به دم المسلم وهو : ( النفس بالنفس ) أي : قتل العمد ، وقد أجمع العلماء أن قاتل النفس المعصومة عمدا مستحق للقتل إذا انطبقت عليه الشروط ، انطلاقا من قوله تعالى : { وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس } ( المائدة :45 ) ، وهذا يشمل أن يكون المقتول أو القاتل ذكرا أم أنثى ، وهذا العموم مفهوم من الآية السابقة ، يؤيد ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم صح عنه أمر بقتل يهودي قصاصا من امرأة .





وإذا نظرنا إلى قوله تعالى : { ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب } ( البقرة :179) ، لأدركنا عظم الحكمة التي لأجلها شرع القصاص في الإسلام ، فالقصاص بحد ذاته ليس انتقاما شخصيا ، أو إرواء لغليل النفوس المكلومة ، بل هو أمر أعظم من ذلك ، إنه حياة للأمم والشعوب ، فإن القاتل إذا علم أن حياته ستكون ثمنا لحياة الآخرين ، فسوف يشكّل ذلك أكبر رادع له عن فكرة القتل ، وبهذا تستقيم الحياة ، وتعيش المجتمعات في أمن وطمأنينة .





وثالث الأمور التي تهدر الدم وتسقط العصمة ، الردة عن دين الله تعالى ، لقوله صلى الله عليه وسلم : ( والتارك لدينه المفارق للجماعة ) أي : المفارق لجماعة المسلمين ، ويعضده ما رواه البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( من بدل دينه فاقتلوه ) .







والردة قد تكون بالقول الصريح : كأن يكفر بالله صراحة ، أو بالاعتقاد : كأن يجحد شيئا معلوما من الدين بالضرورة ، أوإنكار النبوة أو البعث ، أو تكون باستحلال ما حرم الله ، أو تحريم ما أحل الله ، كما قد تكون بالفعل : كمن رمى المصحف في مكان القاذورات - والعياذ بالله - أو سجد لصنم ، فهذه أمثلة على بعض ما يخرج المرء من دين الله .







وينبغي أن نشير هنا إلى أنه قد ورد في أحاديث أخرى القتل بغير هذه الثلاث ، فقد ورد قتل اللوطي ، في حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط ، فاقتلوا الفاعل والمفعول به ) رواه الإمام أحمد في مسنده ، و أبوداود و الترمذي ، كما ورد الأمر بقتل الساحر ، وقتل من أراد أن يشق عصا المسلمين ، ومن أراد الإفساد في الأرض وقطع الطريق ، ولعلنا نلاحظ أن هذه الأصناف المذكورة تندرج ضمنا تحت الأنواع الثلاثة التي تناولها الحديث .





إن هذه التشريعات التي أحكمها الله سبحانه وتعالى هي صمام الأمان الذي يحفظ للأمة أمنها واستقرارها ، وبها تصان حقوق الفرد والمجتمع ، فحري بنا أن نعقلها ونتدبرها ، وأن نطبقها على واقعنا كما سطرناها في كتبنا
















































قل آمنت بالله ثم استقم


عن أبي عمرو سفيان بن عبدالله الثقفي ، رضي الله عنه قال : قلت : " يا رسول الله ، قل لي في الإسلام قولا ، لا أسأل عنه أحدا غيرك " . قال : ( قل آمنت بالله ، ثم استقم ) رواه مسلم في صحيحه .

الشرح





إن غاية ما يتطلع إليه الإنسان المسلم ، أن تتضح له معالم الطريق إلى ربّه ، فتراه يبتهل إليه في صلاته كل يوم وليلة أن يهديه الصراط المستقيم ، كي يتخذه منهاجا يسير عليه ، وطريقا يسلكه إلى ربه ، حتى يظفر بالسعادة في الدنيا والآخرة .







ومن هنا جاء الصحابي الجليل سفيان بن عبدالله رضي الله عنه ، إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، وانتهز الفرصة ليسأله عن هذا الشأن الجليل ، فجاءته الإجابة من مشكاة النبوة لتثلج صدره ، بأوضح عبارة ، وأوجز لفظ : ( قل آمنت بالله ، ثم استقم ) .







إن هذا الحديث على قلة ألفاظه ، يضع منهجا متكاملا للمؤمنين ، وتتضح معالم هذا المنهج ببيان قاعدته التي يرتكز عليها ، وهي الإيمان بالله : ( قل آمنت بالله ) ، فهذا هو العنصر الذي يغير من سلوك الشخص وأهدافه وتطلعاته ، وبه يحيا القلب ويولد ولادة جديدة تهيئه لتقبل أحكام الله وتشريعاته ، ويقذف الله في روحه من أنوار هدايته ، فيعيش آمنا مطمئنا ، ناعما بالراحة والسعادة ، قال الله تعالى مبينا حال المؤمن : { أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها } ( الأنعام : 122 ) ، فبعد أن كان خاوي الروح ، ميّت القلب ، دنيوي النظرة ، إذا بالنور الإيماني يملأ جنبات روحه ، فيشرق منها القلب ، وتسمو بها الروح ، ويعرف بها المرء حقيقة الإيمان ومذاقه.









فإذا ذاق الإنسان حلاوة الإيمان ، وتمكنت جذوره في قلبه ، استطاع أن يثبت على الحق ، ويواصل المسير ، حتى يلقى ربّه وهو راض عنه ، ثم إن ذلك الإيمان يثمر له العمل الصالح ، فلا إيمان بلا عمل ، كما أنه لا ثمرة بلا شجر ، ولهذا جاء في الحديث : ( ثم استقم ) فرتّب الاستقامة على الإيمان ، فالاستقامة ثمرة ضرورية للإيمان الصادق ، ويجدر بنا في هذا المقام أن نستعرض بعضاً من جوانب الاستقامة المذكورة في الحديث .









إن حقيقة الاستقامة ، أن يحافظ العبد على الفطرة التي فطره الله عليها ، فلا يحجب نورها بالمعاصي والشهوات ، مستمسكا بحبل الله ، كما قال ابن رجب رحمه الله : " والاستقامة في سلوك الصراط المستقيم ، وهو الدين القويم من غير تعويج عنه يمنة ولا يسرة ، ويشمل ذلك فعل الطاعات كلها : الظاهرة والباطنة ، وترك المنهيات كلها " ، وهو بذلك يشير إلى قوله تعالى : { فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون } ( الروم : 30 ).









وقد أمر الله تعالى بالاستقامة في مواضع عدة من كتابه ، منها قوله تعالى : { فاستقم كما أمرت ومن تاب معك } ( هود : 112 ) ، وبيّن سبحانه هدايته لعباده المؤمنين إلى طريق الاستقامة ، كما قال عزوجل : { وإن الله لهاد الذين آمنوا إلى صراط مستقيم } ( الحج : 54 ) ، وجعل القرآن الكريم كتاب هداية للناس ، يقول الله تعالى في ذلك : { كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد } ( إبراهيم : 1 ).









ولئن كانت الاستقامة تستدعي من العبد اجتهاداً في الطاعة ، فلا يعني ذلك أنه لا يقع منه تقصير أو خلل أو زلل ، بل لا بد أن يحصل له بعض ذلك ، بدليل أن الله تعالى قد جمع بين الأمر بالاستقامة وبين الاستغفار في قوله : { فاستقيموا إليه واستغفروه } ( فصلت : 6 ) ، فأشار إلى أنه قد يحصل التقصير في الاستقامة المأمور بها ، وذلك يستدعي من العبد أن يجبر نقصه وخلله بالتوبة إلى الله عزوجل ، والاستغفار من هذا التقصير ، وهذا كقوله صلى الله عليه وسلم : ( استقيموا ولن تحصوا ) رواه أحمد ، وقوله أيضا : ( سددوا وقاربوا ) رواه البخاري .





والمقصود منه المحاولة الجادة للسير في هذا الطريق، والعمل على وفق ذلك المنهج على قدر استطاعته وإن لم يصل إلى غايته، شأنه في ذلك شأن من يسدد سهامه إلى هدف ، فقد يصيب هذا الهدف ، وقد تخطيء رميته ، لكنه بذل وسعه في محاولة تحقيق ما ينشده ويصبو إليه .







وللاستقامة ثمار عديدة لا تنقطع ، فهي باب من أبواب الخير ، وبركتها لا تقتصر على صاحبها فحسب ، بل تشمل كل من حوله ، ويفهم هذا من قوله تعالى : { وأن لو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقا } ( الجن : 16 ) ، وتستمر عناية الله بعباده المستقيمين على طاعته حتى ينتهي بهم مطاف الحياة ، وهم ثابتون على كلمة التوحيد ، لتكون آخر ما يودعون بها الدنيا ، كما قال الله تعالى : { إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون ، نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم ولكم فيها ما تدعون ، نزلا من غفور رحيم } ( فصلت : 30 – 32 ) .







وإذا أردنا أن تتحقق الاستقامة في البدن فلابد من استقامة القلب أولا ، لأن القلب هو ملك الأعضاء ، فمتى استقام القلب على معاني الخوف من الله ، ومحبته وتعظيمه ، استقامت الجوارح على طاعة الله ، ثم يليه في الأهمية : استقامة اللسان ، لأنه الناطق بما في القلب والمعبّر عنه .







نسأل الله أن يهدينا إلى صراطه المستقيم ، صراط الذين أنعم عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين ، وحسن أولئك رفيقا .
العتمه غير متواجد حالياً  
قديم 22-02-2008, 10:17 AM   #25
العتمه
 
الصورة الرمزية العتمه
 







 
العتمه is on a distinguished road
افتراضي رد : تعرف على حبيبك

الغزوات


غزوة بدر الكبرى




سبب الغزوة






قد أسلفنا في ذكر غزوة العشيرة أن عيراً لقريش أفلتت من النبي (صلى الله عليه وسلم) في ذهابها من مكة إلى الشام ، ولما قرب رجوعها من الشام إلى مكة بعث رسول الله (صلى الله عليه وسلم) طلحة بن عبيد الله وسعيد بن زيد إلى الشمال ، ليقوما باكتشاف خبرها ، فوصلا إلى الحوراء ومكثا حتى مر بهما أبو سفيان بالعير ، فأسرعا إلى المدينة ، وأخبرا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بالخبر .




كانت العير مركبة من ثروات طائلة من أهل مكة ، ألف بعير موقرة بالأموال لا تقل عن خمسين ألف دينار ذهبي ، ولم يكن معها من الحرس إلا نحو أربعين رجلاً .

إنها فرصة ذهبية لعسكر المدينة ، وضربة عسكرية وسياسية واقتصادية قاصمة ضد المشركين لو انهم فقدوا هذه الثروة الطائلة ، لذلك أعلن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) في المسلمين قائلاً : هذه عير قريش فيها أموالهم ، فاخرجوا إليها لعل الله ينفلكموها .

ولم يعز على أحد الخروج ، بل ترك الأمر للرغبة المطلقة ، لما أنه لم يكن يتوقع عند هذا الانتداب أن سيصطدم بجيش مكة _ بدل العير _ هذه الاصطدام العنيف في بدر ، ولذلك تخلف كثير من الصحابة في المدينة ، وهم يحسبون أن مضي رسول الله (صلى الله عليه وسلم) في هذا الوجه لن يعدوا ما ألفوه في السرايا الماضية ، ولذلك لم ينكر على أحد تخلفه في هذه الغزوة .



مبلغ قوة الجيش الإسلامي وتوزيع القيادات


واستعد رسول الله(صلى الله عليه وسلم) للخروج ومعه ثلاثمائة وبضعة عشر رجلاً ( 313،، 314، 317) ، 82 أو 83 أو 86 من المهاجرين ، و 61 من الأوس و 170 من الخزرج . ولم يحتفلوا لهذا الخروج احتفالاً بليغاً ، ولا اتخذوا أهبتهم كاملة ، فلم يكن معهم إلا فرسان ، فرس للزبير بن العوام ، وفرس للمقداد بن الأسود الكندي ، وكان معهم سبعون بعيراً ليعتقب الرجلان والثلاثة على بعير واحد ، وكان رسول الله(صلى الله عليه وسلم) وعليّ ومرثد بن أبي مرثد يعتقبون بعيراً واحداً.

واستخلف على المدينة وعلى الصلاة ابن أم مكتوم ، فلما كان بالروحاء ردّ أبا لبابة بن عبد المنذر واستعمله على المدينة .

ودفع لواء القيادة العامة إلى مصعب بن عمير القرشي العبدري ، وكان هذا اللواء أبيض .

وقسم جيشه إلى كتيبتين :

1_ كتيبة المهاجرين ، وأعطي علمها علي بن أبي طالب .

2_ كتيبة الأنصار ، وأعطى علمها سعد بن معاذ .

وجعل على قيادة الميمنة الزبير بن العوام ، وعلى الميسرة المقداد بن عمرو _ وكانا هما الفارسين الوحيدين في الجيش كما أسلفنا _ وجعل على الساقة قيس بن أبي صعصعة ، وظلت القيادة العامة في يده(صلى الله عليه وسلم) كقائد أعلى للجيش .

الجيش الإسلامي يتحرك نحو بدر


سار رسول الله(صلى الله عليه وسلم) في هذا الجيش غير المتأهب ، فخرج من نقب المدينة ، ومضى على الطريق الرئيسي المؤدي إلى مكة ، حتى بلغ بئر الروحاء ولما ارتحل منها ، ترك طريق مكة بيسار وانحرف ذات اليمين على النازية ( يريد بدراً ) فسلك في ناحية منها ، حتى جذع وادياً يقال له رحقان ، بين النازية وبين مضيق الصفراء ، ثم مر على المضيق ، ثم انصب منه حتى قرب من الصفراء وهنالك بعث بسيس بن عمر الجهني وعدي بن أبي الزغباء الجهني إلى بدر يتجسسان له أخبار العير .

النذير في مكة


وأما خبر العير فإن أبا سفيان _ وهو المسؤول عنها _ كان على غاية من الحيطة والحذر ، فقد كان يعلم أن طريق مكة محفوف بالأخطار ، وكان يتحسس الأخبار ، ويسـأل من لقي من الركبان ، ولم يلبث أن نقلت إليه استخباراته بأن محمداً(صلى الله عليه وسلم) قد استنفر أصحابه ليوقع بالعير وحينئذ استأجر أبو سفيان ضمضم بن عمرو الغفاري إلى مكة ، مستصرخاً لقريش بالنفير إلى عيرهم ليمنعوه من محمد(صلى الله عليه وسلم) وأصحابه .

وخرج ضمضم سريعاً حتى أتى مكة ، فصرخ ببطن الوادي اقفاً على بعيره ، وقد جدع أنفه وحول رحله وشق قميصه ، وهو يقول : يا معشر قريش اللطيمة ، اللطيمة ، أموالكم مع أبي سفيان قد عرض لها محمد في أصحابه ، لا أرى أن تدركوها ، الغوث الغوث .

أهل مكة يتجهزون للغزو


فتحفز الناس سراعاً ، وقالوا : أيظن محمد وأصحابه أن تكون كعير ابن الحضرمي ؟ كلا ، والله ليعلمن غير ذلك ، فكانوا بين رجلين ، إما خارج ، وإما باعث مكانه رجلاً وأوعبوا في الخروج فلم يتخلف من أشرافهم أحد سوى أبي لهب ، فإنه عوض عنه رجلاً كان له عليه دين ، وحشدوا من حولهم من قبائل العرب ، ولم يتخلف عنهم أحد من بطون قريش إلا بني عدي ، فلم يخرج منهم أحد .

قوام الجيش المكي


وكان قوام هذا الجيش نحو ألف وثلاثمائة مقاتل في بداية سيره ، وكان معه مائة فرس وستمائة درع وجمال كثيرة لا يعرف عددها بالضبط ، وكان قائده العام أبا جهل بن هشام ، وكان القائمون بتموينه تسعة رجال من أشراف قريش ، فكانوا ينحرون يوما تسعاً ويوماً عشراً من الإبل .

مشكلة قبائل بني بكر


ولما أجمع هذا الجيش على المسير ، ذكرت قريش ما كان بينها وبين بني بكر من العداوة والحرب ، فخافوا أن تضربهم هذه القبائل من الخلف ، فيكونوا بين نارين ، فكاد ذلك يثنيهم ، ولكن حينئذ تبدى لهم إبليس في صورة سراقة بن مالك بن جعشم المدلجي _ سيد بني كنانة _ فقال لهم : أنا لكم جار من أن تأتيكم كنانة من خلفكم بشيء تكرهونه .

جيش مكة يتحرك

وحينئذ خرجوا من ديارهم ، كما قال الله : "بطراً ورئاء الناس ويصدون عن سبيل الله "وأقبلوا كما قال رسول الله(صلى الله عليه وسلم) "بحدهم وحديدهم ، يحادون الله ويحادون رسوله "وقال تعالى "وغدوا على حردٍ قادرين "وعلى حمية وغضب وحنق على رسول الله(صلى الله عليه وسلم) وأصحابه ، لا جتراء هؤلاء على قوافلهم .

تحركوا بسرعة فائقة نحو الشمال في إتجاه بدر ، وسلكوا في طريقهم وادي عسفان ، ثم قديد ، ثم الجحفة ، وهناك تلقوا رسالة جديدة من أبي سفيان يقول لهم فيها : إنكم إنما خرجتم لتحرزوا عيركم ورجالكم وأموالكم ، وقد نجاها الله فارجعوا .

العير تفلت


وكان من قصة أبي سفيان أنه كان يسير على الطريق الرئيسي ولكنه لم يزل حذراً متيقظاً ، وضاعف حركاته الاستكشافية ، ولما اقترب من بدر تقدم عيره ، حتى لقي مجدي بن عمرو ، وسأله عن جيش المدينة ، فقال : ما رأيت أحداً أنكره ، إلا أني قد رأيت راكبين قد أناخا إلى هذا التل ، ثم استقيا في شن لهما ، ثم انطلقا ، فبادر أبو سفيان إلى مناخهما ، فأخذ من أبعار بعيرهما ، ففته ، فإذا فيه النوى ، فقال : هذا والله علائف يثرب ، فرجع إلى عيره سريعاً ، وضرب وجهها محولاً اتجاهها نحو الساحل غرباً ، تاركاً الطريق الرئيسي الذي يمر ببدر على اليسار . وبهذا نجا بالقافلة من الوقوع في قبضة جيش المدينة ، وأرسل رسالته إلى جيش مكة التي تلقاها في الجحفة .

هم الجيش المكي بالرجوع ووقوع الإنشقاق فيه


ولما تلقى هذه الرسالة جيش مكة هم بالرجوع ، ولكن قام طاغية قريش أبو جهل في كبرياء وغطرسة قائلاً : والله لا نرجع حتى نرد بدراً ، فنقيم بها ثلاثاً فننحر الجزور ، ونطعم الطعام ، ونسقي الخمر ، وتعزف لنا القيان ، وتسمع بنا بنا العرب وبمسيرنا وجمعنا ، فلا يزالون يهابوننا أبداً .

ولكن على رغم أبي جهل أشار الأخنس بن شريق بالرجوع فعصوه ، فرجع هو وبنو زهرة _وكان حليفاً لهم ورئيساً عليهم في هذا النفير _ فلم يشهد بدراً زهري واحد ، وكانوا حوالي ثلاثمائة رجل واغتبطت بنوزهرة بعد رأي الأخنس بن شريق ، فلم يزل فيهم مطاعاً معظماً .

وأرادت بنو هاشم الرجوع ، فاشتد عليهم أبو جهل ، وقال : لا تفارقنا هذه العصابة حتى نرجع .

فسار بالجيش مكة وقوامه ألف مقاتل بعد رجوع بني زهرة _ وهو يقصد بدراً _ فواصل سيره حتى نزل قريباً من بدر ، وراء كثيب يقع بالعدوة القصوى على حدود وادي بدر .

حراجة موقف الجيش الإسلامي

أما استخبارات جيش المدينة فقد نقلت إلى رسول الله(صلى الله عليه وسلم) _ وهو لا يزال في الطريق بوادي ذفران _ خبر العير والنفير ، وتأكد لديه بعد التدبر في تلك الأخبار أنه لم يبق مجال للاجتناب عن لقاء دام ، وأنه لا بد من إقدام يبنى على الشجاعة والبسالة ، والجراءة ، والجسارة فمما لا شك فيه أنه لو ترك جيش مكة يجوس خلال تلك المنطقة يكون ذلك تدعيماً لمكانة قريش العسكرية ، وامتداداً لسلطانها السياسي ، وإضعافاً لكلمة المسلمين وتوهيناً لها ، بل ربما تبقى الحركة الإسلامية بعد ذلك جسداً لا روح فيه ، ويجرؤ على الشر كل من فيه حقد أو غيظ على الإسلام في هذه المنطقة .

وبعد هذا كله فهل يكون هناك أحد يضمن للمسلمين أن يمنع جيش مكة عن مواصلة سيره نحو المدينة ، حتى ينقل المعركة إلى أسوارها ، ويغزو المسلمين في عقر دارهم . كلا ، فلو حدث من جيش المدينة نكول ما لكان له أسوأ الأثر على هيبة المسلمين وسمعتهم .


المجلس الإستشاري


ونظراً إلى هذا التطور الخطير المفاجئ عقد رسول الله(صلى الله عليه وسلم) مجلساً عسكرياً استشارياً أعلى ، أشار فيه إلى الوضع الراهن ، وتبادل فيه الرأي مع عامة جيشه ، وقادته ، وحينئذ تزعزع قلوب فريق من الناس ، وخافوا اللقاء الدامي ، وهم الذين قال الله فيهم "كما أخرجك ربك من بيتك بالحق وإن فريقاً من المؤمنين لكارهون (5) يجادلونك في الحق بعد ما تبين كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون "وأما قادة الجيش ، فقام أبو بكر الصديق فقال وأحسن ، ثم قام عمر بن الخطاب فقال وأحسن ، ثم قام المقداد بن عمرو فقال : (( يا رسول الله ، امض لما أراك الله فنحن معك ، والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى : اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون ، ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون ، فو الذي بعثك بالحق لو سرت بنا إلى برك الغماد لجالدنا معك من دونه حتى تبلغه ))

فقال له رسول الله(صلى الله عليه وسلم) خيراً ودعا له به .

وهؤلاء القادة الثلاثة كانوا من المهاجرين ، وهم أقلية في الجيش ، فأحب رسول الله(صلى الله عليه وسلم) أن يعرف رأي الأنصار ، لأنهم كانوا يمثلون أغلبية الجيش ولأن ثقل المعركة سيدور على كواهلهم ، مع أن نصوص العقبة لم تكن تلزمهم بالقتال خارج ديارهم ، فقال بعد سماع كلام هؤلاء القادة الثلاثة : (( أشيروا علي أيها الناس )) وإنما يريد الأنصار ، وفطن إلى ذلك قائد الأنصار وحامل لوائهم سعد بن معاذ ، فقال :

والله لكأنك تريدنا يا رسول الله ؟

قال : أجل

قال : (( فقد آمنا بك ، فصدقناك ، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق ، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة ، فامض يا رسول الله لما أردت فوالذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك ، ما تخلف منا رجل واحد ، وما نكره أن تلقى بنا عدواً غداً ، إنا لصبر في الحرب ، صدق في اللقاء ، ولعل الله يريك منا ما تقر به عينك ، فسر بنا على بركة الله )).

وفي رواية أن سعد بن معاذ قال لرسول الله(صلى الله عليه وسلم) : لعلك تخشى أن تكون الأنصار ترى حقاً عليها أن لا تنصرك إلا في ديارهم ، وإني أقول عن الأنصار وأجيب عنهم ، فاظعن حيث شئت ، وصل حبل من شئت ، واقطع حبل من شئت ، وخذ من أموالنا ما شئت ، وأعطنا ما شئت ، وما أخذت منا كان أحب إلينا مما تركت ، وما أمرت فيه من أمر فأمرنا تبع لأمرك ، فو الله لئن سرت حتى تبلغ البرك من غمدان لنسيرن معك ، و والله لئن استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معـــك .

فسر رسول الله(صلى الله عليه وسلم) بقول سعد ، ونشطه ذلك ، ثم قال : سيروا وأبشروا ، فإن الله تعالى قد وعدني إحدى الطائفتين : والله لكأني الآن أنظر إلى مصارع القوم .

الجيش الإسلامي يواصل سيره



ثم ارتحل رسول الله(صلى الله عليه وسلم) من ذفران ، فسلك على ثنايا يقال لها الأصافر ، ثم انحط منها إلى بلد يقال له الدية ، وترك الحنان بيمين _ وهو كثيب عظيم كالجبل _ ثم نزل قريباً من بدر .

الرسول(صلى الله عليه وسلم) يقوم بعملية الإستكشاف


وهناك قام بنفسه بعملية الاستكشاف مع رفيقه في الغار أبي بكر الصديق رضي الله عنه ، وبينما هما يتجولان حولا معسكر مكة ، إذا هما بشيخ من العرب ، فسأله رسول الله(صلى الله عليه وسلم) عن قريش وعن محمد وأصحابه _ سأل عن الجيشين زيادة في التكتم _ ولكن الشيخ قال : لا أخبركما حتى تخبراني ممن أنتما ؟ فقال له رسول الله(صلى الله عليه وسلم) : إذا أخبرتنا أخبرناك ، قال : أو ذاك بذلك ؟ قال : نعم .

قال الشيخ : فإنه بلغني أن محمداً وأصحابه خرجوا يوم كذا وكذا ، فإن كان صدق الذي أخبرني فهو اليوم بمكان كذا وكذا _ للمكان الذي به جيش المدينة _ وبلغني أن قريشاً خرجوا يوم كذا وكذا ، فإن كان صدق الذي أخبرني فهم اليوم بمكان كذا وكذا _ للمكان الذي به جيش مكة .

ولما فرغ من خبره قال : ممن أنتما ؟ فقال له رسول الله(صلى الله عليه وسلم) نحن من ماء ، ثم انصرف عنه وبقي الشيخ يتفوه ، من ماء ؟ أمن ماء العراق ؟






الحصول على أهم المعلومات عن الجيش المكي


وفي مساء ذلك اليوم بعث استخباراته من جديد ، ليبحث عن أخبار العدو ، وقام لهذه العملية ثلاثة من قادة المهاجرين ، علي بن أبي طالب والزبير بن العوام وسعد بن أبي وقاص في نفر من أصحابه ، ذهبوا إلى ماء بدر ، فوجدوا غلامين يستقيان لجيش مكة ، فألقوا عليهما القبض وجاءوا بهما إلى رسول الله(صلى الله عليه وسلم) ، وهو في الصلاة ، فاستخبرهما القوم ، فقالا : نحن سقاة قريش بعثونا نسقيهم من الماء ، فكره القوم ورجوا أن يكونا لأبي سفيان _ لا تزال في نفوسهم بقايا أمل في الاستيلاء على القافلة _ فضربوهما موجعاً ، حتى اضطر الغلامان أن يقولا : نحن لأبي سفيان ، فتركوهما .

ولما فرغ رسول الله(صلى الله عليه وسلم) عن الصلاة قال لهم كالعاتب : إذ صدقاكم ضربتموهما وإذا كذباكم تركتموهما ، صدقا والله ، إنهما لقريش .

ثم خاطب الغلامين قائلاً : أخبراني عن قريش ، قالا: هم وراء هذا الكثيب الذي ترى بالعدوة القصوى ، فقال لهما : كم القوم ؟ قالا : كثير . قال : ما عدتهم ؟ قالا : لا ندري ، قال : كم ينحرون كل يوم ؟ قالا : يوماً تسعاً ويوماً عشراً ، فقال رسول الله(صلى الله عليه وسلم) : القوم فيما بين التسعمائة إلى الألف ، ثم قال لهما : فمن فيهم من أشراف قريش ؟ قالا : عتبة وشيبة ابنا ربيعة ، وأبو البخترى بن هشام ، وحكيم بن حزام ، ونوفل بن خويلد ، والحارث بن عامر ، وطعيمة بن عدي ، والنضر بن الحارث وزمعة بن الأسود وأبو جهل بن هشام ، وأمية بن خلف في رجال سمياهم .

فأقبل رسول الله(صلى الله عليه وسلم) على الناس ، فقال : هذه مكة قد ألقت إليكم أفلاذ كبدها .





نزول المطر


وأنزل الله عز وجل في تلك الليلة مطراً واحداً ، فكان على المشركين وابلاً شديداً منعهم من التقدم ، وكان على المسلمين طلا طهرهم به ، وأذهب عنهم رجس الشيطان ، ووطأ به الأرض ، وصلب به الرمل ، وثبت الأقدام ، ومهد به المنزل ، وربط به على قلوبهم .



الجيش الإسلامي يسبق إلى أهم المراكز العسكرية




وتحرك رسول الله(صلى الله عليه وسلم) بجيشه ، ليسبق المشركين إلى ماء بدر ، ويحول بينهم وبين الاستيلاء عليه ، فنزل عشاء أدنى ماء من مياه بدر ، وهنا قام الحباب بن المنذر كخبير عسكري وقــال : يا رسول الله ، أرأيت هذا المنزل ، أمنزلاً أنزلكه الله ، ليس لنا أن نتقدمه ولا نتأخر عنه ؟ أم هو الرأي والحرب والمكيدة ؟ قال : بل هو الرأي والحرب والمكيدة ، قال : يا رسول الله ، فإن هذا ليس بمنزل ، فانهض بالناس حتى نأتي أدنى ماء من القوم _ قريش _ فننزله وتغور _ أي نخرب _ ما وراءه من القلب ، ثم نبني عليه حوضاً ، فنملأه ماء ، ثم نقاتل القوم ، فنشرب ولا يشربون ، فقال رسول الله(صلى الله عليه وسلم) : لقد أشرت بالرأي .

فنهض رسول الله(صلى الله عليه وسلم) بالجيش ، حتى أتى أقرب ماء من العدو ، فنزل عليه شطر الليل ، ثم صنعوا الحياض ، وغوَّروا ما عداها من القلب .

مقر القيادة


وبعد أن تم نزول المسلمين على الماء اقترح سعد بن معاذ على رسول الله(صلى الله عليه وسلم) أن يبني المسلمون مقراً لقيادته ، استعداداً للطوارئ ، وتقديراً للهزيمة قبل النصر ، حيث قال : (( يا نبي الله ألا نبني لك عريشاً تكون فيه ، ونعد عندك ركائبك ، ثم نلقي عدونا ، فإن أعزنا الله وأظهرنا على عدونا كان ذلك ما أحببنا ، وإن كانت الأخرى جلست على ركائبك ، فلحقت بمن وراءنا من قومنا فقد تخلف عنك أقوام يا نبي الله ما نحن بأشد لك حباً منهم ، ولو ظنوا أنك تلقى حرباً ما تخلفوا عنك يمنعك الله بهم ، يناصحونك ، ويجاهدون معك ))

فأثنى عليه رسول الله(صلى الله عليه وسلم) خيراً ، ودعا له بخير ، وبنى المسلمون عريشاً على تل مرتفع يقع في الشمال الشرقي لميدان القتال ، ويشرف على ساحة المعركة .

كما تم انتخاب فرقة من شباب الأنصار بقيادة سعد بن معاذ ، يحرسون رسول الله(صلى الله عليه وسلم) حول مقر قيادته .

تعبئة الجيش وقضاء الليل


ثم عبأ رسول الله(صلى الله عليه وسلم) جيشه ، ومشى في موضع المعركة ، وجعل يشير بيده : هذا مصرع فلان غداً إن شاء الله ، وهذا مصرع فلان غداً إن شاء الله ، ثم بات رسول الله(صلى الله عليه وسلم) يصلي إلى جذع شجرة هنالك ، وبات المسلمون ليلهم هادئ الأنفاس منير الآفاق ، غمرت الثقة قلوبهم ، وأخذوا من الراحة قسطهم ، يأملون أن يروا بشائر ربهم بعيونهم صباحاً "إذ يغشيكم النعاس أمنة منه وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به ويذهب عنكم رجز الشيطان وليربط على قلوبكم ويثبت به الأقدام "

كانت هذه الليلة ليلة الجمعة ، السابع عشر من رمضان في السنة الثانية من الهجرة ، وكان خروجه في 8 أو 12 من نفس الشهر .





الجيش المكي في عرصة القتال ووقوع الانشقاق فيه


أما قريش ، فقضت ليلتها هذه في معسكرها بالعدوة القصوى ، ولما أصبحت أقبلت في كتائبها ، ونزلت من الكثيب إلى وادي بدر ، وأقبل نفر منهم إلى حوض رسول الله(صلى الله عليه وسلم) فقال : دعوهم فما شرب أحد منهم يومئذ إلا قتل ، سوى حكيم بن حزام ، فإنه لم يقتل ، وأسلم بعد ذلك ، وحسن إسلامه ، وكان إذا اجتهد في اليمين قال : لا والذي نجاني من يوم بدر ، فلما اطمأنت قريش بعث عمير بن وهب الجمحي ، للتعرف على مدى قوة جيش المدينة ، فدار عمير بفرسه حول العسكر ، ثم رجع إليهم فقال : ثلاثمائة رجل ، يزيدون قليلاً أو ينقصون ، ولكن أمهلوني حتى أنظر أللقوم كمين أو مدد ؟ فضرب في الوادي حتى أبعد ، فلم ير شيئاً فرجع إليهم فقال : ولكني قد رأيت يا معشر قريش البلايا تحمل المنايا ، نواضح يثرب تحمل الموت الناقع ، قوم ليس معهم منعة ولا ملجأ إلا سيوفهم ، والله ما أرى أن يقتل رجل منهم حتى يقتل رجلاً منكم ، فإذا أصابوا منكم أعدادكم ، فما خير العيش بعد ذلك ، فروا رأيكم .

وحينئذ قامت معارضة أخرى ضد أبي جهل _ المصمم على المعركة _ تدعوا إلى العودة بالجيش إلى مكة دونما قتال ، فقد مشى حكيم بن حزام في الناس ، وأتى عتبة بن ربيعة فقال : يا أبا الوليد إنك كبير قريش ، وسيدها والمطاع فيها ، فهل لك إلى خير تذكر به إلى آخر الدهر ؟ قال : وما ذاك يا حكيم ؟ قال : ترجع بالناس ، وتحمل أمر حليفك عمرو بن الحضرمي _ المقتول في سرية نخلة _ فقــال : عتبة : قد فعلت ، أنت ضامن علي بذلك ، إنما هو حليفي فعلي عقله ديته وما أصيب من ماله .

ثم قال عتبة لحكيم بن حزام ، فأت ابن الحنظلية _ أبا جهل ، والحنظلية أمه _ فإني لا أخشى أن يشجر أمر الناس غيره .

ثم قام عتبة بن ربيعة خطيباً فقال : يا معشر قريش ، إنكم والله ما تصنعون بأن تلقوا محمداً وأصحابه شيئاً ، والله لئن أصبتموه لا يزال ينظر في وجه رجل يكره النظر إليه ، قتل ابن عمه أو ابن خاله أو رجلاً من عشيرته ، فارجعوا وخلوا بن محمد وبين سائر العرب ، فإن أصابوه فذاك الذي أردتم ، وإن كان غير ذلك ألفاكم ولم تعرضوا منه ما تريدون .

وانطلق حكيم بن حزام إلى أبي جهل _ وهو يهيئ درعاً له _ قال يا أبا الحكم إن عتبة أرسلني إليك بكذا وكذا ، فقال أبو جهل : انتفخ والله سحره حين رأى محمداً وأصحابه ، كلا ، والله لا نرجع حتى يحكم الله بيننا وبين محمد ، وما بعتبة ما قال ، ولكنه رأى أن محمداً وأصحابه أكلة جزور ، وفيهم ابنه _ وهو أبو حذيفة بن عتبة كان قد أسلم قديماً وهاجر _ فتخوفكم عليه .

ولما بلغ قول أبي جهل : (( انتفخ والله سحره )) قال عتبة : سيعلم من انتفخ سحره ، أنا أم هو؟ وتعجل أبو جهل مخافة أن تقوى هذه المعارضة ، فبعث على إثر هذه المحاورة إلى عامر بن الحضرمي _ أخي عمرو بن الحضرمي المقتول في سرية عبد الله بن جحش _ فقال : هذا حليفك ( أي عتبة ) يريد أن يرجع بالناس ، وقد رأيت ثأرك بعينك ، فقم فانشد خفرتك ، ومقتل أخيك ، فقام عامر ، فكشف عن استه ، وصرخ : واعمراه واعمراه فحمي القوم ، وحقب أمرهم ، واستوثقوا على ما هم عليه من الشر وأفسد على الناس الرأي الذي دعاهم إليه عتبة . وهكذا تغلب الطيش على الحكمة وذهبت هذه المعارضة دون جدوى .





الجيشان يتراءان


ولما طلع المشركون ، وترآى الجمعان قال رسول الله(صلى الله عليه وسلم) "اللهم هذه قريش قد أقبلت بخيلائها وفخرها ، تحادك وتكذب رسولك ، اللهم فنصرك الذي وعدتني ، اللهم أحنهم الغــداة ".

وقد قال رسول الله(صلى الله عليه وسلم) _ ورأى عتبة بن ربيعة في القوم على جمل له أحمر _ إن يكن في أحد من القوم خير فعند صاحب الجمل الأحمر ، إن يطيعوه يرشدوا .

وعدل رسول الله(صلى الله عليه وسلم) صفوف المسلمين ، وبينما هو يعدلها وقع أمر عجيب ، فقد كان في يده قدح يعدل به ، وكان سواد بن غزية مستنصلاً من الصف ، فطعن في بطنه بالقدح وقـــال : " استو يا سواد " ، فقال سواد : يا رسول الله أوجعتني فأقدني ، فكشف عن بطنه ، وقـــال : استقد ، فاعتنقه سواد ، وقبل بطنه ، فقال : ما حملك على هذا يا سواد ؟ قال : يا رسول الله قد حضر ما ترى ، فأردت أن يكون آخر العهد بك أن يمس جلدي جلدك . فدعا له رسول الله(صلى الله عليه وسلم) بخير .

ولما تم تعديل الصفوف أصدر أوامره إلى جيشه بأن لا يبدأوا القتال حتى يتلقوا منه الأوامر الأخيرة ، ثم أدلى إليهم بتوجيه خاص في أمر الحرب فقال : " إذا أكثبوكم _ يعني كثروكم _ فارموهم ، واستبقوا نبلكم ولا تسلوا السيوف حتى يغشوكم " ، ثم رجع إلى العريش هو وأبو بكر خاصة ، وقام سعد بن معاذ بكتيبة الحراسة على باب العريش .

أما المشركون فقد استفتح أبو جهل في ذلك اليوم فقال : اللهم أقطعنا للرحم وآتانا بما لا نعرفه ، فأحنه الغداة ، اللهم أينا كان أحب إليك وأرضى عندك فانصره اليوم ، وفي ذلك أنزل الله "إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح وإن تنتهوا فهو خير لكم وإن تعودوا نعد ولن تغني عنكم فئتكم شيئاً ولو كثرت وإن الله مع المؤمنين "

ساعة الصفر وأول وقود المعركة




وكان أول وقود المعركة الأسود بن عبد الأسد المخزومي _ وكان رجلاً شرساً سيء الخلق _ خرج قائلاً : أعاهد الله لأشربن من حوضهم ، أو لأهدمنه ، أو لأموتن دونه . فلما خرج إليه حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه ، قلما التقيا ضربه حمزة ، فأطن قدمه بنصف ساقه وهو دون الحوض ، فوقع على ظهره تشخب رجله دماً نحو أصحابه ثم حبا إلى الحوض حتى اقتحم فيه ، يريد أن تبر يمينه ولكن حمزة ثنى عليه بضربة أخرى أتت عليه وهو داخل الحوض .

المبارزة


وكان هذا أول قتل أشعل نار المعركة ، فقد خرج بعده ثلاثة من خيرة فرسان قريش كانوا من عائلة واحدة ، وهم عتبة وأخوه شيبة ابنا ربيعة ، والوليد بن عتبة ، فلما انفصلوا من الصف طلبوا المبارزة فخرج إليهم ثلاثة من شباب الأنصار ، عوف ومعوذ ابنا الحارث _ وأمهما عفراء _ وعبد الله بن رواحه ، فقالوا : من أنتم ؟ قالوا : رهط من الأنصار . قالوا : أكفاء كرام ، مالنا بكم حاجة ، وإنما نريد بني عمنا ، ثم نادى مناديهم : يا محمد ، أخرج إلينا أكفاءنا من قومنا ، فقال رسول الله(صلى الله عليه وسلم) : قم يا عبيدة بن الحارث ، وقم يا حمزة ، وقم يا علي ، فلما قاموا ودنوا منهم ، قالوا : من أنتم ؟ فأخبروهم ، فقالوا : أنتم أكفاء كرام ، فبارز عبيدة _ وكان أسن القوم _ عتبة بن ربيعة ، وبارز حمزة شيبة ، وبارز علي الوليد ، فأما حمزة وعلي فلم يمهلا قرنيهما أن قتلاهما ، وأما عبيدة فاختلف بينه وبين قرنه ضربتان ، فأثخن كل واحد منهما صاحبه ، ثم كر علي وحمزة على عتبة فقتلاه واحتملا عبيدة ، وقد قطعت رجله ، فلم يزل صمتاً حتى مات بالصفراء بعد أربعة أو خمسة أيام من وقعة بدر ، حينما كان المسلمون في طريقهم إلى المدينة .

وكان علي يقسم بالله أن هذه الآية نزلت فيهم : "هذان خصمان اختصموا في ربهم "

الهجوم العام


وكانت نهاية هذه المبارزة بداية سيئة بالنسبة إلى المشركين ، فقدوا ثلاثة من خيرة فرسانهم وقادتهم دفعة واحدة ، فاستشاطوا غضباً ، وكروا على المسلمين كرة رجل واحد .

وأما المسلمون فبعد أن استنصروا ربهم ، واستغاثوه ، وأخلصوا له ، وتضرعوا إليه تلقوا هجمات المشركين المتوالية ، وهم مرابطون في مواقعهم ، واقفون موقف الدفاع ، وقد ألحقوا بالمشركين خسائر فادحة ، وهم يقولون : أحد أحد .


الرسول(صلى الله عليه وسلم) يناشد ربه


وأما رسول الله(صلى الله عليه وسلم) فكان منذ رجوعه بعد تعديل الصفوف يناشد ربه ما وعده من النصر ، ويقول : "اللهم أنجز لي ما وعدتني ، اللهم إني أنشدك عهدك ووعدك ". حتى إذا حمي الوطيس واستدارت رحى الحرب بشدة ، واحتدم القتال ، وبلغت المعركة قمتها ، قال : "اللهم إن تهلك هذه العصابة اليوم لا تعبد ، اللهم إن شئت لم تعبد بعد اليوم أبداً ". وبالغ في الابتهال حتى سقط رداؤه عن منكبيه ، فرده عليه الصديق ، وقال : حسبك يا رسول الله ، ألححت على ربك .

وأوحى الله إلى ملائكته "‏أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرَّعْبَ "وأوحى إلى رسوله : "‏أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُرْدِفِينَ "أي ردف لكم ، أو يردف بعضهم بعضاً إرسالاً ، لا يأتون دفعة واحدة .

نزول الملائكة


وأغفى رسول الله(صلى الله عليه وسلم) إغفاءة واحدة ، ثم رفع رأسه فقال : أبشر يا أبا بكر هذا جبريل على ثناياه النقع ( أي الغبار ) وفي رواية محمد بن إسحاق : قال رسول الله(صلى الله عليه وسلم) : "أبشر يا أبا بكر ، أتاك نصر الله هذا جبريل آخذ بعنان فرسه يقوده ، على ثناياه النقع "

ثم خرج رسول الله(صلى الله عليه وسلم) من باب العريش ، وهو يثب في الدرع ويقول : "سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ "ثم أخذ حفنة من الحصباء ، فاستقبل بها قريشاً وقال : شاهت الوجوه ، ورمى بها في وجوههم ، فما من المشركين أحد إلا أصاب عينه ومنخريه وفمه من تلك القبضة ، وفي ذلك أنزل الله : "‏وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَـكِنَّ اللّهَ رَمَى ".

الهجوم المضاد


وحينئذ أصدر إلى جيشه أوامره الأخيرة بالهجمة المضادة فقال : "شدوا "، وحرضهم على القتال ، قائلاً : "والذي نفس محمد بيده لا يقاتلهم اليوم رجل فيقتل صابراً محتسباً مقبلاً غير مدبر إلا أدخله الله الجنة "وقال وهو يحضهم على القتال : "قوموا إلى جنة عرضها السماوات والأرض "، ( وحينئذ ) قال العمير بن الحمام : بخ بخ ، فقال رسول الله(صلى الله عليه وسلم) : ما يحملك على قولك : بخ بخ ؟ قال : لا ، والله يا رسول الله إلا رجاء أن أكون من أهلها ، قال : فإنك من أهلها . فأخرج تمرات من قرنه ، فجعل يأكل منهن ، ثم قال : لئن أنا حييت حتى آكل تمراتي هذه إنها لحياة طويلة ، فرمى بما كان معه من التمر ، ثم قاتلهم حتى قتل .

وكذلك سأله عوف بن الحارس _ ابن عفراء _ فقال : يا رسول الله ما يضحك الرب من عبده ! قال غمسه يده في العدو حاسراً ، فنزع درعاً كانت عليه ، فقذفها ، ثم أخذ سيفه فقاتل القوم حتى قتل .

وحين أصدر رسول الله(صلى الله عليه وسلم) الأمر بالهجوم المضاد كانت حدة هجمات العدو قد ذهبت ، وفتر حماسه ، فكان لهذه الخطة الحكيمة أثر كبير في تعزيز موقف المسلمين ، فإنهم حينما تلقوا أمر الشد والهجوم _ وقد كان نشاطهم الحربي على شبابه _ قاموا بهجوم كاسح مرير ، فجعلوا يقلبون الصفوف ، ويقطعون الأعناق ، وزادهم نشاطاً وحدة أن رأوا رسول الله(صلى الله عليه وسلم) يثب في الدرع في جزم وصراحة "‏سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ "فقاتل المسلمون أشد القتال ، ونصرتهم الملائكة .

ففي رواية ابن سعد عن عكرمة قال : كان يومئذ يندر رأس الرجل لا يدري من ضربه ، وتندر يد الرجل لا يدري من ضربها ، وقال ابن عباس : بينما رجل من المسلمين يشتد في إثر رجل من المشركين أمامه إذ سمع ضربة بالسوط فوقه ، وصوت الفارس يقول : أقدم حيزوم فنظر إلى المشرك أمامه ، فجاء الأنصاري فحدث بذلك رسول الله(صلى الله عليه وسلم) ، فقال : صدقت ذلك من مدد السماء الثالثة .

وقال أبو داود المازني : إني لأتبع رجلاً من المشركين لأضربه إذ وقع رأسه قبل أن يصل إليه سيفي ، فعرفت أنه قد قتله غيري .

وجاء رجل من الأنصار للعباس بن عبد المطلب أسيراً ، فقال العباس : إن هذا والله ما أسرني ، لقد أسرني رجل أجلح من أحسن الناس وجهاً على فرس أبلق ، وما أراه في القوم ، فقال الأنصاري : أنا أسرته يا رسول الله ، فقال : أسكت فقد أيدك الله بملك كريم .

إبليس ينسحب عن ميدان القتال


ولما رأى إبليس ـ وكان قد جاء في صورة سراقة بن مالك بن جُعْشُم المدلجي كما ذكرنا ، ولم يكن فارقهم منذ ذلك الوقت .

فلما رأى ما يفعل الملائكة بالمشركين فر ونكص على عقبيه ، وتشبث به الحارث بن هشام ـ وهو يظنه سراقة ـ فوكز في صدر الحارث فألقاه ، ثم خرج هاربًا .

وقال له المشركون ‏:‏ إلى أين يا سراقة‏ ؟‏ ألم تكن قلت‏ :‏ إنك جار لنا، لا تفارقنا‏ ؟‏

فقال ‏:‏ ‏" ‏إِنِّي أَرَى مَا لاَ تَرَوْنَ إِنِّيَ أَخَافُ اللّهَ وَاللّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ‏ "‏ ‏[‏الأنفال‏:‏48‏] ‏، ثم فر حتى ألقى نفسه في البحر‏ .‏

الهزيمة الساحقة


وبدأت أمارات الفشل والاضطراب في صفوف المشركين، وجعلت تتهدم أمام حملات المسلمين العنيفة، واقتربت المعركة من نهايتها، وأخذت جموع المشركين في الفرار والانسحاب المبدد، وركب المسلمون ظهورهم يأسرون ويقتلون، حتى تمت عليهم الهزيمة‏ .

صمود أبي جهل


أما الطاغية الأكبر أبو جهل ، فإنه لما رأى أول أمارات الاضطراب في صفوفه حاول أن يصمد في وجه هذا السيل ، فجعل يشجع جيشه ويقول لهم في شراسة ومكابرة‏ :‏ لا يهزمنكم خذلان سراقة إياكم ، فإنه كان على ميعاد من محمد ، ولا يهولنكم قتل عتبة وشيبة والوليد ، فإنهم قد عجلوا ، فواللات والعزى لا نرجع حتى نقرنهم بالحبال ، ولا ألفين رجلاً منكم قتل منهم رجلاً، ولكن خذوهم أخذًا حتى نعرفهم بسوء صنيعهم ‏.‏

ولكن سرعان ما تبدت له حقيقة هذه الغطرسة ، فما لبث إلا قليلاً حتى أخذت الصفوف تتصدع أمام تيارات هجوم المسلمين ‏.‏

نعم ، بقى حوله عصابة من المشركين ضربت حوله سياجًا من السيوف ، وغابات من الرماح ، ولكن عاصفة هجوم المسلمين بددت هذا السياج ، وأقلعت هذه الغابات ، وحينئذ ظهر هذا الطاغية ، ورآه المسلمون يجول على فرسه ، وكان الموت ينتظر أن يشرب من دمه بأيدي غلامين أنصاريين‏ .‏

من روائع الإيمان في هذه المعركة


لقد أسلفنا نموذجين رائعين من عمير بن الحمام وعوف بن الحارث ـ ابن عفراء ـ وقد تجلت في هذه المعركة مناظر رائعة تبرز فيها قوة العقيدة وثبات المبدأ، ففي هذه المعركة التقى الآباء بالأبناء، والإخوة بالإخوة، خالفت بينهما المبادئ ففصلت بينهما السيوف، والتقى المقهور بقاهره فشفي منه غيظه‏.‏

1 ـ روى ابن إسحاق عن ابن عباس أن النبي(صلى الله عليه وسلم) قال لأصحابه‏:‏ ‏" ‏إني قد عرفت أن رجالاً من بني هاشم وغيرهم قد أخرجوا كرهًا، لا حاجة لهم بقتالنا، فمن لقى أحدًا من بني هاشم فلا يقتله، ومن لقي أبا البَخْتَرِيّ بن هشام فلا يقتله، ومن لقى العباس بن عبد المطلب فلا يقتله، فإنه إنما أخرج مستكرهًا "‏، فقال أبو حذيفة بن عتبة‏:‏ أنقتل آباءنا وأبناءنا وإخواننا وعشيرتنا ونترك العباس، والله لئن لقيته لألحمنه ـ أو لألجمنه ـ بالسيف ، فبلغت رسول الله(صلى الله عليه وسلم) ، فقال لعمر بن الخطاب‏ :‏" يا أبا حفص ، أيضرب وجه عم رسول الله(صلى الله عليه وسلم) بالسيف‏ "‏، فقال عمر‏:‏ يا رسول الله ، دعني فلأضرب عنقه بالسيف ، فوالله لقد نافق ‏.‏

فكان أبو حذيفة يقول‏ :‏ ما أنا بآمن من تلك الكلمة التي قلت يومئذ ، ولا أزال منها خائفًا إلا أن تكفرها عنى الشهادة‏ .‏ فقتل يوم اليمامة شهيدًا ‏.‏

2 ـ وكان النهي عن قتل أبي البختري ، لأنه كان أكف القوم عن رسول الله(صلى الله عليه وسلم) وهو بمكة ، وكان لا يؤذيه ، ولا يبلغ عنه شيء يكرهه ، وكان ممن قام في نقض صحيفة مقاطعة بني هاشم وبني المطلب ‏.‏

ولكن أبا البختري قتل على رغم هذا كله، وذلك أن المُجَذَّر بن زياد الْبَلَوِىّ لقيه في المعركة ومعه زميل له ، يقاتلان سويًا ، فقال المجذر‏:‏ يا أبا البخترى إن رسول الله(صلى الله عليه وسلم) قد نهانا عن قتلك ، فقال ‏:‏ وزميلي ‏؟‏ فقال المجذر ‏:‏ لا والله ما نحن بتاركي زميلك ، فقال‏ : ‏والله إذن لأموتن أنا وهو جميعًا ، ثم اقتتلا ، فاضطر المجذر إلى قتله ‏.‏

3 ـ كان عبد الرحمن بن عوف وأمية بن خلف صديقين في الجاهلية بمكة ، فلما كان يوم بدر مر به عبد الرحمن ، وهو واقف مع ابنه على بن أمية ، آخذًا بيده ، ومع عبد الرحمن أدراع قد استلبها ، وهو يحملها ، فلما رآه قال ‏:‏ هل لك في ‏؟‏ فأنا خير من هذه الأدراع التي معك ، ما رأيت كاليوم قط ، أما لكم حاجة في اللبن ‏؟‏ ـ يريد أن من أسرني افتديت منه بإبل كثيرة اللبن ـ فطرح عبد الرحمن الأدراع ، وأخذهما يمشى بهما ، قال عبد الرحمن ‏:‏ قال لي أمية بن خلف ، وأنا بينه وبين ابنه‏ :‏ من الرجل منكم المعلم بريشة النعامة في صدره ‏؟‏ قلت ‏:‏ ذاك حمزة بن عبد المطلب، قال‏:‏ ذاك الذي فعل بنا الأفاعيل ‏.‏

قال عبد الرحمن‏ :‏ فوالله إني لأقودهما إذ رآه بلال معي ـ وكان أمية هو الذي يعذب بلالاً بمكة ـ فقال بلال ‏:‏ رأس الكفر أمية بن خلف ، لا نجوت إن نجا‏.‏ قلت‏:‏ أي بلال ، أسيري‏.‏ قال‏:‏ لا نجوت إن نجا‏.‏ قلت‏:‏ أتسمع يا بن السوداء‏.‏ قال‏:‏ لا نجوت إن نجا‏.‏ ثم صرخ بأعلى صوته‏:‏ يا أنصار الله، رأس الكفر أمية بن خلف، لا نجوت إن نجا‏.‏ قال‏:‏ فأحاطوا بنا حتى جعلونا في مثل الْمَسَكَة، وأنا أذب عنه، قال‏:‏ فأخلف رجل السيف، فضرب رجل ابنه فوقع، وصاح أمية صيحة ما سمعت مثلها قط، فقلت‏:‏ انج بنفسك، ولا نجاء بك، فوالله ما أغني عنك شيئًا‏.‏ قال‏:‏ فَهَبَرُوهُمَا بأسيافهم حتى فرغوا منهما، فكان عبد الرحمن يقول‏:‏ يرحم الله بلالاً، ذهبت أدراعي، وفجعني بأسيري‏ .‏

وفي زاد المعاد أن عبد الرحمن بن عوف قال لأمية : ابرك ، فبرك ، فألقى نفسه عليه ، فضربوه بالسيوف من تحته حتى قتلوه ، وأصاب بعض السيف رجل عبد الرحمن بن عوف .

وروى البخاري عن عبد الرحمن بن عوف قال‏:‏ كاتبت أمية بن خلف كتابًا بأن يحفظني في صاغيتي ـ أي خاصتي ومالي ـ بمكة، وأحفظه في صاغيته بالمدينة ،‏ فلما كان يوم بدر خرجت إلى جبل لأحرزه حين نام الناس، فأبصره بلال، فخرج حتى وقف على مجلس الأنصار فقال‏:‏ أمية بن خلف، لا نجوت إن نجا أمية، فخرج معه فريق من الأنصار في آثارنا، فلما خشيت أن يلحقونا خلفت لهم ابنه ليشغلهم، فقتلوه، ثم أبوا حتى يتبعونا، وكان رجلاً ثقيلاً، فلما أدركونا قلت له‏:‏ ابرك، فبرك، فألقيت عليه نفسي لأمنعه، فتخللوه بالسيوف من تحتي حتى قتلوه، وأصاب أحدهم رجلي بسيفه‏.‏ وكان عبد الرحمن يرينا ذلك الأثر في ظهر قدمه‏.‏

4 ـ وقتل عمر بن الخطاب رضي الله عنه يومئذ خاله العاص بن هشام بن المغيرة، ولم يلتفت إلى قرابته منه، ولكن حين رجع إلى المدينة قال للعباس عم رسول الله(صلى الله عليه وسلم) ، وهو في الأسر‏:‏ يا عباس أسلم، فوالله أن تسلم أحب إلى من أن يسلم الخطاب، وما ذاك إلا لما رأيت رسول الله(صلى الله عليه وسلم) يعجبه إسلامك ‏.‏

5 ـ ونادى أبو بكر الصديق رضي الله عنه ابنه عبد الرحمن ـ وهو يومئذ مع المشركين ـ فقال‏:‏ أين مالي يا خبيث‏؟‏ فقال عبد الرحمن‏:‏

لَمْ يَبْقَ غَيْرُ شَكَّةٍ ويَعْبُوب *** وصَارِمٍ يَقْتُلُ ضُلاَّل الشِّيَبْ

6 ـ ولما وضع القوم أيديهم يأسرون، ورسول الله(صلى الله عليه وسلم) في العريش ، وسعد بن معاذ قائم على بابه يحرسه متوشحًا سيفه ، رأى رسول الله(صلى الله عليه وسلم) في وجه سعد بن معاذ الكراهية لما يصنع الناس، فقال له‏:‏ والله لكأنك يا سعد تكره ما يصنع القوم‏ ؟‏ قال‏:‏ أجل والله يا رسول الله ، كانت أول وقعة أوقعها الله بأهل الشرك، فكان الإثخان في القتل بأهل الشرك أحب إلىّ من استبقاء الرجال ‏.‏

7 ـ وانقطع يومئذ سيف عُكَّاشَة بن مِحْصَن الأسدي ، فأتى رسول الله(صلى الله عليه وسلم) فأعطاه جِذْلاً من حطب ، فقال ‏:‏ ‏( ‏قاتل بهذا يا عكاشة ‏) ‏، فلما أخذه من رسول الله(صلى الله عليه وسلم) هزه ، فعاد سيفًا في يده طويل القامة ، شديد المتن، أبيض الحديدة ، فقاتل به حتى فتح الله تعالى للمسلمين ، وكان ذلك السيف يسمى العَوْن ، ثم لم يزل عنده يشهد به المشاهد ، حتى قتل في حروب الردة وهو عنده ‏.‏

8 ـ وبعد انتهاء المعركة مر مصعب بن عمير العبدري بأخيه أبي عزيز بن عمير الذي خاض المعركة ضد المسلمين ، مر به وأحد الأنصار يشد يده ، فقال مصعب للأنصاري‏ :‏ شد يديك به ، فإن أمه ذات متاع ، لعلها تفديه منك ، فقال أبو عزيز لأخيه مصعب ‏:‏ أهذه وصاتك بي ‏؟‏ فقال مصعب ‏:‏ إنه ـ أي الأنصاري ـ أخي دونك ‏.‏

9 ـ ولما أمر بإلقاء جيف المشركين في القَلِيب، وأخذ عتبة بن ربيعة فسحب إلى القليب، نظر رسول الله(صلى الله عليه وسلم) في وجه ابنه أبي حذيفة ، فإذا هو كئيب قد تغير، فقال‏:‏ ‏( ‏يا أبا حذيفة، لعلك قد دخلك من شأن أبيك شيء‏ ؟‏‏ )‏ فقال‏:‏ لا والله ، يا رسول الله ، ما شككت في أبي ولا مصرعه ، ولكنني كنت أعرف من أبي رأيًا وحلمًا وفضلاً ، فكنت أرجو أن يهديه ذلك إلى الإسلام ، فلما رأيت ما أصابه ، وذكرت ما مات عليه من الكفر بعد الذي كنت أرجو له أحزنني ذلك ‏.‏ فدعا له رسول الله(صلى الله عليه وسلم) بخير، وقال له خيرًا‏ .

قتلى الفريقين


انتهت المعركة بهزيمة ساحقة بالنسبة للمشركين ، وبفتح مبين بالنسبة للمسلمين ، وقد استشهد من المسلمين في هذه المعركة أربعة عشر رجلاً ، ستة من المهاجرين وثمانية من الأنصار ‏.‏

أما المشركون فقد لحقتهم خسائر فادحة ، قتل منهم سبعون ، وأسر سبعون ،‏ وعامتهم القادة والزعماء والصناديد‏ .‏

ولما انقضت الحرب أقبل رسول الله(صلى الله عليه وسلم) حتى وقف على القتلى فقال ‏:‏ ‏" ‏بئس العشيرة كنتم لنبيك، كذبتموني وصدقني الناس ، وخذلتموني ونصرني الناس ، وأخرجتموني وآواني الناس "‏، ثم أمر بهم فسحبوا إلى قليب من قُلُب بدر ‏.‏

وعن أبي طلحة‏:‏ أن نبي الله(صلى الله عليه وسلم) أمر يوم بدر بأربعة وعشرين رجلاً من صناديد قريش ، فقذفوا في طَويّ من أطواء بدر خَبِيث مُخْبث‏ .‏ وكان إذا ظهر على قوم أقام بالعَرْصَة ثلاث ليال ، فلما كان ببدر اليوم الثالث أمر براحلته فشد عليها رحلها ، ثم مشى ، واتبعه أصحابه ‏.‏

حتى قام على شفة الرَّكِىّ، فجعل يناديهم بأسمائهم وأسماء آبائهم ، ‏" يا فلان بن فلان، يا فلان بن فلان، أيسركم أنكم أطعتم الله ورسوله‏؟‏ فإنا قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقًا، فهل وجدتم ما وعد ربكم حقًا‏ ؟ "‏ فقال عمر‏:‏ يا رسول الله ، ما تكلم من أجساد لا أرواح لها ‏؟‏

قال النبي(صلى الله عليه وسلم) ‏ :‏ ‏" ‏والذي نفس محمد بيده، ما أنتم بأسمع لما أقول منهم‏ "‏ وفي رواية ‏:‏ "‏ما أنتم بأسمع منهم ، ولكن لا يجيبون‏ "‏‏.‏


مكة تتلقى أنباء الهزيمة



فر المشركون من ساحة بدر في صورة غير منظمة ، تبعثروا في الوديان والشعاب ، واتجهوا صوب مكة مذعورين ، لا يدرون كيف يدخلونها خجلاً ‏.‏

قال ابن إسحاق‏ :‏ وكان أول من قدم بمصاب قريش الحَيْسُمَان بن عبد الله الخزاعى ، فقالوا‏ :‏ ما وراءك ‏؟‏ قال ‏:‏ قتل عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة وأبو الحكم بن هشام وأمية بن خلف ، في رجال من الزعماء سماهم ‏.‏ فلما أخذ يعد أشراف قريش قال صفوان بن أمية وهو قاعد في الحِجْر ‏:‏ والله إن يعقل هذا، فاسألوه عنى‏.‏ قالوا‏:‏ ما فعل صفوان بن أمية‏ ؟‏ قال‏:‏ ها هو ذا جالس في الحجر، وقد والله رأيت أباه وأخاه حين قتلا ‏.‏

وقال أبو رافع ـ مولى رسول الله(صلى الله عليه وسلم) ‏:‏ كنت غلامًا للعباس وكان الإسلام قد دخلنا أهلَ البيت ، فأسلم العباس ، وأسلمت أم الفضل ، وأسلمت ، وكان العباس يكتم إسلامه ، وكان أبو لهب قد تخلف عن بدر ، فلما جاءه الخبر كبته الله وأخزاه ، ووجدنا في أنفسنا قوة وعزًا ، وكنت رجلاً ضعيفًا أعمل الأقداح ، أنحتها في حجرة زمزم ، فوالله إني لجالس فيها أنحت أقداحى وعندى أم الفضل جالسة ، وقد سرنا ما جاءنا من الخبر ، إذ أقبل أبو لهب يجر رجليه بشر حتى جلس على طُنُب الحجرة ، فكان ظهره إلى ظهرى ، فبينما هو جالس إذ قال الناس ‏:‏ هذا أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب قد قدم، فقال له أبو لهب ‏:‏ هلم إلىَّ ، فعندك لعمرى الخبر، قال ‏:‏ فجلس إليه ، والناس قيام عليه‏.‏ فقال‏:‏ يا بن أخي، أخبرني كيف كان أمر الناس ‏؟‏ قال ‏:‏ ما هو إلا أن لقينا القوم فمنحناهم أكتافنا ، يقتلوننا كيف شاءوا ، ويأسروننا كيف شاءوا وايم الله مع ذلك ما لمت الناس ، لَقِينَا رجال بيض على خيل بُلْق بين السماء والأرض ، والله ما تُلِيق شيئًا ، ولا يقوم لها شيء ‏.‏

قال أبو رافع‏ :‏ فرفعت طنب الحجرة بيدى ، ثم قلت ‏:‏ تلك والله الملائكة ‏.‏ قال ‏:‏ فرفع أبو لهب يده ، فضرب بها وجهي ضربة شديدة ، فثاورته ، فاحتملنى فضرب بى الأرض ، ثم برك علىّ يضربني ، وكنت رجلاً ضعيفًا فقامت أم الفضل إلى عمود من عُمُد الحجرة فأخذته ، فضربته به ضربة فَلَعَتْ في رأسه شجة منكرة ، وقالت ‏:‏ استضعفته أن غاب عنه سيده ، فقام موليًا ذليلاً ، فوالله ما عاش إلا سبع ليال حتى رماه الله بالعدسة ‏( وهي قرحة تتشاءم بها العرب‏ )‏ فقتلته ، فتركه بنوه ، وبقى ثلاثة أيام لا تقرب جنازته ، ولا يحاول دفنه ، فلما خافوا السبة في تركه حفروا له ، ثم دفعوه بعود في حفرته ، وقذفوه بالحجارة من بعيد حتى واروه ‏.‏

هكذا تلقت مكة أنباء الهزيمة الساحقة في ميدان بدر ، وقد أثر ذلك فيهم أثرًا سيئًا جدًا ، حتى منعوا النياحة على القتلى ؛ لئلا يشمت بهم المسلمون ‏.‏

ومن الطرائف أن الأسود بن المطلب أصيب ثلاثة من أبنائه يوم بدر، وكان يحب أن يبكي عليهم ، وكان ضرير البصر ، فسمع ليلاً صوت نائحة، فبعث غلامه ، وقال ‏:‏ انظر هل أحل النَّحْبُ ‏؟‏ هل بكت قريش على قتلاها ‏؟‏ لعلي أبكي على أبي حكيمة ـ ابنه ـ فإن جوفي قد احترق ، فرجع الغلام وقال ‏:‏ إنما هي امرأة تبكى على بعير لها أضلته ، فلم يتمالك الأسود نفسه وقال‏ :‏

أتبكي أن يضل لها بعير
فلا تبكي على بكر ولكن
على بدر سراة بني هصيص
وبكى إن بكيت على عقيل
وبكيهم ولا تسمى جميعا
ألا قد ساد بعدهم رجال

ويمنعها من النوم السهود
على بدر تقاصرت الجدود
ومخزوم ورهط أبي الوليد
وبكى حارثا أسد الأسود
وما لأبي حكيمة من نديد
ولولا يوم بدر لم يسودوا




المدينة تتلقى أنباء النصر



ولما تم الفتح للمسلمين أرسل رسول الله(صلى الله عليه وسلم) بشيرين إلى أهل المدينة ، ليعجل لهم البشرى ، أرسل عبد الله بن رواحة بشيرًا إلى أهل العالية ، وأرسل زيد بن حارثة بشيرًا إلى أهل السافلة‏.‏

وكان اليهود والمنافقون قد أرجفوا في المدينة بإشاعة الدعايات الكاذبة ، حتى إنهم أشاعوا خبر مقتل النبي(صلى الله عليه وسلم)، ولما رأي أحد المنافقين زيد بن حارثة راكبًا القَصْوَاء ـ ناقة رسول الله(صلى الله عليه وسلم) ـ قال‏:‏ لقد قتل محمد، وهذه ناقته نعرفها، وهذا زيد لا يدري ما يقول من الرعب، وجاء فَلاّ .

فلما بلغ الرسولان أحاط بهما المسلمون، وأخذوا يسمعون منهما الخبر، حتى تأكد لديهم فتح المسلميـن، فَعَمَّت البهجـة والسـرور، واهتزت أرجاء المدينة تهليلاً وتكبيرًا، وتقدم رؤوس المسلمين ـ الذين كانوا بالمدينة ـ إلى طريق بدر، ليهنئوا رسول الله(صلى الله عليه وسلم) بهذا الفتح المبين‏.‏

قال أسامة بن زيد:‏ أتانا الخبر حين سوينا التراب على رقية بنت رسول الله(صلى الله عليه وسلم) التي كانت عند عثمان بن عفان، كان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) خلفنى عليها مع عثمان

الجيش النبوي يتحرك نحو المدينة


أقام رسول الله(صلى الله عليه وسلم) ببدر بعد انتهاء المعركة ثلاثة أيام ، وقبل رحيله من مكان المعركة وقع خلاف بين الجيش حول الغنائم ، ولما اشتد هذا الخلاف أمر رسول الله(صلى الله عليه وسلم) بأن يرد الجميع ما بأيديهم ، ففعلوا، ثم نزل الوحى بحل هذه المشكلة ‏.‏

عن عبادة بن الصامت قال ‏:‏ خرجنا مع النبي(صلى الله عليه وسلم)، فشهدت معه بدرًا ، فالتقى الناس فهزم الله العدو ، فانطلقت طائفة في آثارهم يطاردون ويقتلون ، وأكبت طائفة على المغنم يحرزونه ويجمعونه ، وأحدقت طائفة برسول الله(صلى الله عليه وسلم) ، لا يصيب العدو منه غِرَّة ، حتى إذا كان الليل ، وفاء الناس بعضهم إلى بعض ، قال الذين جمعوا الغنائم ‏:‏ نحن حويناها ، وليس لأحد فيها نصيب ، وقال الذين خرجوا في طلب العدو‏ :‏ لستم أحق بها منا ، نحـن نحـينا منـها العـدو وهزمناه ، وقال الذين أحدقوا برسول الله(صلى الله عليه وسلم) ‏:‏ خفنا أن يصيب العدو منه غرة ، فاشتغلنا به، فأنزل الله‏:‏ ‏" ‏يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنفَالِ قُلِ الأَنفَالُ لِلّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُواْ اللّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِين "‏ ‏[‏ الأنفال‏ :‏1‏ ] ‏‏.‏ فقسمها رسول الله(صلى الله عليه وسلم) بين المسلمين‏.‏

وبعد أن أقام رسول الله(صلى الله عليه وسلم) ببدر ثلاثة أيام تحرك بجيشه نحو المدينة ومعه الأسارى من المشركين ، واحتمل معه النفل الذي أصيب من المشركين ، وجعل عليه عبد الله بن كعب ، فلما خرج من مَضِيق الصفراء نزل على كَثِيب بين المضيق وبين النَّازِيَة ، وقسم هنالك الغنائم على المسلمين على السواء بعد أن أخذ منها الخمس ‏.‏

وعندما وصل إلى الصفراء أمر بقتل النضر بن الحارث ـ وكان هو حامل لواء المشركين يوم بدر ، وكان من أكابر مجرمي قريش ، ومن أشد الناس كيدًا للإسلام وإيذاء لرسول الله(صلى الله عليه وسلم) ـ فضرب عنقه علي بن أبي طالب ‏.‏

ولمـا وصل إلى عِرْق الظُّبْيَةِ أمر بقتل عُقْبَة بن أبي مُعَيْط ـ وقد أسلفنا بعض ما كان عليه من إيذاء رسول الله(صلى الله عليه وسلم) ، فهو الذي كان ألقى سَلا جَزُور على ظهر رسول الله(صلى الله عليه وسلم) وهو في الصلاة ، وهو الذي خنقه بردائه وكاد يقتله ، لولا اعتراض أبي بكر رضي الله عنه ـ فلما أمر بقتله قال ‏:‏ من للصِّبْيَةِ يا محمد‏ ؟‏ قال ‏:‏ ‏(‏ النار ‏) ‏‏.‏ فقتله عاصم ابن ثابت الأنصارى ، ويقال‏ :‏ علي بن أبي طالب‏ .‏

وكان قتل هذين الطاغيتين واجبًا نظرًا إلى سوابقهما ، فلم يكونا من الأسارى فحسب ، بل كانا من مجرمى الحرب بالاصطلاح الحديث ‏.

وفود التهنئة



ولما وصل إلى الرَّوْحَاء لقيه رؤوس المسلمين ـ الذين كانوا قد خرجوا للتهنئة والاستقبال حين سمعوا بشارة الفتح من الرسولين ـ يهنئونه بالفتح‏.‏ وحينئذ قال لهم سَلَمَة بن سلامة‏:‏ ما الذي تهنئوننا به ‏؟‏ فوالله إن لَقِينا إلا عجائز صُلْعًا كالْبُدْن المعُقَّلَةِ، فنحرناها ، فتبسم رسول الله(صلى الله عليه وسلم) ، ثم قال‏ :‏ ‏( ‏يا بن أخي ، أولئك الملأ‏ )‏‏.‏

وقال أسيد بن حضير ‏:‏ يا رسول الله ، الحمد لله الذي أظفرك ، وأقر عينك ، والله يا رسول الله ما كان تخلفي عن بدر وأنا أظن أنك تلقى عدوًا ، ولكن ظننت أنها عير ، ولو ظننت أنه عدو ما تخلفت، فقال رسول الله(صلى الله عليه وسلم) ‏:‏ ‏(‏صدقت‏)‏‏.‏

ثم دخل رسول الله(صلى الله عليه وسلم) المدينة مظفرًا منصورًا قد خافه كل عدو له بالمدينة وحولها ، فأسلم بشر كثير من أهل المدينة ، وحينئذ دخل عبد الله بن أبي وأصحابه في الإسلام ظاهرًا‏ .‏

وقدم الأسارى بعد بلوغه المدينة بيوم ، فقسمهم على أصحابه ، وأوصى بهم خيرًا‏ .‏ فكان الصحابة يأكلون التمر ، ويقدمون لأسرائهم الخبز ، عملاً بوصية رسول الله(صلى الله عليه وسلم) .

قضية الأسارى


ولما بلغ رسول الله(صلى الله عليه وسلم) المدينة استشار أصحابه في الأسارى، فقال أبو بكر‏:‏ يا رسول الله، هؤلاء بنو العم والعَشِيرة والإخوان، وإني أرى أن تأخذ منهم الفدية، فيكون ما أخذناه قوة لنا على الكفار، وعسى أن يهديهم الله، فيكونوا لنا عضدًا‏.‏

فقال رسول الله(صلى الله عليه وسلم) ‏:‏ ‏(‏ ما ترى يا ابن الخطاب‏ )‏ ؟ قال‏:‏ قلت‏:‏ والله ما أرى ما رأى أبو بكر، ولكن أرى أن تمكننى من فلان ـ قريب لعمر ـ فأضرب عنقه، وتمكن عليًا من عَقِيل بن أبي طالب فيضرب عنقه، وتمكن حمزة من فلان أخيه فيضرب عنقه، حتى يعلم الله أنه ليست في قلوبنا هوادة للمشركين‏ ،‏ وهؤلاء صناديدهم وأئمتهم وقادتهم‏.‏

فهوى رسول الله(صلى الله عليه وسلم) ما قال أبو بكر، ولم يهو ما قلت، وأخذ منهم الفداء‏:‏ فلما كان من الغد قال عمر‏:‏ فغدوت إلى النبي(صلى الله عليه وسلم) وأبي بكر وهما يبكيان، فقلت‏:‏ يا رسول الله، أخبرني ماذا يبكيك أنت وصاحبك‏؟‏ فإن وجدت بكاء بكيت، وإن لم أجد بكاء تباكيت لبكائكما، فقال رسول الله(صلى الله عليه وسلم) ‏:‏ ‏( ‏أبكى للذى عرض على أصحابك من أخذهم الفداء، فقد عرض علىّ عذابهم أدنى من هذه الشجرة‏ )‏ ـ شجرة قريبة‏.‏

وأنزل الله تعالى‏:‏ "مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ لَّوْلاَ كِتَابٌ مِّنَ اللّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ‏ "‏ ‏[‏الأنفال‏:‏67، 68‏]‏‏.‏

والكتاب الذي سبق من الله قيل‏:‏ هو قوله تعالى‏:‏ ‏" ‏فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاء‏ "‏ ‏[‏محمد‏:‏ 4‏]‏‏.‏ ففيه الإذن بأخذ الفدية من الأسارى؛ ولذلك لم يعذبوا، وإنما نزل العتاب لأنهم أسروا الكفار قبل أن يثخنوا في الأرض، وقيل‏:‏ بل الآية المذكورة نزلت فيما بعد، وإنما الكتاب الذي سبق من الله هو ما كان في علم الله من إحلال الغنائم لهذه الأمة، أو من المغفرة والرحمة لأهل بدر‏.‏

وحيث إن الأمر كان قد استقر على رأي الصديق فقد أخذ منهم الفداء، وكان الفداء من أربعة آلاف درهم إلى ثلاثة آلاف درهم إلى ألف درهم، وكان أهل مكة يكتبون، وأهل المدينة لا يكتبون، فمن لم يكن عنده فداء دفع إليه عشرة غلمان من غلمان المدينة يعلمهم، فإذا حذقوا فهو فداء‏.‏

ومنّ رسول الله(صلى الله عليه وسلم) على عدة من الأسارى فأطلقهم بغير فداء، منهم‏:‏ المطلب ابن حَنْطَب، وصَيْفي بن أبي رفاعة، وأبو عزة الجُمَحِى، وهو الذي قتله أسيرا في أحد، وسيأتي‏.‏

ومنّ على خَتَنِه أبي العاص بشرط أن يخلى سبيل زينب، وكانت قد بعثت في فدائه بمال بعثت فيه بقلادة لها كانت عند خديجة، أدخلتها بها على أبي العاص، فلما رآها رسول الله(صلى الله عليه وسلم) رق لها رقة شديدة، واستأذن أصحابه في إطلاق أبي العاص ففعلوه، واشترط رسول الله(صلى الله عليه وسلم) على أبي العاص أن يخلى سبيل زينب، فخلاها فهاجرت، وبعث رسول الله(صلى الله عليه وسلم) زيد بن حارثة ورجلاً من الأنصار، فقال‏:‏ ‏( ‏كونا ببطن يَأجَج حتى تمر بكما زينب فتصحباها ‏)‏، فخرجا حتى رجعا بها‏.‏ وقصة هجرتها طويلة ومؤلمة جدًا‏.‏

وكان في الأسرى سهيل بن عمرو، وكان خطيبًا مِصْقَعًا، فقال عمر‏:‏ يا رسول الله ، انزع ثنيتي سهيل بن عمرو يَدْلَعْ لسَانُه، فلا يقوم خطيبًا عليك في موطن أبدًا، بيد أن رسول الله(صلى الله عليه وسلم) رفض هذا الطلب ، احترازًا عن المُثْلَةِ، وعن بطش الله يوم القيامة‏.‏

وخرج سعد بن النعمان معتمرًا فحبسه أبو سفيان، وكان ابنه عمرو بن أبي سفيان في الأسرى، فبعثوا به إلى أبي سفيان فخلى سبيل سعد‏.‏

القرآن يتحدث حول المعركة


وحول موضوع هذه المعركة نزلت سورة الأنفال، وهذه السورة تعليق إلهي ـ إن صح هذا التعبير ـ على هذه المعركة ، يختلف كثيرًا عن التعاليق التي ينطق بها الملوك والقواد بعد الفتح‏ .‏

إن الله تعالى لفت أنظار المسلمين ـ أولًا ـ إلى بعض التقصيرات الأخلاقية التي كانت قد بقيت فيهم، وصدر بعضها منهم ، ليسعوا في تحلية نفوسهم بأرفع مراتب الكمال، وفي تزكيتها عن هذه التقصيرات‏.‏

ثم ثَنَّى بما كان في هذا الفتح من تأييد الله وعونه ونصره بالغيب للمسلمين ‏.‏ ذكر لهم ذلك لئلا يغتروا بشجاعتهم وبسالتهم ، فتتسور نفوسهم الغطرسة والكبرياء ، بل ليتوكلوا على الله، ويطيعوه ويطيعوا رسوله عليه الصلاة والسلام ‏.‏

ثم بين لهم الأهداف والأغراض النبيلة التي خاض الرسول(صلى الله عليه وسلم) لأجلها هذه المعركة الدامية الرهيبة، ودلهم على الصفات والأخلاق التي تتسبب في الفتوح في المعارك ‏.‏

ثم خاطب المشركين والمنافقين واليهود وأسارى المعركة، ووعظهم موعظة بليغة، تهديهم إلى الاستسلام للحق والتقيد به .‏

ثم خاطب المسلمين حول موضوع الغنائم ، وقنن لهم مبادئ وأسس هذه المسألة ‏.‏

ثم بين وشرع لهم من قوانين الحرب والسلم ما كانت الحاجة تمس إليها بعد دخول الدعوة الإسلامية في هذه المرحلة ، حتى تمتاز حروب المسلمين عن حروب أهل الجاهلية ، ويتفوق المسلمون في الأخلاق والقيم والمثل ، ويتأكد للدنيا أن الإسلام ليس مجرد وجهة نظر، بل هو دين يثقف أهله عمليًا على الأسس والمبادئ التي يدعو إليها ‏.‏

ثم قرر بنودًا من قوانين الدولة الإسلامية التي تقيم الفرق بين المسلمين الذين يسكنون داخل حدودها ، والذين يسكنون خارجها‏.‏

وفي السنة الثانية من الهجرة فرض صيام رمضان ، وفرضت زكاة الفطر ، وبينت أنصبة الزكاة الأخرى ، وكانت فريضة زكاة الفطر وتفصيل أنصبة الزكاة الأخرى تخفيفًا لكثير من الأوزار التي كان يعانيها عدد كبير من المهاجرين اللاجئين الذين كانوا فقراء لا يستطيعون ضربًا في الأرض ‏.‏

ومن أحسن المواقع وأروع الصدقات أن أول عيد تعيد به المسلمون في حياتهم هو العيد الذي وقع في شوال سنة 2 هـ، إثر الفتح المبين الذي حصل لهم في غزوة بدر‏.‏ فما أروع هذا العيد السعيد الذي جاء به الله بعد أن تَوَّجَ هامتهم بتاج الفتح والعز، وما أروق منظر تلك الصلاة التي صلوها بعد أن خرجوا من بيوتهم يرفعون أصواتهم بالتكبير والتوحيد والتحميد، وقد فاضت قلوبهم رغبة إلى الله، وحنينًا إلى رحمته ورضوانه بعد ما أولاهم به من النعم،وأيدهم به من النصر، وقد ذكرهم بذلك قائلًا‏:‏ ‏" وَاذْكُرُواْ إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ‏ "‏ ‏[‏الأنفال‏:‏26‏]‏‏.‏
العتمه غير متواجد حالياً  
قديم 22-02-2008, 10:31 AM   #26
العتمه
 
الصورة الرمزية العتمه
 







 
العتمه is on a distinguished road
افتراضي رد : تعرف على حبيبك

غزوة احد

استعداد قريش لمعركة ناقمة

كانت مكة تحترق غيظاً على المسلمين مما أصابها في معركة بدر من مأساة الهزيمة وقتل الصناديد والأشراف ، وكانت تجيش فيها نزعات الانتقام وأخذ الثأر ، حتى إن قريشاً كانوا قد منعوا البكاء على قتلاهم في بدر ، ومنعوا من الاستعجال في فداء الأسارى حتى لا يتفطن المسلمون مدي مأساتهم وحزنهم ‏.‏
وعلى أثر غزوة بدر اتفقت قريش على أن تقوم بحرب شاملة ضد المسلمين تشفي غيظها وتروي غلة حقدها ، وأخذت في الاستعداد للخوض في مثل هذه المعركة ‏.‏
وكان عكرمة بن أبي جهل ، وصفوان بن أمية ، وأبو سفيان بن حرب ، وعبد الله بن أبي ربيعة أكثر زعماء قريش نشاطاً وتحمساً لخوض المعركة ‏.‏
وأول ما فعلوه بهذا الصدد أنهم احتجزوا العير التي كان قد نجا بها أبو سفيان ، والتي كانت سبباً لمعركة بدر ، وقالوا للذين كانت فيها أموالهم ‏:‏ يا معشر قريش ، إن محمداً قد وَتَرَكُم وقتل خياركم، فأعينونا بهذا المال على حربه ، لعلنا أن ندرك منه ثأراً ، فأجابوا لذلك ، فباعوها ، وكانت ألف بعير ، والمال خمسين ألف دينار ، وفي ذلك أنزل الله تعالى ‏:‏ ‏"‏إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ اللّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ‏" "‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 36‏]‏
ثم فتحوا باب التطوع لكل من أحب المساهمة في غزو المسلمين من الأحابيش وكنانة وأهل تهامة ، وأخذوا لذلك أنواعا من طرق التحريض ، حتى إن صفوان بن أمية أغري أبا عزة الشاعر ـ الذي كان قد أسر في بدر ، فَمَنَّ عليه رسول الله(صلى الله عليه وسلم) وأطلق سراحه بغير فدية ، وأخذ منه العهد بألا يقوم ضده ـ أغراه على أن يقوم بتحريض القبائل ضد المسلمين ، وعاهده أنه إن رجع عن الغزوة حياً يغنيه، وإلا يكفل بناته ، فقام أبو عزة بتحريض القبائل بأشعاره التي كانت تذكي حفائظهم ، كما اختاروا شاعراً آخر ـ مُسَافع بن عبد مناف الجمحي ـ لنفس المهمة ‏.‏
وكان أبو سفيان أشد تأليباً على المسلمين بعدما رجع من غزوة السَّوِيق خائباً لم ينل ما في نفسه ، بل أضاع مقدارًا كبيراً من تمويناته في هذه الغزوة‏ .‏
وزاد الطينة بلة ـ أو زاد النار إذكاء ، إن صح هذا التعبير ـ ما أصاب قريشاً أخيراً في سرية زيد بن حارثة من الخسارة الفادحة التي قصمت فقار اقتصادها ، وزودها من الحزن والهم ما لا يقادر قدره ، وحينئذ زادت سرعة قريش في استعدادها للخوض في معركة تفصل بينهم وبين المسلمين ‏.‏


قوام جيش قريش وقيادته

ولما استدارت السنة كانت مكة قد استكملت عدتها ، واجتمع إليها من المشركين ثلاثة آلاف مقاتل من قريش والحلفاء والأحابيش ، ورأي قادة قريش أن يستصحبوا معهم النساء حتى يكون ذلك أبلغ في استماتة الرجال دون أن تصاب حرماتهم وأعراضهم ، وكان عدد هذه النسوة خمس عشرة امرأة ‏.‏
وكان سلاح النقليات في هذا الجيش ثلاثة آلاف بعير ، ومن سلاح الفرسان مائتا فرس ، جنبوها طول الطريق ، وكان من سلاح الوقاية سبعمائة درع‏ .‏
وكانت القيادة العامة إلى أبي سفيان بن حرب ، وقيادة الفرسان إلى خالد بن الوليد يعاونه عكرمة بن أبي جهل ‏.‏
أما اللواء فكان إلى بني عبد الدار ‏.‏


جيش مكة يتحرك



تحرك الجيش المكي بعد هذا الإعداد التام نحو المدينة ، وكانت الثارات القديمة والغيظ الكامن يشعل البغضاء في القلوب ، ويشف عما سوف يقع من قتال مرير ‏.‏
الاستخبارات النبوية تكشف حركة العدو

وكان العباس بن عبد المطلب يرقب حركات قريش واستعداداتها العسكرية ، فلما تحرك هذا الجيش بعث العباس رسالة مستعجلة إلى النبي(صلى الله عليه وسلم) ضمنها جميع تفاصيل الجيش ‏.‏
وأسرع رسول العباس بإبلاغ الرسالة ، وجد في السير حتى إنه قطع الطريق بين مكة والمدينة ـ التي تبلغ مسافتها إلى نحو خمسمائة كيلو متراً ـ في ثلاثة أيام ، وسلم الرسالة إلى النبي(صلى الله عليه وسلم) وهو في مسجد قباء ‏.‏
قرأ الرسالة على النبي(صلى الله عليه وسلم) أبي بن كعب ، فأمره بالكتمان ، وعاد مسرعاً إلى المدينة ، وتبادل الرأي مع قادة المهاجرين والأنصار ‏.
استعداد المسلمين للطوارئ

وظلت المدينة في حالة استنفار عام لا يفارق رجالها السلاح حتى وهم في الصلاة ، استعداداً للطوارئ ‏.‏
وقامت مفرزة من الأنصار ـ فيهم سعد بن معاذ ، وأسيد بن حضير ، وسعد بن عبادة ـ بحراسة رسول الله(صلى الله عليه وسلم) ، فكانوا يبيتون على بابه وعليهم السلاح ‏.‏
وقامت على مداخل المدينة وأنقابها مفرزات تحرسها ، خوفا من أن يؤخذوا على غرة
وقامت دوريات من المسلمين ـ لاكتشاف تحركات العدو ـ تتجول حول الطرق التي يحتمل أن يسلكها المشركون للإغارة على المسلمين ‏.‏
الجيش المكي إلى أسوار المدينة

وتابع جيش مكة سيره على الطريق الغربية الرئيسية المعتادة ، ولما وصل إلى الأبْوَاء اقترحت هند بنت عتبة ـ زوج أبي سفيان ـ بنبش قبر أم رسول الله(صلى الله عليه وسلم) ، بَيدَ أن قادة الجيش رفضوا هذا الطلب ، وحذروا من العواقب الوخيمة التي تلحقهم لو فتحو هذا الباب ‏.‏
ثم واصل جيش مكة سيره حتى اقترب من المدينة ، فسلك وادي العَقيق ، ثم انحرف منه إلى ذات اليمين حتى نزل قريباً بجبل أحد ، في مكان يقال له ‏:‏ عَينَيْن ، في بطن السَّبْخَة من قناة على شفير الوادي ـ الذي يقع شمإلى المدينة بجنب أحـد ، فعسكر هناك يوم الجمعة السادس من شهر شوال سنة ثلاث من الهجرة ‏.‏


المجلس الاستشاري لأخذ خطة الدفاع

ونقلت استخبارات المدينة أخبار جيش مكة خبراً بعد خبر حتى الخبر الأخير عن معسكره ، وحينئذ عقد رسول الله(صلى الله عليه وسلم) مجلساً استشارياً عسكرياً أعلى ، تبادل فيه الرأي لاختيار الموقف ، وأخبرهم عن رؤيا رآها ، قال‏:‏ "‏إني قد رأيت والله خيراً ، رأيت بقراً يذبح ، ورأيت في ذُبَاب سيفي ثُلْماً ، ورأيت أني أدخلت يدي في درع حصينة "‏ ، وتأوّل البقر بنفر من أصحابه يقتلون ، وتأول الثلمة في سيفه برجل يصاب من أهل بيته ، وتأول الدرع بالمدينة‏ . ‏
ثم قدم رأيه إلى صحابته ألا يخرجوا من المدينة وأن يتحصنوا بها ، فإن أقام المشركون بمعسكرهم أقاموا بِشَرِّ مُقَام وبغير جدوى ، وإن دخلوا المدينة قاتلهم المسلمون على أفواه الأزقة ، والنساء من فوق البيوت ، وكان هذا هو الرأي ‏.‏
ووافقه على هذا الرأي عبد الله بن أبي بن سلول ـ رأس المنافقين ـ وكان قد حضر المجلس بصفته أحد زعماء الخزرج ‏.‏ ويبدو أن موافقته لهذا الرأي لم تكن لأجل أن هذا هو الموقف الصحيح من حيث الوجهة العسكرية ، بل ليتمكن من التباعد عن القتال دون أن يعلم بذلك أحد ، وشاء الله أن يفتضح هو وأصحابه ـ لأول مرة ـ أمام المسلمين وينكشف عنهم الغطاء الذي كان كفرهم ونفاقهم يكمن وراءه ، ويتعرف المسلمون في أحرج ساعاتهم على تلك الأفاعي التي كانت تتحرك تحت ملابسهم وأكمامهم‏.‏
فقد بادر جماعة من فضلاء الصحابة ممن فاته الخروج يوم بدر ومن غيرهم ، فأشاروا على النبي(صلى الله عليه وسلم) بالخروج ، وألحوا عليه في ذلك حتى قال قائلهم ‏:‏ يا رسول الله ، كنا نتمنى هذا اليوم وندعو الله ، فقد ساقه إلينا وقرب المسير ، اخرج إلى أعدائنا ، لا يرون أنا جَبُنَّا عنهم ‏.‏
وكان في مقدمة هؤلاء المتحمسين حمزة بن عبد المطلب عم رسول الله(صلى الله عليه وسلم) ـ الذي كان قد أبلي أحسن بلاء في معركة بدر ـ فقد قال للنبي(صلى الله عليه وسلم) ‏:‏ والذي أنزل عليك الكتاب لا أطعم طعاماً حتى أجالدهم بسيفي خارج المدينة ‏.‏
وتنازل رسول الله(صلى الله عليه وسلم) عن رأيه مراعاة لهؤلاء المتحمسين ، واستقر الرأي على الخروج من المدينة ، واللقاء في الميدان السافر ‏.‏


تكتيب الجيش الإسلامي وخروجه إلى ساح القتال

ثم صلى النبي(صلى الله عليه وسلم) بالناس يوم الجمعة ، فوعظهم وأمرهم بالجد والاجتهاد ، وأخبر أن لهم النصر بما صبروا ، وأمرهم بالتهيؤ لعدوهم ، ففرح الناس بذلك‏ .‏ ثم صلى بالناس العصر ، وقد حشدوا وحضر أهل العَوَالي ، ثم دخل بيته ، ومعه صاحباه أبو بكر وعمر ، فعمماه وألبساه ، فتدجج بسلاحه وظاهر بين درعين ‏[ ‏أي لبس درعا فوق درع ‏]‏ وتقلد السيف ، ثم خرج على الناس ‏.‏
وكان الناس ينتظرون خروجه ، وقد قال لهم سعد بن معاذ وأسيد بن حضير ‏:‏ استكرهتم رسول الله(صلى الله عليه وسلم) على الخروج فردوا الأمر إليه ، فندموا جميعاً على ما صنعوا ، فلما خرج قالوا له ‏:‏ يا رسول الله ، ما كان لنا أن نخالفك فاصنع ما شئت ، إن أحببت أن تمكث بالمدينة فافعل ‏.
فقال رسول الله(صلى الله عليه وسلم)‏ :‏ ‏" ‏ما ينبغي لنبي إذا لبس لأْمَتَه ـ وهي الدرع ـ أن يضعها حتى يحكم الله بينه وبين عدوه "‏ ‏.‏
وقسم النبي(صلى الله عليه وسلم) جيشه إلى ثلاث كتائب‏ :‏
1‏.‏ كتيبة المهاجرين ، وأعطي لواءها مصعب بن عمير العبدري‏ .‏
2‏.‏ كتيبة الأوس من الأنصار ، وأعطي لواءها أسيد بن حضير ‏.‏
3‏.‏ كتيبة الخزرج من الأنصار ، وأعطي لواءها الحُبَاب بن المنذر‏ .‏
وكان الجيش متألفاً من ألف مقاتل فيهم مائة دارع ، ولم يكن فيهم من الفرسان أحد ، واستعمل على المدينة ابن أم مكتوم على الصلاة بمن بقي في المدينة ، وآذن بالرحيل ، فتحرك الجيش نحو الشمال ، وخرج السعدان أمام النبي(صلى الله عليه وسلم) يعدوان دارعين ‏.‏
ولما جاوز ثنية الوداع رأي كتيبة حسنة التسليح منفردة عن سواد الجيش ، فسأل عنها ، فأخبر أنهم اليهود من حلفاء الخزرج يرغبون المساهمة في القتال ضد المشركين ، فسأل ‏:‏ ‏" هل أسلموا ‏؟‏‏ "‏ فقالوا ‏: ‏لا ، فأبى أن يستعين بأهل الكفر على أهل الشرك ‏.‏


استعراض الجيش

وعندما وصل إلى مقام يقال له ‏:‏ ‏[ ‏الشيخان‏ ]‏ استعرض جيشه ، فرد من استصغره ولم يره مطيقاً للقتال ، وكان منهم عبد الله بن عمر بن الخطاب وأسامة بن زيد ، وأسيد بن ظُهَير ، وزيد بن ثابت ، وزيد بن أرقم ، وعَرَابَة بن أوْس ، وعمرو بن حزم ، وأبو سعيد الخدري ، وزيد بن حارثة الأنصاري ، وسعد بن حَبَّة ، ويذكر في هؤلاء البراء بن عازب ، لكن حديثه في البخاري يدل على شهوده القتال ذلك اليوم ‏.‏
وأجاز رافع بن خَدِيج ، وسَمُرَة بن جُنْدَب على صغر سنهما ، وذلك أن رافع بن خديج كان ماهراً في رماية النبل فأجازه ، فقال سمرة‏ :‏ أنا أقوي من رافع ، أنا أصرعه ، فلما أخبر رسول الله(صلى الله عليه وسلم) بذلك أمرهما أن يتصارعا أمامه فتصارعا ، فصرع سمرة رافعاً ، فأجازه أيضاً‏ .‏
المبيت بين أحد والمدينة

وفي هذا المكان أدركهم المساء ، فصلى المغرب ، ثم صلى العشاء ، وبات هنالك ، واختار خمسين رجلاً لحراسة المعسكر يتجولون حوله ، وكان قائدهم محمد بن مسلمة الأنصاري ، بطل سرية كعب بن الأشرف ، وتولي ذَكْوَان بن عبد قيس حراسة النبي(صلى الله عليه وسلم) خاصة ‏.‏


تمرد عبد الله بن أبي وأصحابه

وقبل طلوع الفجر بقليل أدلج ، حتى إذا كان بالشَّوْط صلى الفجر ، وكان بمقربة جداً من العدو ، فقد كان يراهم ويرونه ، وهناك تمرد عبد الله بن أبي المنافق ، فانسحب بنحو ثلث العسكر ـ ثلاثمائة مقاتل ـ قائلاً ‏:‏ ما ندري علام نقتل أنفسنا ‏؟‏ ومتظاهراً بالاحتجاج بأن الرسول(صلى الله عليه وسلم) ترك رأيه وأطاع غيره ‏.‏
ولا شك أن سبب هذا الانعزال لم يكن هو ما أبداه هذا المنافق من رفض رسول الله(صلى الله عليه وسلم) رأيه ، وإلا لم يكن لسيره مع الجيش النبوي إلى هذا المكان معنى‏ .‏ بل لو كان هذا هو السبب لا نعزل عن الجيش منذ بداية سيره ، بل كان هدفه الرئيسي من هذا التمرد ـ في ذلك الظرف الدقيق ـ أن يحدث البلبلة والاضطراب في جيش المسلمين على مرأى ومسمع من عدوهم ، حتى ينحاز عامة الجيش عن النبي(صلى الله عليه وسلم) ، وتنهار معنويات من يبقي معه ، بينما يتشجع العدو ، وتعلو همته لرؤية هذا المنظر ، فيكون ذلك أسرع إلى القضاء على النبي(صلى الله عليه وسلم) وأصحابه المخلصين ، ويصحو بعد ذلك الجو لعودة الرياسة إلى هذا المنافق وأصحابه‏ .‏
وكاد المنافق ينجح في تحقيق بعض ما كان يهدف إليه ، فقد همت طائفتان ـ بنو حارثة من الأوس ، وبنو سلمة من الخزرج ـ أن تفشلا ، ولكن الله تولاهما ، فثبتتا بعدما سرى فيهما الاضطراب ، وهمتا بالرجوع والانسحاب ، وعنهما يقول الله تعالى ‏:‏ ‏" ‏إِذْ هَمَّت طَّآئِفَتَانِ مِنكُمْ أَن تَفْشَلاَ وَاللّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ‏ "‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 122‏] ‏‏.‏
وحاول عبد الله بن حَرَام ـ والد جابر بن عبد الله ـ تذكير هؤلاء المنافقين بواجبهم في هذا الظرف الدقيق ، فتبعهم وهو يوبخهم ويحضهم على الرجوع ، ويقول ‏:‏ تعالوا قاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا ، قالوا ‏:‏ لو نعلم أنكم تقاتلون لم نرجع ، فرجع عنهم عبد الله بن حرام قائلاً ‏:‏ أبعدكم الله أعداء الله ، فسيغني الله عنكم نبيه ‏.‏
وفي هؤلاء المنافقين يقول الله تعالى ‏:‏ ‏" ‏وَلْيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُواْ وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ قَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَوِ ادْفَعُواْ قَالُواْ لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَّتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ‏ "‏[‏آل عمران‏:‏ 167‏]‏‏
بقية الجيش الإسلامي إلى أحد

وبعد هذا التمرد والانسحاب قام النبي(صلى الله عليه وسلم) ببقية الجيش ـ وهم سبعمائة مقاتل ـ ليواصل سيره نحو العدو، وكان معسكر المشركين يحول بينه وبين أحد في مناطق كثيرة ، فقال ‏:‏ ‏" من رجل يخرج بنا على القوم من كَثَبٍ ـ أي من قريب ـ من طريق لا يمر بنا عليهم ‏؟‏‏ "‏‏.‏
فقال أبو خَيثَمةَ‏ :‏ أنا يا رسول الله ، ثم اختار طريقاً قصيراً إلى أحد يمر بحَرَّةِ بني حارثة وبمزارعهم ، تاركاً جيش المشركين إلى الغرب ‏.‏
ومر الجيش في هذا الطريق بحائط مِرْبَع بن قَيظِي ـ وكان منافقاً ضرير البصر ـ فلما أحس بالجيش قام يحثو التراب في وجوه المسلمين ، ويقول ‏:‏ لا أحل لك أن تدخل حائطي إن كنت رسول الله‏ .‏ فابتدره القوم ليقتلوه ، فقال(صلى الله عليه وسلم) ‏:‏ ‏"‏ لا تقتلوه ، فهذا الأعْمَى أعمى القلب أعمى البصر "‏‏.‏
ونفذ رسول الله(صلى الله عليه وسلم) حتى نزل الشعب من جبل أحد في عدوة الوادي ، فعسكر بجيشه مستقبلاً المدينة ، وجاعلا ظهره إلى هضاب جبل أحد ، وعلى هذا صار جيش العدو فاصلاً بين المسلمين وبين المدينة ‏.‏
خطة الدفاع

وهناك عبأ رسول الله(صلى الله عليه وسلم) جيشه ، وهيأهم صفوفاً للقتال ، فاختار منهم فصيلة من الرماة الماهرين ، قوامها خمسون مقاتلاً ، وأعطي قيادتها لعبد الله بن جبير بن النعمان الأنصاري الأوسي البدري ، وأمرهم بالتمركز على جبل يقع على الضفة الشمالية من وادي قناة ـ وعرف فيما بعد بجبل الرماة ـ جنوب شرق معسكر المسلمين ، على بعد حوالى مائة وخمسين متراً من مقر الجيش الإسلامي ‏.‏
والهدف من ذلك هو ما أبداه رسول الله(صلى الله عليه وسلم) في كلماته التي ألقاها إلى هؤلاء الرماة ، فقد قال لقائدهم ‏:‏ "‏انضح الخيل عنا بالنبل ، لا يأتونا من خلفنا ، إن كانت لنا أو علينا فاثبت مكانك ، لا نؤتين من قبلك "‏ وقال للرماة ‏:‏ "‏احموا ظهورنا ، فإن رأيتمونا نقتل فلا تنصرونا ، وإن رأيتمونا قد غنمنا فلا تشركونا‏ "‏، وفي رواية البخاري أنه قال ‏:‏ "‏إن رأيتمونا تخطفنا الطير فلا تبرحوا مكانكم هذا حتى أرسل إليكم ، وإن رأيتمونا هزمنا القوم ووطأناهم فلا تبرحوا حتى أرسل إليكم‏ "‏.‏
بتعين هذه الفصيلة في الجبل مع هذه الأوامر العسكرية الشديدة سد رسول الله(صلى الله عليه وسلم) الثلمة الوحيدة التي كان يمكن لفرسان المشركين أن يتسللوا من ورائها إلى صفوف المسلمين ، ويقوموا بحركات الالتفاف وعملية التطويق ‏.‏
أما بقية الجيش فجعل على الميمنة المنذر بن عمرو ، وجعل على الميسرة الزبير بن العوام ، يسانده المقداد بن الأسود ، وكان إلى الزبير مهمة الصمود في وجه فرسان خالد بن الوليد ، وجعل في مقدمة الصفوف نخبة ممتازة من شجعان المسلمين ورجالاتهم المشهورين بالنجدة والبسالة ، والذين يوزنون بالآلاف ‏.‏
ولقد كانت خطة حكيمة ودقيقة جداً ، تتجلي فيها عبقرية قيادة النبي(صلى الله عليه وسلم) العسكرية ، وأنه لا يمكن لأي قائد مهما تقدمت كفاءته أن يضع خطة أدق وأحكم من هذا ، فقد احتل أفضل موضع من ميدان المعركة ، مع أنه نزل فيه بعد العدو ، فإنه حمي ظهره ويمينه بارتفاعات الجبل ، وحمي ميسرته وظهره ـ حين يحتدم القتال ـ بسد الثلمة الوحيدة التي كانت توجد في جانب الجيش الإسلامي ، واختار لمعسكره موضعاً مرتفعاً يحتمي به ـ إذا نزلت الهزيمة بالمسلمين ـ ولا يلتجئ إلى الفرار ، حتى يتعرض للوقوع في قبضة الأعداء المطاردين وأسرهم ، ويلحق مع ذلك خسائر فادحة بأعدائه إن أرادوا احتلال معسكره وتقدموا إليه ، وألجأ أعداءه إلى قبول موضع منخفض يصعب عليهم جداً أن يحصلوا على شيء من فوائد الفتح إن كانت الغلبة لهم ، ويصعب عليهم الإفلات من المسلمين المطاردين إن كانت الغلبة للمسلمين ، كما أنه عوض النقص العددي في رجاله باختيار نخبة ممتازة من أصحابه الشجعان البارزين ‏.‏
وهكذا تمت تعبئة الجيش النبوي صباح يوم السبت السابع من شهر شوال سنة 3هـ‏
الرسول(صلى الله عليه وسلم) ينفث روح البسالة في الجيش

ونهى الرسول(صلى الله عليه وسلم) الناس عن الأخذ في القتال حتى يأمرهم ، وظاهر بين درعين ، وحرض أصحابه على القتال ، وحضهم على المصابرة والجلاد عند اللقاء ، وأخذ ينفث روح الحماسة والبسالة في أصحابه حتى جرد سيفاً باتراً ونادى أصحابه ‏:‏ "‏ من يأخذ هذا السيف بحقه‏ ؟ "‏ ، فقام إليه رجال ليأخذوه ـ منهم على بن أبي طالب ، والزبير بن العوام ، وعمر بن الخطاب ـ حتى قام إليه أبو دُجَانة سِمَاك بن خَرَشَة ، فقال‏ :‏ وما حقه يا رسول الله ‏؟‏ قال ‏:‏ ‏" ‏أن تضرب به وجوه العدو حتى ينحني "‏‏ .‏ قال‏:‏ أنا آخذه بحقه يا رسول الله ، فأعطاه إياه ‏.‏
وكان أبو دجانة رجلاً شجاعاً يختال عند الحرب ، وكانت له عصابة حمراء إذا اعتصب بها علم الناس أنه سيقاتل حتى الموت ‏.‏
فلما أخذ السيف عصب رأسه بتلك العصابة ، وجعل يتبختر بين الصفين ، وحينئذ قال رسول الله(صلى الله عليه وسلم) ‏:‏"‏إنها لمشية يبغضها الله إلا في مثل هذا الموطن‏ "‏‏.‏
تعبئة الجيش المكي

أما المشركون فعبأوا جيشهم حسب نظام الصفوف ، فكانت القيادة العامة إلى أبي سفيان صخر بن حرب الذي تمركز في قلب الجيش، وجعلوا على الميمنة خالد بن الوليد ـ وكان إذ ذاك مشركاً ـ وعلى الميسرة عكرمة بن أبي جهل ، وعلى المشاة صفوان ابن أمية ، وعلى رماة النبل عبد الله بن أبي ربيعة ‏.‏
أما اللواء فكان إلى مفرزة من بني عبد الدار ، وقد كان ذلك منصبهم منذ أن اقتسمت بنو عبد مناف المناصب التي ورثوها من قصي بن كلاب ، وكان لا يمكن لأحد أن ينازعهم في ذلك ، تقيداً بالتقاليد التي ورثوها كابراً عن كابر ، بيد أن القائد العام ـ أبا سفيان ـ ذكرهم بما أصاب قريشاً يوم بدر حين أسر حامل لوائهم النضر بن الحارث ، وقال لهم ـ ليستفز غضبهم ويثير حميتهم ‏:‏ يا بني عبد الدار ، قد وليتم لواءنا يوم بدر فأصابنا ما قد رأيتم ، وإنما يؤتي الناس من قبل راياتهم ، وإذا زالت زالوا ، فإما أن تكفونا لواءنا ، وإما أن تخلوا بيننا وبينه فنكفيكموه‏ .‏
ونجح أبو سفيان في هدفه ، فقد غضب بنو عبد الدار لقول أبي سفيان أشد الغضب ، وهموا به وتواعدوه وقالوا له ‏:‏ نحن نسلم إليك لواءنا ‏؟‏ ستعلم غداً إذا التقينا كيف نصنع‏ .‏
وقد ثبتوا عند احتدام المعركة حتى أبيدوا عن بكرة أبيهم ‏.‏
مناورات سياسية من قبل قريش

وقبيل نشوب المعركة حاولت قريش إيقاع الفرقة والنزاع داخل صفوف المسلمين ‏.‏ فقد أرسل أبو سفيان إلى الأنصار يقول لهم ‏:‏ خلوا بيننا وبين ابن عمنا فننصرف عنكم ، فلا حاجة لنا إلى قتالكم ‏.‏
ولكن أين هذه المحاولة أمام الإيمان الذي لا تقوم له الجبال ، فقد رد عليه الأنصار رداً عنيفاً ، وأسمعوه ما يكره ‏.‏
واقتربت ساعة الصفر ، وتدانت الفئتان ، فقامت قريش بمحاولة أخرى لنفس الغرض ، فقد خرج إلى الأنصار عميل خائن يسمي أبا عامر الفاسق ـ واسمه عبد عمرو ابن صَيفِي ، وكان يسمي الراهب ، فسماه رسول الله(صلى الله عليه وسلم) الفاسق ، وكان رأس الأوس في الجاهلية ، فلما جاء الإسلام شَرِق به ، وجاهر رسول الله(صلى الله عليه وسلم) بالعداوة ، فخرج من المدينة وذهب إلى قريش يؤلبهم على رسول الله(صلى الله عليه وسلم) ويحضهم على قتاله ، ووعدهم بأن قومه إذا رأوه أطاعوه ، ومالوا معه ـ فكان أول من خرج إلى المسلمين في الأحابيش وعُبْدَان أهل مكة ‏.‏
فناد قومه وتعرف عليهم ، وقال ‏:‏ يا معشر الأوس ، أنا أبو عامر‏ .‏ فقالوا ‏:‏ لا أنعم الله بك عيناً يا فاسق ‏.‏ فقال‏ :‏ لقد أصاب قومي بعدي شر ‏.‏ ( ولما بدأ القتال قاتلهم قتالاً شديداً وراضخهم بالحجارة‏ ) .‏
وهكذا فشلت قريش في محاولتها الثانية للتفريق بين صفوف أهل الإيمان ‏.‏ ويدل عملهم هذا على ما كان يسيطر عليهم من خوف المسلمين وهيبتهم ، مع كثرتهم وتفوقهم في العدد والعدة‏ .‏
جهود نسوة قريش في التحميس

وقامت نسوة قريش بنصيبهن من المشاركة في المعركة ، تقودهن هند بنت عتبة زوجة أبي سفيان ، فكن يتجولن في الصفوف ، ويضربن بالدفوف ، يستنهضن الرجال ، ويحرضن على القتال ، ويثرن حفائظ الأبطال ، ويحركن مشاعر أهل الطعان والضراب والنضال ، فتارة يخاطبن أهل اللواء فيقلن ‏:‏
وَيْها بني عبد الدار

ويها حُمَاة الأدبار

ضـرباً بكـل بتـــار

وتارة يأززن قومهن على القتال وينشدن‏ :‏
إن تُـقْبلُـوا نُعَانـِــق
أو تُـدْبِـرُوا نُفـَــارِق

ونَفــْرِشُ النمــارق
فــراق غيـر وَامـِق


أول وقود المعركة

وتقارب الجمعان وتدانت الفئتان ، وآنت مرحلة القتال ، وكان أول وقود المعركة حامل لواء المشركين طلحة بن أبي طلحة العبدري ، وكان من أشجع فرسان قريش ، يسميه المسلمون كبش الكتيبة ‏.‏
خرج وهو راكب على جمل يدعو إلى المبارزة ، فأحجم عنه الناس لفرط شجاعته ، ولكن تقدم إليه الزبير ولم يمهله ، بل وثب إليه وثبة الليث حتى صار معه على جمله ، ثم اقتحم به الأرض فألقاه عنه وذبحه بسيفه ‏.‏
ورأى النبي(صلى الله عليه وسلم) هذا الصراع الرائع فكبر ، وكبر المسلمون وأثنى على الزبير ، وقال في حقه ‏:‏ ‏" ‏إن لكل نبي حوارياً ، وحواريي الزبير‏ "‏ ‏.‏
ثقل المعركة حول اللواء وإبادة حملته

ثم اندلعت نيران المعركة ، واشتد القتال بين الفريقين في كل نقطة من نقاط الميدان ، وكان ثقل المعركة يدور حول لواء المشركين ، فقد تعاقب بنو عبد الدار لحمل اللواء بعد قتل قائدهم طلحة بن أبي طلحة ، فحمله أخوه أبو شيبة عثمان بن أبي طلحة ، وتقدم للقتال وهو يقول ‏:‏
إنَّ على أهْل اللوَاء حقــاً

أن تُخْضَبَ الصَّعْدَة أو تَنْدَقَّا

فحمل عليه حمزة بن عبد المطلب فضربه على عاتقه ضربة بترت يده مع كتفه ، حتى وصلت إلى سرته ، فبانت رئته ‏.‏
ثم رفع اللواء أبو سعد بن أبي طلحة ، فرماه سعد بن أبي وقاص بسهم أصاب حنجرته ، فأُدْلِعَ لسانُهُ ومات لحينه ‏.‏ وقيل ‏:‏ بل خرج أبو سعد يدعو إلى البراز ، فتقدم إليه على بن أبي طالب ، فاختلفا ضربتين ، فضربه علي فقتله ‏.‏
ثم رفع اللواء مُسَافع بن طلحة بن أبي طلحة ، فرماه عاصم بن ثابت بن أبي الأفْلَح بسهم فقتله ، فحمل اللواء بعده أخوه كِلاَب بن طلحة بن أبي طلحة ، فانقض عليه الزبير بن العوام وقاتله حتى قتله ، ثم حمل اللواء أخوهما الجُلاَس بن طلحة بن أبي طلحة ، فطعنه طلحة بن عبيد الله طعنة قضت على حياته ‏.‏
وقيل‏ :‏ بل رماه عاصم بن ثابت بن أبي الأفلح بسهم فقضي عليه ‏.‏
هؤلاء ستة نفر من بيت واحد ، بيت أبي طلحة عبد الله بن عثمان بن عبد الدار ، قتلوا جميعاً حول لواء المشركين ، ثم حمله من بني عبد الدار أرطاة بن شُرَحْبِيل ، فقتله على بن أبي طالب ، وقيل‏ :‏ حمزة بن عبد المطلب ، ثم حمله شُرَيح بن قارظ فقتله قُزْمَان ـ وكان منافقاً قاتل مع المسلمين حمية ، لا عن الإسلام ـ ثم حمله أبو زيد عمرو بن عبد مناف العبدري ، فقتله قزمان أيضاً ، ثم حمله ولد لشرحبيل بن هاشم العبدري فقتله قزمان أيضاً ‏.‏
فهؤلاء عشرة من بني عبد الدار ـ من حمله اللواء ـ أبيدوا عن آخرهم ، ولم يبق منهم أحد يحمل اللواء ‏.‏ فتقدم غلام لـهم حبشي ـ اسمه صُوَاب ـ فحمل اللواء ، وأبدى من صنوف الشجاعة والثبات ما فاق به مواليه من حملة اللواء الذين قتلوا قبله ، فقد قاتل حتى قطعت يداه ، فبرك على اللواء بصدره وعنقه ، لئلا يسقط ، حتى قتل وهو يقول ‏:‏ اللّهم هل أعزرت ‏؟‏ يعني هل أعذرت ‏؟ ‏‏.‏
وبعد أن قتل هذا الغلام ـ صُواب ـ سقط اللواء على الأرض ، ولم يبق أحد يحمله ، فبقي ساقطاً ‏.
القتال في بقية النقاط

وبينما كان ثقل المعركة يدور حول لواء المشركين كان القتال المرير يجري في سائر نقاط المعركة ، وكانت روح الإيمان قد سادت صفوف المسلمين ، فانطلقوا خلال جنود الشرك انطلاق الفيضان تتقطع أمامه السدود ، وهم يقولون ‏:‏ ‏[‏ أمت ، أمت‏ ]‏ كان ذلك شعاراً لهم يوم أحد ‏.‏
أقبل أبو دُجَانة معلماً بعصابته الحمراء ، آخذاً بسيف رسول الله(صلى الله عليه وسلم) ، مصمماً على أداء حقه ، فقاتل حتى أمعن في الناس ، وجعل لا يلقي مشركاً إلا قتله ، وأخذ يهد صفوف المشركين هدّا ‏.
‏قال الزبير بن العوام ‏:‏ وجدت في نفسي حين سألت رسول الله(صلى الله عليه وسلم) السيف فمنعنيه ، وأعطاه أبا دجانة ، وقلت ـ أي في نفسي ‏:‏ أنا ابن صفية عمته ، ومن قريش ، وقد قمت إليه ، فسألته إياه قبله فآتاه إياه وتركني ، والله لأنظرن ما يصنع ‏؟‏ فاتبعته ، فأخرج عصابة له حمراء فعصب بها رأسه ، فقالت الأنصار ‏:‏ أخرج أبو دجانة عصابة الموت ، فخرج وهو يقول ‏:‏
أنا الذي عاهـدني خليلي ** ونحـن بالسَّفْح لدى النَّخِيل
ألا أقوم الدَّهْرَ في الكَيول ** أضْرِبْ بسَيف الله والرسول
فجعل لا يلقى أحداً إلا قتله ، وكان في المشركين رجل لا يدع لنا جريحاً إلا ذَفَّفَ عليه ، فجعل كل واحد منهما يدنو من صاحبه ، فدعوت الله أن يجمع بينهما فالتقيا ، فاختلفا ضربتين ، فضرب المشرك أبا دجانة فاتقاه بدرقته ، فَعَضَّتْ بسيفه ، فضربه أبو دجانة فقتله ‏.‏
ثم أمعن أبو دجانة في هدِّ الصفوف ، حتى خلص إلى قائدة نسوة قريش ، وهو لا يدري بها‏ .‏
قال أبو دجانة‏ : ‏رأيت إنساناً يخْمِش الناس خمشاً شديداً ، فصمدت له ، فلما حملت عليه السيف ولَوْل َ، فإذا امرأة ، فأكرمت سيف رسول الله(صلى الله عليه وسلم) أن أضرب به امرأة ‏.‏
وكانت تلك المرأة هي هند بنت عتبة‏ .‏ قال الزبير بن العوام‏ :‏ رأيت أبا دجانة قد حمل السيف على مفرق رأس هند بنت عتبة ، ثم عدل السيف عنها ، فقلت ‏: ‏الله ورسوله أعلم ‏.‏
وقاتل حمزة بن عبد المطلب قتال الليوث المهتاجة ، فقد اندفع إلى قلب جيش المشركين يغامر مغامرة منقطعة النظير ، ينكشف عنه الأبطال كما تتطاير الأوراق أمام الرياح الهوجاء ، فبالإضافة إلى مشاركته الفعالة في إبادة حاملي لواء المشركين فعل الأفاعيل بأبطالهم الآخرين ، حتى صرع وهو في مقدمة المبرزين ، ولكن لا كما تصـرع الأبطال وجهاً لوجـه في ميدان القتـال ، وإنما كمـا يغتال الكرام في حلك الظـلام‏ .‏
مصرع أسد الله حمزة بن عبد المطلب

يقول قاتل حمزة وحْشِي بن حرب‏ :‏ كنت غلاماً لجبير بن مُطْعِم ، وكان عمه طُعَيمَة بن عدي قد أصيب يوم بدر ، فلما سارت قريش إلى أحد قال لي جبير ‏:‏ إنك إن قتلت حمزة عم محمد بعمي فأنت عتيق ‏.‏
قال ‏:‏ فخرجت مع الناس ـ وكنت رجلاً حبشياً أقذف بالحربة قذف الحبشة ، قلما أخطئ بها شيئاً ـ فلما التقي الناس خرجت أنظر حمزة وأتبصره ، حتى رأيته في عرض الناس مثل الجمل الأوْرَق ، يهُدُّ الناس هدّا ما يقوم له شيء ‏.‏ فوالله إني لأتهيأ له أريده ، فأستتر منه بشجرة أو حجر ليدنو مني إذ تقدمني إليه سِبَاع بن عبد العزي ، فلما رآه حمزة قال له ‏:‏ هلم إلى يابن مُقَطِّعَة البُظُور ـ وكانت أمه ختانة ـ قال ‏:‏ فضربه ضربة كأنما أخطأ رأسه ‏.‏
قال ‏:‏ وهززت حربتي حتى إذا رضيت منها دفعتها إليه ، فوقعت في ثُنَّتِه ـ أحشائه ـ حتى خرجت من بين رجليه ، وذهب لينوء نحوي فَغُلِبَ ، وتركته وإياها حتى مات ، ثم أتيته فأخذت حربتي ، ثم رجعت إلى العسكر فقعدت فيه ، ولم يكن لي بغيره حاجة ، وإنما قتلته لأعتق ، فلما قدمت مكة عتقت ‏.‏
السيطرة على الموقف

وبرغم هذه الخسارة الفادحة التي لحقت المسلمين بقتل أسد الله وأسد رسوله حمزة بن عبد المطلب ، ظل المسلمون مسيطرين على الموقف كله ‏.‏
فقد قاتل يومئذ أبو بكر ، وعمر بن الخطاب ، وعلي بن أبي طالب ، والزبير بن العوام ، ومصعب بن عمير ، وطلحة بن عبيد الله ، وعبد الله بن جحش ، وسعد بن معاذ ، وسعد بن عبادة ، وسعد بن الربيع ، وأنس بن النضر وأمثالهم قتالاً فَلَّ عزائم المشركين ، وفتَّ في أعضادهم‏ .‏
من أحضان المرأة إلى مقارعة السيوف والدرقة

وكان من الأبطال المغامرين يومئذ حَنْظَلة الغَسِيل ـ وهو حنظلة بن أبي عامر ، وأبو عامر هذا هو الراهب الذي سمي بالفاسق ، والذي مضي ذكره قريباً ـ كان حنظلة حديث عهد بالعُرْس ، فلما سمع هواتف الحرب وهو على امرأته انخلع من أحضانها ، وقام من فوره إلى الجهاد ، فلما التقى بجيش المشركين في ساحة القتال أخذ يشق الصفوف حتى خلص إلى قائد المشركين أبي سفيان صخر بن حرب ، وكاد يقضي عليه لولا أن أتاح الله له الشهادة ، فقد شد على أبي سفيان ، فلما استعلاه وتمكن منه رآه شداد بن الأسود فضربه حتى قتله‏ .‏
نصيب فصيلة الرماة في المعركة

وكانت للفصيلة التي عينها الرسول(صلى الله عليه وسلم) على جبل الرماة يد بيضاء في إدارة دفة القتال لصالح الجيش الإسلامي ، فقد هجم فرسان مكة بقيادة خالد بن الوليد يسانده أبو عامر الفاسق ثلاث مرات ، ليحطموا جناح الجيش الإسلامي الأيسر ، حتى يتسربوا إلى ظهور المسلمين ، فيحدثوا البلبلة والارتباك في صفوفهم وينزلوا عليهم هزيمة ساحقة ، ولكن هؤلاء الرماة رشقوهم بالنبل حتى فشلت هجماتهم الثلاث‏ .‏
الهزيمة تنزل بالمشركين

هكذا دارت رحى الحرب الزَّبُون ، وظل الجيش الإسلامي الصغير مسيطرًا على الموقف كله حتى خارت عزائم أبطال المشركين ، وأخذت صفوفهم تتبدد عن اليمين والشمال والأمام والخلف ، كأن ثلاثة آلاف مشرك يواجهون ثلاثين ألف مسلم لا بضع مئات قلائل، وظهر المسلمون في أعلى صور الشجاعة واليقين ‏.‏
وبعد أن بذلت قريش أقصى جهدها لسد هجوم المسلمين أحست بالعجز والخور ، وانكسرت همتها ـ حتى لم يجترئ أحد منها أن يدنو من لوائها الذي سقط بعد مقتل صُؤاب فيحمله ليدور حوله القتال ـ فأخذت في الانسحاب ، ولجأت إلى الفرار ، ونسيت ما كانت تتحدث به في نفوسها من أخذ الثأر والوتر والانتقام ، وإعادة العز والمجد والوقار ‏.‏
قال ابن إسحاق‏ :‏ ثم أنزل الله نصره على المسلمين ، وصدقهم وعده ، فحسوهم بالسيوف حتى كشفوهم عن المعسكر ، وكانت الهزيمة لاشك فيها ‏.‏
روى عبد الله بن الزبير عن أبيه أنه قال‏ :‏ والله لقد رأيتني أنظر إلى خَدَم ـ سوق ـ هند بنت عتبة وصواحبها مشمرات هوارب ، ما دون أخذهن قليل ولا كثير ‏.‏‏.‏‏.‏ إلخ .‏
وفي حديث البراء بن عازب عند البخاري في الصحيح ‏:‏ فلما لقيناهم هربوا حتى رأيت النساء يشتددن في الجبل ، يرفعن سوقهن قد بدت خلاخيلهن ‏.‏ وتبع المسلمون المشركين ، يضعون فيهم السلاح ، وينتهبون الغنائم‏ .‏
غلطة الرماة الفضيعة

وبينما كان الجيش الإسلامي الصغير يسجل مرة أخري نصراً ساحقاً على أهل مكة لم يكن أقل روعة من النصر الذي اكتسبه يوم بدر ، وقعت من أغلبية فصيلة الرماة غلطة فظيعة قلبت الوضع تماماً ، وأدت إلى إلحاق الخسائر الفادحة بالمسلمين ، وكادت تكون سبباً في مقتل النبي(صلى الله عليه وسلم) ، وقد تركت أسوأ أثر على سمعتهم ، وعلى الهيبة التي كانوا يتمتعون بها بعد بدر ‏.‏
لقد أسلفنا نصوص الأوامر الشديدة التي أصدرها رسول الله(صلى الله عليه وسلم) إلى هؤلاء الرماة ، بلزومهم موقفهم من الجبل في كل حال من النصر أو الهزيمة ، ولكن على رغم هذه الأوامر المشددة لما رأى هؤلاء الرماة أن المسلمين ينتهبون غنائم العدو غلبت عليهم أثارة من حب الدنيا ، فقال بعضهم لبعض ‏:‏ الغنيمة ، الغنيمة ، ظهر أصحابكم ، فما تنتظرون ‏؟‏
أما قائدهم عبد الله بن جبير ، فقد ذكرهم أوامر الرسول(صلى الله عليه وسلم) ، وقال ‏:‏ أنسيتم ما قال لكم رسول الله(صلى الله عليه وسلم) ‏؟‏
ولكن الأغلبية الساحقة لم تلق لهذا التذكير بالاً ، وقالت ‏:‏ والله لنأتين الناس فلنصيبن من الغنيمة ‏.‏
ثـم غـادر أربعون رجلاً أو أكثر هؤلاء الرماة مواقعهم من الجبل ، والتحقوا بسَوَاد الجيش ليشاركـوه فـي جمع الغنائم ‏.‏
وهكذا خلت ظهور المسلمين ، ولم يبق فيها إلا ابن جبير وتسعة أو أقل من أصحابه والتزموا مواقفهم مصممين على البقاء حتى يؤذن لهم أو يبادوا ‏.‏
خالد بن الوليد يقوم بخطة تطويق الجيش الإسلامي

وانتهز خالد بن الوليد هذه الفرصة الذهبية ، فكرَّ بسرعة خاطفة إلى جبل الرماة ليدور من خلفه إلى مؤخرة الجيش الإسلامي ، فلم يلبث أن أباد عبد الله بن جبير وأصحابه إلا البعض الذين لحقوا بالمسلمين ، ثم انقض على المسلمين من خلفهم ، وصاح فرسانه صيحة عرف بها المشركون المنهزمون بالتطور الجديد فانقلبوا على المسلمين ، وأسرعت امرأة منهم ـ وهي عمرة بنت علقمة الحارثية ـ فرفعت لواء المشركين المطروح على التراب ، فالتف حوله المشركون ولاثوا به ، وتنادي بعضهم بعضاً ، حتى اجتمعوا على المسلمين ، وثبتوا للقتال ، وأحيط المسلمون من الأمام والخلف ، ووقعوا بين شِقَّي الرحى‏ .‏
موقف الرسول الباسل إزاء عمل التطويق

وكان رسول الله(صلى الله عليه وسلم) حينئذ في مفرزة صغيرة ـ تسعة نفر من أصحابه ـ في مؤخرة المسلمين ، كان يرقب مجالدة المسلمين ومطاردتهم المشركين ، إذ بوغت بفرسان خالد مباغتة كاملة ، فكان أمامه طريقان‏ :‏ إما أن ينجو ـ بالسرعة ـ بنفسه وبأصحابه التسعة إلى ملجأ مأمون ، ويترك جيشه المطوق إلى مصيره المقدور ، وإما أن يخاطر بنفسه فيدعو أصحابه ليجمعهم حوله ، ويتخذ بهم جبهة قوية يشق بها الطريق لجيشه المطوق إلى هضاب أحد ‏.‏
وهناك تجلت عبقرية الرسول(صلى الله عليه وسلم) وشجاعته المنقطعة النظير ، فقد رفع صوته ينادي أصحابه ‏:‏ ‏" عباد الله "‏، وهو يعرف أن المشركين سوف يسمعون صوته قبل أن يسمعه المسلمون ، ولكنه ناداهم ودعاهم مخاطراً بنفسه في هذا الظرف الدقيق ‏.‏
وفعلاً فقد علم به المشركون فخلصوا إليه ، قبل أن يصل إليه المسلمون .‏
تبدد المسلمين في الموقف

أما المسلمون فلما وقعوا في التطويق طار صواب طائفة منهم ، فلم تكن تهمها إلا أنفسها ، فقد أخذت طريق الفرار ، وتركت ساحة القتال ، وهي لا تدري ماذا وراءها ‏؟‏ وفر من هذه الطائفة بعضهم إلى المدينة حتى دخلها ، وانطلق بعضهم إلى ما فوق الجبل ‏.‏
ورجعت طائفة أخرى فاختلطت بالمشركين ، والتبس العسكران فلم يتميزا ، فوقع القتل في المسلمين بعضهم من بعض ‏.‏
روى البخاري عن عائشة قالت ‏:‏ لما كان يوم أحد هزم المشركون هزيمة بينة ، فصاح إبليس ‏:‏ أي عباد الله أخراكم ـ أي احترزوا من ورائكم ـ فرجعت أولاهم فاجتلدت هي وأخراهم ، فبصر حذيفة ، فإذا هو بأبيه اليمان ، فقال ‏:‏ أي عباد الله أبي أبي ‏.‏ قالت ‏:‏ فوالله ما احتجزوا عنه حتى قتلوه ، فقال حذيفة ‏:‏ يغفر الله لكم ‏.‏ قال عروة ‏:‏ فوالله ما زالت في حذيفة بقية خير حتى لحق بالله ‏.‏
وهذه الطائفة حدث داخل صفوفها ارتباك شديد ، وعمتها الفوضى ، وتاه منها الكثيرون ، لا يدرون أين يتوجهون ، وبينما هم كذلك إذ سمعوا صائحاً يصيح ‏:‏ إن محمداً قد قتل ، فطارت بقية صوابهم ، وانهارت الروح المعنوية أو كادت تنهار في نفوس كثير من أفرادها ، فتوقف من توقف منهم عن القتال ، وألقى بأسلحته مستكيناً ، وفكر آخرون في الاتصال بعبد الله بن أبي ـ رأس المنافقين ـ ليأخذ لهم الأمان من أبي سفيان ‏. ‏ومر بهؤلاء أنس بن النضر ، وقد ألقوا ما بأيديهم فقال ‏:‏ ما تنتظرون ‏؟‏ فقالوا ‏:‏ قتل رسول الله(صلى الله عليه وسلم) ، قال ‏:‏ ما تصنعون بالحياة بعده ‏؟‏ قوموا فموتوا على ما مات عليه رسول الله(صلى الله عليه وسلم) ، ثم قال‏ :‏ اللّهم إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء ، يعني المسلمين ، وأبرأ إليك مما صنع هؤلاء ، يعني المشركين ، ثم تقدم فلقيه سعد بن معاذ ، فقال ‏:‏ أين يا أبا عمر ‏؟‏ فقال أنس ‏:‏ واها لريح الجنة يا سعد ، إني أجده دون أحد ، ثم مضي فقاتل القوم حتى قتل ، فما عرف حتى عرفته أخته ـ بعد نهاية المعركة ـ ببنانه ، وبه بضع وثمانون ما بين طعنة برمح ، وضربة بسيف ، ورمية بسهم ‏.‏
ونادى ثابت بن الدَحْدَاح قومه فقال ‏:‏ يا معشر الأنصار ، إن كان محمد قد قتل ، فإن الله حي لا يموت ، قاتلوا على دينكم ، فإن الله مظفركم وناصركم ‏.‏ فنهض إليه نفر من الأنصار ، فحمل بهم على كتيبة فرسان خالد فما زال يقاتلهم حتى قتله خالد بالرمح ، وقتل أصحابه ‏.‏
ومر رجل من المهاجرين برجل من الأنصار ، وهو يتَشَحَّطُ في دمه ، فقال ‏:‏ يا فلان ، أشعرت أن محمداً قد قتل ‏؟‏ فقال الأنصاري‏ :‏ إن كان محمد قد قتل فقد بَلَّغ ، فقاتلوا عن دينكم ‏.‏
وبمثل هذا الاستبسال والتشجيع عادت إلى جنود المسلمين روحهم المعنوية ، ورجع إليهم رشدهم وصوابهم ، فعدلوا عن فكرة الاستسلام أو الاتصال بابن أبي ، وأخذوا سلاحهم ، يهاجمون تيارات المشركين ، وهم يحاولون شق الطريق إلى مقر القيادة ، وقد بلغهم أن خبر مقتل النبي(صلى الله عليه وسلم) كذب مُخْتَلَق ، فزادهم ذلك قوة على قوتهم ، فنجحوا في الإفلات عن التطويق ، وفي التجمع حول مركز منيع ، بعد أن باشروا القتال المرير ، وجالدوا بضراوة بالغة‏ .‏
وكانت هناك طائفة ثالثة لم يكن يهمهم إلا رسول الله(صلى الله عليه وسلم)‏ .‏
فقد كرت هذه الطائفة إلى رسول الله(صلى الله عليه وسلم) ، وعمل التطويق في بدايته ، وفى مقدمة هؤلاء أبو بكر الصديق ، وعمر بن الخطاب ، وعلي بن أبي طالب وغيرهم ـ رضي الله عنهم ـ كانوا في مقدمة المقاتلين ، فلما أحسوا بالخطر على ذاته الشريفة ـ عليه الصلاة والسلام والتحية ـ صاروا في مقدمة المدافعين ‏.‏
احتدام القتال حول رسول الله(صلى الله عليه وسلم)

وبينما كانت تلك الطوائف تتلقي أواصر التطويق ، وتطحن بين شِقَّي رحى المشركين ، كان العراك محتدماً حول رسول الله(صلى الله عليه وسلم) ، وقد ذكرنا أن المشركين لما بدءوا عمل التطويق لم يكن مع رسول الله(صلى الله عليه وسلم) إلا تسعة نفر ، فلما نادي المسلمين ‏:‏ ‏" ‏هلموا إلي ، أنا رسول الله "‏، سمع صوته المشركون وعرفوه ، فكروا إليه وهاجموه ، ومالوا إليه بثقلهم قبل أن يرجع إليه أحد من جيش المسلمين ، فجري بين المشركين وبين هؤلاء النفر التسعة من الصحابة عراك عنيف ظهرت فيه نوادر الحب والتفاني والبسالة والبطولة ‏.‏
روى مسلم عن أنس بن مالك أن رسول الله(صلى الله عليه وسلم) أفرد يوم أحد في سبعة من الأنصار ورجلين من قريش، فلما رهقوه قال ‏:‏ ‏" ‏من يردهم عنا وله الجنة ‏؟‏ أو هو رفيقي في الجنة ‏؟‏‏ "فتقدم رجل من الأنصار فقاتل حتى قتل ثم رهقوه أيضاً فقال ‏:‏ "‏من يردهم عنا وله الجنة، أو هو رفيقي في الجنة ‏؟‏‏ "‏ فتقدم رجل من الأنصار فقاتل حتى قتل ، فلم يزل كذلك حتى قتل السبعة ، فقال رسول الله(صلى الله عليه وسلم) لصاحبيه ـ أي القرشيين ‏:‏ "‏ما أنصفنا أصحابنا‏ "‏.‏
وكان آخر هؤلاء السبعة هو عمارة بن يزيد بن السَّكَن ، قاتل حتى أثبتته الجراحة فسقط ‏.‏



أحرج ساعة في حياة الرسول(صلى الله عليه وسلم)

وبعد سقوط بن السكن بقي الرسول في القرشيين فقط ، ففي الصحيحين عن أبي عثمان قال ‏:‏ لم يبق مع النبي(صلى الله عليه وسلم) في بعض تلك الأيام التي يقاتل فيهن غير طلحة ابن عبيد الله وسعد ـ بن أبي وقاص ـ وكانت أحرج ساعة بالنسبة إلى حياة رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، وفرصة ذهبية بالنسبة إلى المشركين ، ولم يتوان المشركون في انتهاز تلك الفرصة ، فقد ركزوا حملتهم على النبي(صلى الله عليه وسلم) ، وطمعوا في القضاء عليه ، رماه عتبة بن أبي وقاص بالحجارة فوقع لشقه ، وأصيبت رباعيته اليمنى السفلى ، وكُلِمَتْ شفته السفلى ، وتقدم إليه عبد الله بن شهاب الزهري فَشَجَّه في جبهته ، وجاء فارس عنيد هو عبد الله بن قَمِئَة ، فضرب على عاتقه بالسيف ضربة عنيفة شكا لأجلها أكثر من شهر إلا أنه لم يتمكن من هتك الدرعين ، ثم ضرب على وجنته(صلى الله عليه وسلم) ضربة أخرى عنيفة كالأولى حتى دخلت حلقتان من حلق المِغْفَر في وجْنَتِه ، وقال‏ :‏ خذها وأنا ابن قمئة ‏.‏ فقال رسول الله(صلى الله عليه وسلم) وهو يمسح الدم عن وجهة‏ :‏ ‏" أقمأك الله‏ "‏ ‏.‏
وفي الصحيح أنه(صلى الله عليه وسلم) كسرت رَبَاعِيَته ، وشُجَّ في رأسه ، فجعل يَسْلُتُ الدم عنه ويقول ‏:‏ "‏كيف يفلح قوم شجوا وجه نبيهم ، وكسروا رباعيته ، وهو يدعوهم إلى الله "‏، فأنزل الله عز وجل‏ :‏ ‏" ‏لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذَّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ‏ "‏ ‏[‏آل عمران‏:‏128‏]‏ ‏.‏
وفي رواية الطبراني أنه قال يومئذ ‏:‏ ‏" ‏اشتد غضب الله على قوم دموا وجه رسوله‏ "‏، ثم مكث ساعة ثم قال ‏:‏ "‏اللّهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون "‏ ، وفي صحيح مسلم أنه قال‏ : "‏رب اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون‏ "‏ ، وفي الشفاء للقاضي عياض أنه قال‏ :‏ "‏اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون‏ "‏‏.‏
ولا شك أن المشركين كانوا يهدفون القضاء على حياة رسول الله (صلى الله عليه وسلم)إلا أن القرشيين سعد بن أبي وقاص وطلحة بن عبيد الله قاما ببطولة نادرة ، وقاتلا ببسالة منقطعة النظير ، حتى لم يتركا ـ وهما اثنان فحسب ـ سبيلا ً إلى نجاح المشركين في هدفهم ، وكانا من أمهر رماة العرب فتناضلا حتى أجهضا مفرزة المشركين عن رسول الله(صلى الله عليه وسلم) ‏.‏
فأما سعد بن أبي وقاص ، فقد نثل له رسول الله(صلى الله عليه وسلم) كنانته وقال‏ : "‏ارم فداك أبي وأمي "‏ ‏.‏ ويدل على مدى كفاءته أن النبي (صلى الله عليه وسلم)لم يجمع أبويه لأحد غير سعد ‏.‏
وأما طلحة بن عبيد الله فقد روى النسائي عن جابر قصة تَجَمَّع المشركين حول رسول الله(صلى الله عليه وسلم) ومعه نفر من الأنصار ، قال جابر ‏:‏ فأدرك المشركون رسول الله(صلى الله عليه وسلم) فقال ‏:‏ ‏( ‏من للقوم ‏؟ ‏‏)‏ فقال طلحة ‏:‏ أنا ، ثم ذكر جابر تقدم الأنصار ، وقتلهم واحداً بعد واحد ، بنحو ما ذكرنا من رواية مسلم ، فلما قتل الأنصار كلهم تقدم طلحة ‏.‏ قال جابر ‏:‏ ثم قاتل طلحة قتال الأحد عشر حتى ضربت يده فقطعت أصابعه ، فقال ‏:‏ حَسِّ ، فقال النبي(صلى الله عليه وسلم) :‏ ‏" ‏لو قلت‏:‏ بسم الله، لرفعتك الملائكة والناس ينظرون‏ "‏، قال ‏:‏ ثم رد الله المشركين ‏.‏
ووقع عند الحاكم في الإكليل أنه جرح يوم أحد تسعاً وثلاثين أو خمساً وثلاثين ، وشلت إصبعه ، أي السبابة والتي تليها ‏.‏
وروى البخاري عن قيس بن أبي حازم قال ‏:‏ رأيت يد طلحة شلاء ، وقى بها النبي(صلى الله عليه وسلم) يوم أحد‏ .‏
وروى الترمذي أن النبي(صلى الله عليه وسلم) قال فيه يومئذ‏ :‏ "‏من أحب أن ينظر إلى شهيد يمشي على وجه الأرض فلينظر إلى طلحة بن عبيد الله‏ "‏ ‏.‏
العتمه غير متواجد حالياً  
قديم 22-02-2008, 10:34 AM   #27
العتمه
 
الصورة الرمزية العتمه
 







 
العتمه is on a distinguished road
افتراضي رد : تعرف على حبيبك

تابع غزوة احد



وروى أبو داود الطيالسي عن عائشة قالت ‏:‏ كان أبو بكر إذا ذكر يوم أحد قال ‏:‏ ذلك اليوم كله لطلحة‏ .‏
وقال فيه أبو بكر الصديق رضي الله عنه أيضاً‏ :‏
يا طلحة بن عبيد الله قد وَجَبَتْ

لك الجنان وبُوِّئتَ المَهَا العِينَا

وفي ذلك الظرف الدقيق والساعة الحرجة أنزل الله نصره بالغيب ، ففي الصحيحين عن سعد ، قال ‏:‏ رأيت رسول الله(صلى الله عليه وسلم) يوم أحد ، ومعه رجلان يقاتلان عنه ، عليهما ثياب بيض كأشد القتال ، ما رأيتهما قبل ولا بعد ‏.‏ وفي رواية‏ :‏ يعني جبريل وميكائيل ‏.‏


بداية تجمع الصحابة حول الرسول(صلى الله عليه وسلم)

وقعت هذه كلها بسرعة هائلة في لحظات خاطفة ، وإلا فالمصطفون الأخيار من صحابته(صلى الله عليه وسلم) ـ الذين كانوا في مقدمة صفوف المسلمين عند القتال ـ لم يكادوا يرون تغير الموقف ، أو يسمعوا صوته(صلى الله عليه وسلم) حتى أسرعوا إليه ، لئلا يصل إليه شيء يكرهونه ، إلا أنهم وصلوا وقد لقي رسول الله(صلى الله عليه وسلم) ما لقي من الجراحات ـ وستة من الأنصار قد قتلوا والسابع قد أثبتته الجراحات ، وسعد وطلحة يكافحان أشد الكفاح ـ فلما وصلوا أقاموا حوله سياجاً من أجسادهم وسلاحهم ، وبالغوا في وقايته من ضربات العدو ، ورد هجماته ‏.‏ وكان أول من رجع إليه هو ثانيه في الغار أبو بكر الصديق رضي الله عنه ‏.‏
روى ابن حبان في صحيحه عن عائشة قالت ‏:‏ قال أبو بكر الصديق ‏:‏ لما كان يوم أحد انصرف الناس كلهم عن النبي(صلى الله عليه وسلم) ، فكنت أول من فاء إلى النبي(صلى الله عليه وسلم) ، فرأيت بين يديه رجلاً يقاتل عنه ويحميه ، قلت ‏:‏ كن طلحة ، فداك أبي وأمي ، كن طلحة ، فداك أبي وأمي ، ‏[‏ حيث فاتني ما فاتني ، فقلت ‏:‏ يكون رجل من قومي أحب إلي ‏]‏ فلم أنشب أن أدركني أبو عبيدة بن الجراح ، وإذا هو يشتد كأنه طير حتى لحقني ، فدفعنا إلى النبي(صلى الله عليه وسلم) ، فإذا طلحة بين يديه صريعاً ، فقال النبي(صلى الله عليه وسلم) ‏:‏ ‏" ‏دونكم أخـاكم فقـد أوجب "‏، وقد رمي النبي(صلى الله عليه وسلم) في وَجْنَتِهِ حتى غابت حلقتان من حلق المِغْفَر في وجنته ، فذهبت لأنزعهما عن النبي(صلى الله عليه وسلم) فقال أبو عبيدة‏ :‏ نشدتك بالله يا أبا بكر ، إلا تركتني ، قال‏:‏ فأخذ بفيه فجعل ينَضِّـضه كراهية أن يؤذي رسول الله(صلى الله عليه وسلم) ، ثم استل السهم بفيه ، فنَدَرَت ثنية أبي عبيدة ، قال أبو بكر ‏:‏ ثم ذهبت لآخذ الآخر ، فقال أبو عبيدة‏ :‏ نشدتك بالله يا أبا بكر ، إلا تركتني ، قال ‏: ‏فأخذه فجعل ينضضه حتى اسْتَلَّه ، فندرت ثنية أبي عبيدة الأخرى ، ثم قال رسول الله(صلى الله عليه وسلم) ‏: "‏دونكم أخاكم، فقد أوجب "‏، قال ‏:‏ فأقبلنا على طلحة نعالجه ، وقد أصابته بضع عشرة ضربة ‏.‏ وفي تهذيب تاريخ دمشق ‏:‏ فأتيناه في بعض تلك الحفار فإذا به بضع وستون أو أقل أو أكثر ، بين طعنة ورمية وضربة ، وإذا قد قطعت إصبعه ، فأصلحنا من شأنه ‏.‏
وخلال هذه اللحظات الحرجة اجتمع حول النبي(صلى الله عليه وسلم) عصابة من أبطال المسلمين منهم أبو دُجَانة ، ومصعب بن عمير ، وعلى بن أبي طالب ، وسهل بن حنيف، ومالك بن سنان والد أبي سعيد الخدري ، وأم عمارة نُسَيْبة بنت كعب المازنية ، وقتادة ابن النعمان ، وعمر بن الخطاب ، وحاطب بن أبي بلتعة ، وأبو طلحة ‏.‏
تضاعف ضغط المشركين

كما كان عدد المشركين يتضاعف كل آن ، وبالطبع فقد اشتدت حملاتهم وزاد ضغطهم على المسلمين ، حتى سقط رسول الله (صلى الله عليه وسلم)في حفرة من الحفر التي كان أبو عامر الفاسق يكيد بها ، فجُحِشَتْ ركبته ، وأخذه علي بيده ، واحتضنه طلحة بن عبيد الله حتى استوي قائماً ، وقال نافع بن جبير‏ :‏ سمعت رجلاً من المهاجرين يقول ‏:‏ شهدت أحداً فنظرت إلى النبل يأتي من كل ناحية ، ورسول الله(صلى الله عليه وسلم) وسطها ، كل ذلك يصرف عنه ، ولقد رأيت عبد الله بن شهاب الزهري يقول يومئذ‏ :‏ دلوني على محمد ، فلا نجوت إن نجا ، ورسول الله(صلى الله عليه وسلم) إلى جنبه ، ما معه أحد ، ثم جاوزه ، فعاتبه في ذلك صفوان ، فقال ‏:‏ والله ما رأيته ، أحلف بالله إنه منا ممنوع ، خرجنا أربعة ، فتعاهدنا وتعاقدنا على قتله ، فلم نخلص إلى ذلك ‏.‏
البطولات النادرة

وقام المسلمون ببطولات نادرة وتضحيات رائعة ، لم يعرف لها التاريخ نظيراً ‏.‏
كان أبو طلحة يسور نفسه بين يدي رسول الله(صلى الله عليه وسلم) ، ويرفع صدره ليقيه سهام العدو ‏.‏
قال أنس‏ :‏ لما كان يوم أحد انهزم الناس عن النبي(صلى الله عليه وسلم) ، وأبو طلحة بين يديه مجوب عليه بحجفة له ، وكان رجلاً رامياً شديد النزع ، كسر يومئذ قوسين أو ثلاثا ، وكان الرجل يمر معه بجَعْبَة من النبل فيقول ‏:‏ ‏( ‏انثرها لأبي طلحة‏ )‏ ، قال ‏:‏ ويشرف النبي (صلى الله عليه وسلم)ينظر إلى القوم ، فيقول أبو طلحة ‏:‏ بأبي أنت وأمي لا تشرف يصيبك سهم من سهام القوم ، نَحْرِي دون نحرك ‏.‏
وعنه أيضاً قال ‏:‏ كان أبو طلحة يتترس مع النبي(صلى الله عليه وسلم) بترس واحد ، وكان أبو طلحة حسن الرَّمْي ، فكان إذا رمي تشرف النبي (صلى الله عليه وسلم)، فينظر إلى موقع نبله ‏.‏
وقام أبو دجانة أمام رسول الله(صلى الله عليه وسلم) ، فَتَرَّسَ عليه بظهره‏ ،‏ والنبل يقع عليه وهو لا يتحرك‏ .‏
وتبع حاطب بن أبي بلتعة عتبة بن أبي وقاص ـ الذي كسر الرَّباعية الشريفة ـ فضربه بالسيف حتى طرح رأسه ، ثم أخذ فرسه وسيفه ، وكان سعد بن أبي وقاص شديد الحرص على قتل أخيه ـ عتبة هذا ـ إلا أنه لم يظفر به ، بل ظفر به حاطب‏ .‏
وكان سهل بن حُنَيف أحد الرماة الأبطال ، بايع رسول الله(صلى الله عليه وسلم) على الموت ، ثم قام بدور فعال في ذود المشركين ‏.‏
وكان رسول الله(صلى الله عليه وسلم) يباشر الرماية بنفسه ، فعن قتادة بن النعمان ‏:‏ أن رسول الله رمى عن قوسه حتى اندقت سِيتُها ، فأخذها قتادة بن النعمان ، فكانت عنده ، وأصيبت يومئذ عينه حتى وقعت على وَجْنَتِه ، فردها رسول الله(صلى الله عليه وسلم) بيده ، فكانت أحسن عينيه وأحَدَّهُما‏ .‏
وقاتل عبد الرحمن بن عوف حتى أصيب فوه يومئذ فهُتِمَ ، وجرح عشرين جراحة أو أكثر ، أصابه بعضها في رجله فعرج‏ .‏
وامتص مالك بن سنان والد أبي سعيد الخدري الدم من وجنته(صلى الله عليه وسلم) حتى أنقاه ، فقال ‏:‏ ‏( ‏مُجَّه ‏) ‏، فقال ‏:‏ والله لا أمجه ، ثم أدبر يقاتل ، فقال النبي(صلى الله عليه وسلم) ‏:‏ ‏" ‏من أراد أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى هذا "‏، فقتل شهيداً‏ .‏
وقاتلت أم عمارة فاعترضت لابن قَمِئَة في أناس من المسلمين ، فضربها ابن قمئة على عاتقها ضربة تركت جرحاً أجوف ، وضربت هي ابن قمئة عدة ضربات بسيفها ، لكن كانت عليه درعان فنجا ، وبقيت أم عمارة تقاتل حتى أصابها اثنا عشر جرحاً‏ .‏
وقاتل مصعب بن عمير بضراوة بالغة ، يدافع عن النبي(صلى الله عليه وسلم) هجوم ابن قمئة وأصحابه ، وكان اللواء بيده ، فضربوه على يده اليمني حتى قطعت ، فأخذ اللواء بيده اليسرى ، وصمد في وجوه الكفار حتى قطعت يده اليسرى ، ثم برك عليه بصدره وعنقه حتى قتل ، وكان الذي قتله هو ابن قمئة ، وهو يظنه رسول الله ـ لشبهه به ـ فانصرف ابن قمئة إلى المشركين ، وصاح ‏:‏ إن محمداً قد قتل ‏.‏
إشاعة مقتل النبي (صلى الله عليه وسلم)

ولم يمض على هذا الصياح دقائق ، حتى شاع خبر مقتل النبي(صلى الله عليه وسلم) في المشركين والمسلمين‏ .‏
وهذا هو الظرف الدقيق الذي خارت فيه عزائم كثير من الصحابة المطوقين ، الذين لم يكونوا مع رسول الله(صلى الله عليه وسلم) ، وانهارت معنوياتهم ، حتى وقع داخل صفوفهم ارتباك شديد ، وعمتها الفوضى والاضطراب ، إلا أن هذه الصيحة خففت بعض التخفيف من مضاعفة هجمات المشركين ، لظنهم أنهم نجحوا في غاية مرامهم ، فاشتغل الكثير منهم بتمثيل قتلى المسلمين ‏.‏
الرسول(صلى الله عليه وسلم) يواصل المعركة وينقذ الموقف

ولما قتل مصعب أعطي رسول الله اللواء على بن أبي طالب ، فقاتل قتالاً شديداً ، وقامت بقية الصحابة الموجودين هناك ببطولاتهم النادرة ، يقاتلون ويدافعون ‏.‏
وحينئذ استطاع رسول الله(صلى الله عليه وسلم) أن يشق الطريق إلى جيشه المطوق ، فأقبل إليهم فعرفه كعب بن مالك ـ وكان أول من عرفه ـ فنادي بأعلى صوته ‏:‏ يا معشر المسلمين أبشروا ، هذا رسول الله(صلى الله عليه وسلم) ، فأشار إليه أن اصمت ـ وذلك لئلا يعرف موضعه المشركون ـ إلا أن هذا الصوت بلغ إلى آذان المسلمين ، فلاذ إليه المسلمون حتى تجمع حوله حوالى ثلاثين رجلاً من الصحابة ‏.‏
وبعد هذا التجمع أخذ رسول الله(صلى الله عليه وسلم) في الانسحاب المنظم إلى شعب الجبل ، وهو يشق الطريق بين المشركين المهاجمين ، واشتد المشركون في هجومهم ، لعرقلة الانسحاب إلا أنهم فشلوا أمام بسالة ليوث الإسلام ‏.‏
تقدم عثمان بن عبد الله بن المغيرة ـ أحد فرسان المشركين ـ إلى رسول الله(صلى الله عليه وسلم) وهو يقول‏ :‏ لا نجوت إن نجا‏ .‏ وقام رسول الله(صلى الله عليه وسلم) لمواجهته ، إلا أن الفرس عثرت في بعض الحفر ، فنازله الحارث بن الصِّمَّة ، فضرب على رجله فأقعده ، ثم ذَفَّفَ عليه وأخذ سلاحه ، والتحق برسول الله(صلى الله عليه وسلم) ‏.‏
وعطف عبد الله بن جابر ـ فارس آخر من فرسان مكة ـ على الحارث بن الصِّمَّة ، فضرب بالسيف على عاتقه فجرحه حتى حمله المسلمون ولكن انقض أبو دجانة ـ البطل المغامر ذو العصابة الحمراء ـ على عبد الله بن جابر فضربه بالسيف ضربة أطارت رأسه ‏.‏
وأثناء هذا القتال المرير كان المسلمون يأخذهم النعاس أمنة من الله ، كما تحدث عنه القرآن ‏.‏ قال أبو طلحة ‏:‏ كنت فيمن تغشاه النعاس يوم أحد حتى سقط سيفي من يدي مراراً ، يسقط وآخذه ويسقط وآخذه ‏.‏
وبمثل هذه البسالة بلغت هذه الكتيبة ـ في انسحاب منظم ـ إلى شعب الجبل ، وشق لبقية الجيش طريقاً إلى هذا المقام المأمون ، فتلاحق به في الجبل ، وفشلت عبقرية خالد أمام عبقرية رسول الله(صلى الله عليه وسلم) ‏.‏
مقتل أبي بن خلف

قال ابن إسحاق‏ :‏ فلما أسند رسول الله(صلى الله عليه وسلم) في الشعب أدركه أبي بن خلف وهو يقول ‏:‏ أين محمد ‏؟‏ لا نجوتُ إن نجا ‏.‏ فقال القوم ‏:‏ يا رسول الله ، أيعطف عليه رجل منا ‏؟‏ فقال رسول الله(صلى الله عليه وسلم)‏ : ‏‏( ‏دعوه ‏)‏ ، فلما دنا منه تناول رسول الله(صلى الله عليه وسلم) الحربة من الحارث بن الصمة ، فلما أخذها منه انتفض انتفاضة تطايروا عنه تطاير الشعر عن ظهر البعير إذا انتفض ، ثم استقبله وأبصر تَرْقُوَتَه من فرجة بين سابغة الدرع والبيضة ، فطعنه فيها طعنة تدأدأ ـ تدحرج ـ منها عن فرسه مراراً‏ .‏ فلما رجع إلى قريش وقد خدشه في عنقه خدشاً غير كبير، فاحتقن الدم ، قال ‏:‏ قتلني والله محمد ، قالوا له‏:‏ ذهب والله فؤادك ، والله إن بك من بأس ، قال ‏:‏ إنه قد كان قال لي بمكة‏ : ‏‏( ‏أنا أقتلك‏ )‏ ، فوالله لو بصق على لقتلني ‏.‏ فمات عدو الله بسَرِف وهم قافلون به إلى مكة ‏.
‏وفي رواية أبي الأسود عن عروة ، وكذا في رواية سعيد بن المسيب عن أبيه ‏:‏ أنه كان يخور خوار الثور ، ويقول‏ :‏ والذي نفسي بيده ، لو كان الذي بي بأهل ذي المجاز لماتوا جميعاً ‏.‏
طلحة ينهض بالنبي(صلى الله عليه وسلم)

وفي أثناء انسحاب رسول الله(صلى الله عليه وسلم) إلى الجبل عرضت له صخرة من الجبل ، فنهض إليها ليعلوها فلم يستطع ، لأنه كان قد بَدَّنَ وظاهر بين الدرعين ، وقد أصابه جرح شديد‏ . ‏فجلس تحته طلحة بن عبيد الله ، فنهض به حتى استوي عليها ، وقال ‏:‏ ‏(‏ أوْجَبَ طلحةُ ‏)‏ ، أي ‏: ‏الجنة‏ .‏
آخر هجوم قام به المشركون

ولما تمكن رسول الله(صلى الله عليه وسلم) من مقر قيادته في الشعب قام المشركون بآخر هجوم حاولوا به النيل من المسلمين‏ .‏
قال ابن إسحاق ‏:‏ بينا رسول الله(صلى الله عليه وسلم) في الشعب إذ علت عالية من قريش الجبل ـ يقودهم أبو سفيان وخالد بن الوليد ـ فقال رسول الله(صلى الله عليه وسلم) ‏:‏ ‏" ‏اللّهم إنه لا ينبغي لهم أن يعلونا‏ "‏ ، فقاتل عمر بن الخطاب ورهط معه من المهاجرين حتى أهبطوهم من الجبل ‏.‏
وفي مغازي الأموي ‏:‏ أن المشركين صعدوا على الجبل ، فقال رسول الله(صلى الله عليه وسلم) لسعد ‏: ‏‏( ‏اجْنُبْهُمْ ‏)‏ ـ يقول ‏:‏ ارددهم ـ فقال ‏:‏ كيف أجْنُبُهُمْ وحدي ‏؟‏ فقال ذلك ثلاثاً ، فأخذ سعد سهماً من كنانته ، فرمي به رجلاً فقتله ، قال‏ :‏ ثم أخذت سهمي أعرفه ، فرميت به آخر، فقتلته ، ثم أخذته أعرفه فرميت به آخر فقتلته ، فهبطوا من مكانهم ، فقلت ‏:‏ هذا سهم مبارك ، فجعلته في كنانتي‏ .‏ فكان عند سعد حتى مات ، ثم كان عند بنيه ‏.‏
تشويه الشهداء

وكان هذا آخر هجوم قام به المشركون ضد النبي(صلى الله عليه وسلم)، ولما لم يكونوا يعرفون من مصيره شيئاً ـ بل كانوا على شبه اليقين من قتله ـ رجعوا إلى مقرهم ، وأخذوا يتهيأون للرجوع إلى مكة ، واشتغل من اشتغل منهم ـ وكذا اشتغلت نساؤهم ـ بقتلي المسلمين ، يمثلون بهم ، ويقطعون الآذان والأنوف والفروج ، ويبقرون البطون ‏.‏ وبقرت هند بنت عتبة كبد حمزة فلاكتها ، فلم تستطع أن تسيغها فلفظتها ، واتخذت من الآذان والأنوف خَدَماً ـ خلاخيل ـ وقلائد
مدى استعداد أبطال المسلمين للقتال حتى نهاية المعركة

وفي هذه الساعة الأخيرة وقعت وقعتان تدلان على مدى استعداد أبطال المسلمين للقتال ، ومدى استماتتهم في سبيل الله ‏:‏
1‏.‏ قال كعب بن مالك ‏:‏ كنت فيمن خرج من المسلمين ، فلما رأيت تمثيل المشركين بقتلى المسلمين قمت فتجاوزت ، فإذا رجل من المشركين جمع اللأمة يجوز المسلمين وهو يقول ‏:‏ استوسقوا كما استوسقت جزر الغنم‏ .‏ وإذا رجل من المسلمين ينتظره وعليه لأمته ، فمضيت حتى كنت من ورائه ، ثم قمت أقدر المسلم والكافر ببصري ، فإذا الكافر أفضلهما عدة وهيئة ، فلم أزل أنتظرهما حتى التقيا ، فضرب المسلم الكافر ضربة فبلغت وركه وتفرق فرقتين ، ثم كشف المسلم عن وجهه ، وقال ‏:‏ كيف ترى يا كعب ‏؟‏ أنا أبو دجانة ‏.‏
2‏.‏ جاءت نسوة من المؤمنين إلى ساحة القتال بعد نهاية المعركة ، قال أنس :‏ لقد رأيت عائشة بنت أبي بكر وأم سليم ، وإنهما لمشمرتان ـ أرى خَدَم سوقهما ـ تَنْقُزَانِ القِرَبَ على متونهما ، تفرغانه في أفواه القوم ، ثم ترجعان فتملآنها ، ثم تجيئان فتفرغانه في أفواه القوم ‏.‏ وقال عمر ‏:‏ كانت ‏[ ‏أم سَلِيط من نساء الأنصار ‏]‏ تزفر لنا القرب يوم أحد ‏.‏
وكانت في هؤلاء النسوة أم أيمن ، لما رأت فلول المسلمين يريدون دخول المدينة ، أخذت تحثو التراب في وجوههم وتقول لبعضهم‏ :‏ هاك المغزل ، وهلم سيفك ‏.‏ ثم سارعت إلى ساحة القتال ، فأخذت تسقي الجرحى ، فرماها حِبَّان ـ بالكسر ـ بن العَرَقَة بسهم ، فوقعت وتكشفت ، فأغرق عدو الله في الضحك ، فشق ذلك على رسول الله(صلى الله عليه وسلم) ، فدفع إلى سعد بن بي وقاص سهماً لا نصل له ، وقال ‏: ‏‏( ‏ارم به ‏)‏ ، فرمى به سعد ، فوقع السهم في نحر حبان ، فوقع مستلقياً حتى تكشف ، فضحك رسول الله(صلى الله عليه وسلم) حتى بدت نواجذه ، ثم قال :‏ ‏( ‏استقاد لها سعد ، أجاب الله دعوته ‏)‏ ‏.‏
بعد إنتهاء الرسول (صلى الله عليه وسلم)إلى الشعب

ولما استقر رسول الله(صلى الله عليه وسلم) في مقره من الشِّعب خرج على أبي طالب حتى ملأ دَرَقَته ماء من المِهْرَاس ـ قيل ‏:‏ هو صخرة منقورة تسع كثيراً ‏.‏ وقيل ‏:‏ اسم ماء بأحد ـ فجاء به إلى رسول الله(صلى الله عليه وسلم) ليشرب منه ، فوجد له ريحاً فعافه ، فلم يشرب منه ، وغسل عن وجهه الدم ، وصب على رأسه وهو يقول ‏:‏ "‏اشتد غضب الله على من دَمَّى وجه نبيه‏ "‏ ‏.‏
وقال سهل ‏:‏ والله إني لأعرف من كان يغسل جرح رسول الله(صلى الله عليه وسلم) ، ومن كان يسكب الماء ، وبما دُووِي ‏؟‏ كانت فاطمة ابنته تغسله ، وعلي بن أبي طالب يسكب الماء بالمِجَنِّ ، فلما رأت فاطمة أن الماء لا يزيد الدم إلا كثرة أخذت قطعة من حصير ، فأحرقتها ، فألصقتها فاستمسك الدم‏ .‏
وجاء محمد بن مسلمة بماء عذب سائغ ، فشرب منه النبي(صلى الله عليه وسلم) ودعا له بخير ، وصلى الظهر قاعداً من أثر الجراح ، وصلى المسلمون خلفه قعوداً .


شماتة أبي سفيان

ولما تكامل تهيؤ المشركين للانـصراف أشـرف أبو سفـيان على الجبل ، فـنادي أفيكم محمد ‏؟‏ فلم يجيبوه ‏.‏ فقال ‏:‏ أفيكم ابن أبي قحافة ‏؟‏ فلم يجبيبوه‏ .‏ فقال ‏:‏ أفيكم عمر بن الخطاب‏ ؟‏ فلم يجيبوه ـ وكان النبي(صلى الله عليه وسلم) منعهم من الإجابة ـ ولم يسأل إلا عن هؤلاء الثلاثة لعلمه وعلم قومه أن قيام الإسلام بهم ‏.‏ فقال‏ :‏ أما هؤلاء فقد كفيتموهم ، فلم يملك عمر نفسه أن قال ‏:‏ يا عدو الله ، إن الذين ذكرتهم أحياء ، وقد أبقى الله ما يسوءك ‏.‏
فقال ‏:‏ قد كان فيكم مثلة لم آمر بها ولم تسؤني ‏.
ثم قال ‏:‏ أعْلِ هُبَل‏.‏
فقال النبي(صلى الله عليه وسلم)‏:‏ ‏(‏ ألا تجيبونه ‏؟ ‏‏)‏ فقالوا ‏: ‏فما نقول‏ ؟‏ قال ‏:‏ ‏( ‏قولوا ‏:‏ الله أعلى وأجل‏ ) ‏‏.‏
ثم قال‏ :‏ لنا العُزَّى ولا عزى لكم ‏.‏
فقال النبي(صلى الله عليه وسلم) ‏:‏ ‏( ‏ألا تجيبونه ‏؟ ‏‏)‏ قالوا ‏:‏ ما نقول ‏؟‏ قال ‏:‏ ‏( ‏قولوا ‏: ‏الله مولانا ، ولا مولي لكم‏ )‏ ‏.‏
ثم قال أبو سفيان ‏:‏ أنْعَمْتَ فَعَال ، يوم بيوم بدر، والحرب سِجَال ‏.‏
فأجابه عمر ، وقال ‏:‏ لا سواء ، قتلانا في الجنة ، وقتلاكم في النار‏ .‏
ثم قال أبو سفيان‏ :‏ هلم إلى يا عمر، فقال رسول الله(صلى الله عليه وسلم) ‏:‏ ‏( ‏ائته فانظر ما شأنه ‏؟ ‏‏)‏ فجاءه ،
فقال له أبو سفيان ‏:‏ أنشدك الله يا عمر، أقتلنا محمداً‏ ؟‏ قال عمر ‏:‏ اللّهم لا‏ .‏ وإنه ليستمع كلامك الآن ‏.‏ قال ‏:‏ أنت أصدق عندي من ابن قَمِئَة وأبر ‏.
مواعدة التلاقي في بدر

قال ابن إسحاق‏:‏ ولما انصرف أبو سفيان ومن معه نادى ‏:‏ إن موعدكم بدر العام القابل ‏.
‏فقال رسول الله(صلى الله عليه وسلم) لرجل من أصحابه ‏:‏ ‏(‏ قل‏ :‏ نعم ، هو بيننا وبينك موعد‏ )‏‏ .‏
التثبت من موقف المشركين

ثم بعث رسول الله(صلى الله عليه وسلم) علي بن أبي طالب ، فقال‏ :‏ "‏اخرج في آثار القوم فانظر ماذا يصنعون‏ ؟‏ وما يريدون ‏؟‏ فإن كانوا قد جَنَبُوا الخيل ، وامْتَطُوا الإبل ، فإنهم يريدون مكة ، وإن كانوا قد ركبوا الخيل وساقوا الإبل فإنهم يريدون المدينة‏ ،‏ والذي نفسي بيده، لئن أرادوها لأسيرن إليهم فيها ، ثم لأناجزنهم "‏‏.‏ قال علي ‏:‏ فخرجت في آثارهم أنظر ماذا يصنعون ، فجنبوا الخيل وامتطوا الإبل ، ووَجَّهُوا إلى مكة ‏.‏
تفقد القتلى والجرحى

وفرغ الناس لتفقد القتلى والجرحى بعد منصرف قريش ‏.‏ قال زيد بن ثابت‏ :‏ بعثني رسول الله(صلى الله عليه وسلم) يوم أحد أطلب سعد بن الربيع ‏.‏ فقال لي ‏:‏ ‏( ‏إن رأيته فأقرئه مني السلام ، وقل له ‏:‏ يقول لك رسول الله(صلى الله عليه وسلم) :‏ كيف تجدك ‏؟ ‏‏)‏ قال ‏:‏ فجعلت أطوف بين القتلى ، فأتيته وهو بآخر رمق ، فيه سبعون ضربة ، ما بين طعنة برمح ، وضربة بسيف ، ورمية بسهم ، فقلت ‏:‏ يا سعد ، إن رسول الله يقرأ عليك السلام ، ويقول لك ‏:‏ أخبرني كيف تجدك ‏؟‏ فقال ‏:‏ وعلى رسول الله(صلى الله عليه وسلم) السلام ، قل له : يا رسول الله ، أجد ريح الجنة ، وقل لقومي الأنصار ‏:‏ لا عذر لكم عند الله إن خلص إلى رسول الله(صلى الله عليه وسلم) وفيكم عين تطرف ، وفاضت نفسه من وقته ‏.‏
ووجدوا في الجرحى الأُصَيرِِم ـ عمرو بن ثابت ـ وبه رمق يسير ، وكانوا من قبل يعرضون عليه الإسلام فيأباه ، فقالوا‏ :‏ إن هذا الأصيرم ما جاء به ‏؟‏ لقد تركناه وإنه لمنكر لهذا الأمر ، ثم سألوه ‏:‏ ما الذي جاء بك ، أحَدَبٌ على قومك ، أم رغبة في الإسلام‏ ؟‏ فقال ‏:‏ بل رغبة في الإسلام ، آمنت بالله ورسوله ، ثم قاتلت مع رسول الله(صلى الله عليه وسلم) حتى أصابني ما ترون ، ومات من وقته ، فذكروه لرسول الله(صلى الله عليه وسلم) ، فقال‏ :‏ ‏(‏ هو من أهل الجنة ‏) ‏‏.‏ قال أبو هريرة‏ :‏ ولم يُصَلِّ لله صلاة قط ‏.‏
ووجدوا في الجرحى قُزْمَان ـ وكان قد قاتل قتال الأبطال ، قتل وحده سبعة أو ثمانية من المشركين ـ وجدوه قد أثبتته الجراحة ، فاحتملوه إلى دار بني ظَفَر ، وبشره المسلمون فقال ‏:‏ والله إن قاتلت إلا عن أحساب قومي ، ولولا ذلك ما قاتلت ، فلما اشتد به الجراح نحر نفسه ‏.‏ وكان رسول الله(صلى الله عليه وسلم) يقول ـ إذا ذكر له ‏:‏ ‏( ‏إنه من أهل النار ‏)‏ ـ وهذا هو مصير المقاتلين في سبيل الوطنية أو في أي سبيل سوي إعلاء كلمة الله ، وإن قاتلوا تحت لواء الإسلام ، بل وفي جيش الرسول والصحابة‏.
وعلى عكس من هذا كان في القتلى رجل من يهود بني ثعلبة ، قال لقومه ‏:‏ يا معشر يهود ، والله لقد علمتم أن نصر محمد عليكم حق ‏. ‏قالوا ‏: ‏إن اليوم يوم السبت‏ .‏ قال ‏:‏لا سبت لكم ‏. ‏فأخذ سيفه وعدته ، وقال‏:‏ إن أصبت فمالي لمحمد ‏.‏ يصنع فيه ما شاء ، ثم غدا فقاتل حتى قتل ‏. ‏فقال رسول الله(صلى الله عليه وسلم) :‏ ‏( ‏مُخَيرِيق خير يهود‏ ) ‏‏.
جمع الشهداء ودفنهم

وأشرف رسول الله(صلى الله عليه وسلم) على الشهداء فقال ‏:‏ ‏" ‏أنا شهيد على هؤلاء ، إنه ما من جريح يُجْرَح في الله إلا والله يبعثه يوم القيامة ، يَدْمَي جُرْحُه ، اللون لون الدم ، والريح ريح المِسْك‏ "‏ ‏.‏
وكان أناس من الصحابة قد نقلوا قتلاهم إلى المدينة فأمر أن يردوهم ، فيدفنوهم في مضاجعهم وألا يغسلوا ، وأن يدفنوا كما هم بثيابهم بعد نزع الحديد والجلود ‏.‏ وكان يدفن الاثنين والثلاثة في القبر الواحد ، ويجمع بين الرجلين في ثوب واحد ، ويقول ‏:‏ ‏" ‏أيهم أكثر أَخْذًا للقرآن‏ ؟ "‏ فإذا أشاروا إلى الرجل قدمه في اللحد ، وقال ‏:‏ "‏أنا شهيد على هؤلاء يوم القيامة ‏"‏ ‏.‏
ودفن عبد الله بن عمرو بن حرام وعمرو بن الجموح في قبر واحد لما كان بينهما من المحبة ‏.‏
وفقدوا نعش حنظلة ، فتفقدوه فوجدوه في ناحية فوق الأرض يقطر منه الماء ، فأخبر رسول الله(صلى الله عليه وسلم) أصحابه أن الملائكة تغسله ، ثم قال‏ :‏ ‏( ‏سلوا أهله ما شأنه ‏؟ ‏‏)‏ فسألوا امرأته ، فأخبرتهم الخبر‏ . ‏ومن هنا سمي حنظلة ‏:‏ غسيل الملائكة.
ولما رأى ما بحمزة ـ عمه وأخيه من الرضاعة ـ اشتد حزنه ، وجاءت عمته صفية تريد أن تنظر أخاها حمزة ، فأمر رسول الله(صلى الله عليه وسلم) ابنها الزبير أن يصرفها ، لا ترى ما بأخيها ، فقالت‏‏ ولم ‏؟‏ وقد بلغني أن قد مُثِّلَ بأخي ، وذلك في الله ، فما أرضانا بما كان من ذلك ، لأحتسبن ولأصبرن إن شاء الله ، فأتته فنظرت إليه ، فصلت عليه ـ دعت له ـ واسترجعت واستغفرت له ‏.‏ ثم أمر رسول الله(صلى الله عليه وسلم) بدفنه مع عبد الله بن جحش ـ وكان ابن أخته ، وأخاه من الرضاعة‏ .‏
قال ابن مسعود ‏:‏ ما رأينا رسول الله(صلى الله عليه وسلم) باكياً قط أشد من بكائه على حمزة بن عبد المطلب ‏. ‏وضعه في القبلة ، ثم وقف على جنازته وانتحب حتى نَشَع من البكاء ـ والنشع ‏:‏ الشهيق ‏.‏
وكان منظر الشهداء مريعاً جداً يفتت الأكباد ‏.‏ قال خباب‏ :‏ إن حمزة لم يوجد له كفن إلا بردة مَلْحَاء ، إذا جعلت على رأسه قَلَصَت عن قدميه ، وإذا جعلت على قدميه قلصت عن رأسه ، حتى مدت على رأسه ، وجعل على قدميه الإِذْخَر ‏.‏
وقال عبد الرحمن بن عوف‏ :‏ قتل مصعب بن عمير وهو خير مني ، كفن في بردة إن غطي رأسه بدت رجلاه ، وإن غطي رجلاه بدا رأسه ، وروي مثل ذلك عن خباب ، وفيه‏ :‏ فقال لنا النبي(صلى الله عليه وسلم) ‏:‏ "‏غطوا بها رأسه ، واجعلوا على رجليه الإذخر "‏‏.‏
الرسول(صلى الله عليه وسلم) يثني على ربه عز وجل ويدعوه

روى الإمام أحمد ‏:‏ لما كان يوم أحد وانكفأ المشركون ، قال رسول الله(صلى الله عليه وسلم) ‏:‏ ‏" ‏استووا حتى أثني على ربي عز وجل ‏"‏ ، فصاروا خلفه صفوفاً ، فقال ‏:‏
‏" ‏اللهم لك الحمد كله ، اللهم لا قابض لما بسطت ، ولا باسط لما قبضت ، ولا هادي لمن أضللت ، ولا مضل لمن هديت ، ولا معطي لما منعت ، ولا مانع لما أعطيت ، ولا مقرب لما باعدت ، ولا مبعد لما قربت ‏.‏ اللهم ابسط علينا من بركاتك ورحمتك وفضلك ورزقك ‏‏.‏
‏اللهم إني أسألك النعيم المقيم ، الذي لا يحُول ولا يزول ‏.‏ اللهم إني أسألك العون يوم العيلة ، والأمن يوم الخوف ‏.‏ اللهم إني عائذ بك من شر ما أعطيتنا وشر ما منعتنا ‏.‏ اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا ، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان ، واجعلنا من الراشدين ‏.‏ اللهم توفنا مسلمين ، وأحينا مسلمين ، وألحقنا بالصالحين ، غير خزايا ولا مفتونين‏ .‏ اللّهم قاتل الكفرة الذين يكذبون رسلك ، ويصدون عن سبيلك ، واجعل عليهم رجزك وعذابك ‏.‏ اللهم قاتل الكفرة الذين أوتوا الكتاب ، إله الحق "‏‏.‏

الرجوع إلى المدينة ونوادر الحب والتفاني

ولما فرغ رسول الله من دفن الشهداء والثناء على الله والتضرع إليه ، انصرف راجعاً إلى المدينة ، وقد ظهرت له نوادر الحب والتفاني من المؤمنات الصادقات ، كما ظهرت من المؤمنين في أثناء المعركة ‏.‏
لقيته في الطريق حَمْنَة بنت جحش ، فَنُعِي إليها أخوها عبد الله بن جحش فاسترجعت واستغفرت له ، ثم نعي لها خالها حمزة بن عبد المطلب ، فاسترجعت واستغفرت ، ثم نعي لها زوجها مصعب بن عمير ، فصاحت وولوت ، فقال رسول الله(صلى الله عليه وسلم) ‏:‏ "‏إن زوج المرأة منها لبِمَكان "‏ ‏.‏
ومر بامرأة من بني دينار ، وقد أصيب زوجها وأخوها وأبوها بأحد ، فلما نعوا لها قالت ‏:‏ فما فعل رسول الله(صلى الله عليه وسلم) ‏؟‏ قالوا‏ :‏ خيراً يا أم فلان ، هو بحمد الله كما تحبين ، قالت ‏:‏ أرونيه حتى أنظر إليه ، فأشير إليها حتى إذا رأته قالت ‏:‏ كل مصيبة بعدك جَلَلٌ ـ تريد صغيرة ‏.‏
وجاءت إليه أم سعد بن معاذ تعدو ، وسعد آخذ بلجام فرسه ، فقال ‏:‏ يا رسول الله ، أمي ، فقال ‏:‏ "‏مرحباً بها "‏، ووقف لها ، فلما دنت عزاها بابنها عمرو بن معاذ ‏.‏ فقالت ‏:‏ أما إذ رأيتك سالماً فقد اشتويت المصيبة ـ أي استقللتها ـ ثم دعا لأهل من قتل بأحد ، وقال ‏:‏ ‏" ‏يا أم سعد ، أبشري وبشري أهلهم أن قتلاهم ترافقوا في الجنة جميعاً ، وقد شفعوا في أهلهم جميعاً‏ "‏‏.‏ قالت ‏:‏ رضينا يا رسول الله ، ومن يبكي عليهم بعد هذا‏ ؟‏ ثم قالت ‏:‏ يا رسول الله ، ادع لمن خلفوا منهم ، فقال ‏:‏ ‏" ‏اللّهم أذهب حزن قلوبهم ، واجبر مصيبتهم ، وأحسن الخَلفَ على من خُلِّفُوا‏ "‏ ‏.‏
الرسول(صلى الله عليه وسلم) في المدينة

وانتهى رسول الله(صلى الله عليه وسلم) مساء ذلك اليوم ـ يوم السبت السابع من شهر شوال سنة 3هـ ـ إلى المدينة‏ .‏
فلما انتهى إلى أهله ناول سيفه ابنته فاطمة ، فقال ‏:‏ ‏( ‏اغسلي عن هذا دمه يا بنية ، فو الله لقد صدقني اليوم ‏)‏، وناولها على بن أبي طالب سيفه ، فقال ‏:‏ وهذا أيضاً فاغسلي عنه دمه ، فو الله لقد صدقني اليوم ، فقال رسول الله(صلى الله عليه وسلم) ‏:‏ ‏" ‏لئن كنت صدقت القتال ، لقد صدق معك سهل بن حُنَيف وأبو دُجَانة‏ "‏ ‏.‏
قتلى الفريقين

اتفقت جل الروايات على أن قتلى المسلمين كانوا سبعين ، وكانت الأغلبية الساحقة من الأنصار ، فقد قتل منهم خمسة وستون رجلاً ، واحد وأربعون من الخزرج ، وأربعة وعشرون من الأوس ، وقتل رجل من اليهود‏ .‏
وأما شهداء المهاجرين فكانوا أربعة فقط‏ .‏
وأما قتلى المشركين فقد ذكر ابن إسحاق أنهم اثنان وعشرون قتيلاً ، ولكن الإحصاء الدقيق ـ بعد تعميق النظر في جميع تفاصيل المعركة التي ذكرها أهل المغازي والسير ، والتي تتضمن ذكر قتلى المشركين في مختلف مراحل القتال ـ يفيد أن عدد قتلى المشركين سبعة وثلاثون ، لا اثنان وعشرون ، والله أعلم ‏.
حالة الطوارئ في المدينة

بات المسلمون في المدينة ـ ليلة الأحد الثامن من شهر شوال سنة 3 هـ بعد الرجوع من معركة أحد ـ وهم في حالة الطوارئ ، باتوا ـ وقد أنهكهم التعب ، ونال منهم أي منال ـ يحرسون أنقاب المدينة ومداخلها ، ويحرسون قائدهم الأعلى رسول الله(صلى الله عليه وسلم) خاصة ، إذ كانت تتلاحقهم الشبهات من كل جانب‏ .‏


غزوة حمراء الأسد



وبات الرسول(صلى الله عليه وسلم) وهو يفكر في الموقف ، فقد كان يخاف أن المشركين إن فكروا في أنهم لم يستفيدوا شيئاً من النصر والغلبة التي كسبوها في ساحة القتال ، فلا بد من أن يندموا على ذلك ، ويرجعوا من الطريق لغزو المدينة مرة ثانية ، فصمم على أن يقوم بعملية مطاردة الجيش المكي ‏.‏
قال أهل المغازي ما حاصله ‏:‏ إن النبي(صلى الله عليه وسلم) نادى في الناس ، وندبهم إلى المسير إلى لقاء العدو ـ وذلك صباح الغد من معركة أحد ، أي يوم الأحد الثامن من شهر شوال سنة 3 هـ ـ وقال ‏:‏ ‏( ‏لا يخرج معنا إلا من شهد القتال ‏) ‏، فقال له عبد الله بن أبي‏ :‏ أركب معك ‏؟‏ قال ‏:‏ ‏( ‏لا ‏) ‏، واستجاب له المسلمون على ما بهم من الجرح الشديد ، والخوف المزيد ، وقالوا‏ :‏ سمعاً وطاعة ‏.‏ واستأذنه جابر بن عبد الله ، وقال ‏:‏ يا رسول الله ، إني أحب ألا تشهد مشهداً إلا كنت معك ، وإنما خلفني أبي على بناته فأذن لي أسير معك ، فأذن له ‏.‏
وسار رسول الله(صلى الله عليه وسلم) والمسلمون معه حتى بلغوا حمراء الأسد ، على بعد ثمانية أميال من المدينة ، فعسكروا هناك ‏.‏
وهناك أقبل مَعْبَد بن أبي معبد الخزاعي إلى رسول الله(صلى الله عليه وسلم) فأسلم ـ ويقال‏ :‏ بل كان على شركه ، ولكنه كان ناصحاً لرسول الله (صلى الله عليه وسلم)لما كان بين خزاعة وبني هاشم من الحلف ـ فقال ‏:‏ يا محمد ، أما والله لقد عز علينا ما أصابك في أصحابك ، ولوددنا أن الله عافاك ‏.‏ فأمره رسول الله(صلى الله عليه وسلم) أن يلحق أبا سفيان فَيُخَذِّلَه ‏.‏
ولم يكن ما خافه رسول الله(صلى الله عليه وسلم) من تفكير المشركين في العودة إلى المدينة إلا حقاً ، فإنهم لما نزلوا بالروحاء على بعد ستة وثلاثين ميلاً من المدينة تلاوموا فيما بينهم ، قال بعضهم لبعض ‏: ‏لم تصنعوا شيئاً ، أصبتم شوكتهم وحدهم ، ثم تركتموهم ، وقد بقي منهم رؤوس يجمعون لكم ، فارجعوا حتى نستأصل شأفتهم ‏.‏
ويبدو أن هذا الرأي جاء سطحياً ممن لم يكن يقدر قوة الفريقين ومعنوياتهم تقديراً صحيحاً ، ولذلك خالفهم زعيم مسئول ‏[‏ صفوان بن أمية ‏]‏ قائلاً‏ :‏ يا قوم ، لا تفعلوا فإني أخاف أن يجمع عليكم من تخلف من الخروج ـ أي من المسلمين في غزوة أحد ـ فارجعوا والدولة لكم ، فإني لا آمن إن رجعتم أن تكون الدولة عليكم ‏.‏ إلا أن هذا الرأي رفض أمام رأي الأغلبية الساحقة ، وأجمع جيش مكة على المسير نحو المدينة ،‏ ولكن قبل أن يتحرك أبو سفيان بجيشه من مقره لحقه معبد بن أبي معبد الخزاعي ولم يكن يعرف أبو سفيان بإسلامه ، فقال ‏:‏ ما وراءك يا معبد ‏؟‏ فقال معبد ـ وقد شن عليه حرب أعصاب دعائية عنيفة‏ :‏ محمد قد خرج في أصحابه ، يطلبكم في جمع لم أر مثله قط ، يتحرقون عليكم تحرقاً ، قد اجتمع معه من كان تخلف عنه في يومكم ، وندموا على ما ضيعوا ، فيهم من الحنق عليكم شيء لم أر مثله قط ‏.‏
قال أبو سفيان‏ :‏ ويحك ، ما تقول ‏؟‏
قال ‏:‏ والله ما أرى أن ترتحل حتى ترى نواصي الخيل ـ أو ـ حتى يطلع أول الجيش من وراء هذه الأكمة‏ .‏
فقال أبو سفيان‏ :‏ والله لقد أجمعنا الكرة عليهم لنستأصلهم‏ .‏
قال ‏:‏ فلا تفعل ، فإني ناصح‏ .‏
وحينئذ انهارت عزائم الجيش المكي وأخذه الفزع والرعب ، فلم ير العافية إلا في مواصلة الانسحاب والرجوع إلى مكة ، بيد أن أبا سفيان قام بحرب أعصاب دعائية ضد الجيش الإسلامي ، لعله ينجح في كف هذا الجيش عن مواصلة المطاردة ، وطبعاً فهو ينجح في تجنب لقائه ‏.‏ فقد مر به ركب من عبد القيس يريد المدينة ، فقال ‏:‏ هل أنتم مبلغون عني محمداً رسالة ، وأوقر لكم راحلتكم هذه زبيبًا بعكاظ إذا أتيتم إلى مكة ‏؟‏
قالوا‏ :‏ نعم ‏.‏
قال‏ :‏ فأبلغوا محمداً أنا قد أجمعنا الكرة ، لنستأصله ونستأصل أصحابه‏ .‏
فمر الركب برسول الله(صلى الله عليه وسلم) وأصحابه ، وهم بحمراء الأسد ، فأخبرهم بالذي قال له أبو سفيان ، وقالوا‏ :‏ ‏" إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ‏ "‏ ـ أي زاد المسلمين قولهم ذلك ـ ‏" ‏إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُواْ رِضْوَانَ اللّهِ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ‏ "‏‏[‏آل عمران‏:‏ 173، 174‏]‏‏ .‏
أقام رسول الله(صلى الله عليه وسلم) بحمراء الأسد ـ بعد مقدمه يوم الأحد ـ الإثنين والثلاثاء والأربعاء ـ 9، 10، 11 شوال سنة 3 هـ ـ ثم رجع إلى المدينة ، وأخذ رسول الله(صلى الله عليه وسلم) قبل الرجوع إلى المدينة أبا عَزَّة الجمحي ـ وهو الذي كان قد منّ عليه من أسارى بدر ، لفقره وكثرة بناته ، على ألا يظاهر عليه أحداً ، ولكنه نكث وغدر فحرض الناس بشعره على النبي(صلى الله عليه وسلم) والمسلمين ، كما أسلفنا ، وخرج لمقاتلتهم في أحد ـ فلما أخذه رسول الله(صلى الله عليه وسلم) قال ‏:‏ يا محمد أقلني ، وامنن علي ، ودعني لبناتي ، وأعطيك عهداً ألا أعود لمثل ما فعلت ، فقال صلى الله عليه وسلم ‏:‏ ‏" ‏لا تمسح عارضيك بمكة بعدها وتقول‏:‏ خدعت محمداً مرتين، لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين ‏" ‏، ثم أمر الزبير أو عاصم بن ثابت فضرب عنقه ‏.‏
كما حكم بالإعدام في جاسوس من جواسيس مكة ، وهو معاوية بن المغيرة بن أبي العاص جد عبد الملك بن مروان لأمه ، وذلك أنه لما رجع المشركون يوم أحد جاء معاوية هذا إلى ابن عمه عثمان بن عفان رضي الله عنه فاستأمن له عثمان رسول الله(صلى الله عليه وسلم) ، فأمنه على أنه إن وجد بعد ثلاث قتله‏ .‏ فلما خلت المدينة من الجيش الإسلامي أقام فيها أكثر من ثلاث يتجسس لحساب قريش ، فلما رجع الجيش خرج معاوية هارباً ، فأمر رسول الله(صلى الله عليه وسلم) زيد بن حارثة وعمار بن ياسر ، فتعقباه حتى قتلاه ‏.‏
ومما لا شك فيه أن غزوة حمراء الأسد ليست بغزوة مستقلة ، وإنما هي جزء من غزوة أحد ، وتتمة لها وصفحة من صفحاتها ‏.‏
تلك هي غزوة أحد بجميع مراحلها وتفاصيلها ، وطالما بحث الباحثون حول مصير هذه الغزوة ، هل كانت هزيمة أم لا‏ ؟‏ والذي لا يشك فيه أن التفوق العسكري في الصفحة الثانية من القتال كان للمشركين ، وأنهم كانوا مسيطرين على ساحة القتال ، وأن خسارة الأرواح والنفوس كانت في جانب المسلمين أكثر وأفدح ، وأن طائفة من المؤمنين انهزمت قطعاً ، وأن دفة القتال جرت لصالح الجيش المكي ، لكن هناك أمور تمنعنا أن نعبر عن كل ذلك بالنصر والفتح‏ .‏
فمما لا شك فيه أن الجيش المكي لم يستطع احتلال معسكر المسلمين ، وأن المقدار الكبير من الجيش المدني لم يلتجئ إلى الفرار ـ مع الارتباك الشديد والفوضي العامة ـ بل قاوم بالبسالة حتى تجمع حول مقر قيادته ، وأن كفته لم تسقط إلى حد أن يطارده الجيش المكي ، وأن أحداً من جيش المدينة لم يقع في أسر الكفار ، وأن الكفار لم يحصلوا على شيء من غنائم المسلمين ، وأن الكفار لم يقوموا إلى الصفحة الثالثة من القتال مع أن جيش المسلمين لم يزل في معسكره ، وأنهم لم يقيموا بساحة القتال يوماً أو يومين أو ثلاثة أيام ـ كما هو دأب الفاتحين في ذلك الزمان ـ بل سارعوا إلى الانسحاب وترك ساحة القتال قبل أن يتركها المسلمون ، ولم يجترئوا على الدخول في المدينة لنهب الذراري والأموال ، مع أنها على بعد عدة خطوات فحسب ، وكانت مفتوحة وخالية تماماً‏ .‏
كل ذلك يؤكد لنا أن ما حصل لقريش لم يكن أكثر من أنهم وجدوا فرصة نجحوا فيها بإلحاق الخسائر الفادحة بالمسلمين ، مع الفشل فيما كانوا يهدفون إليه من إبادة الجيش الإسلامي بعد عمل التطويق ـ وكثيراً ما يلقي الفاتحون بمثل هذه الخسائر التي نالها المسلمون ـ أما أن ذلك كان نصراً وفتحاً فكلا وحاشا ‏.‏
بل يؤكد لنا تعجيل أبي سفيان في الانسحاب والانصراف أنه كان يخاف على جيشه المعرة والهزيمة لو جرت صفحة ثالثة من القتال ، ويزداد ذلك تأكداً حين ننظر إلى موقف أبي سفيان من غزوة حمراء الأسد ‏.‏
وإذن فهذه الغزوة إنما كانت حرباً غير منفصلة ، أخذ كل فريق بقسطه ونصيبه من النجاح والخسارة ، ثم حاد كل منها عن القتال من غير أن يفر عن ساحة القتال ويترك مقره لاحتلال العدو ، وهذا هو معني الحرب غير المنفصلة ‏.‏
وإلى هذا يشير قوله تعإلى‏:‏ ‏" ‏وَلاَ تَهِنُواْ فِي ابْتِغَاء الْقَوْمِ إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ‏ "‏ ‏[‏النساء‏:‏ 104‏]‏، فقد شبه أحد العسكرين بالآخر في التألم وإيقاع الألم ، مما يفيد أن الموقفين كانا متماثلين ، وأن الفريقين رجعا وكل غير غالب ‏.‏
القرآن يتحدث حول موضوع المعركة

ونزل القرآن يلقي ضوءاً على جميع المراحل المهمة من هذه المعركة مرحلة مرحلة ، وصرح بالأسباب التي أدت إلى هذه الخسارة الفادحة ، وأبدى النواحي الضعيفة التي لم تزل موجودة في طوائف أهل الإيمان بالنسبة إلى واجبهم في مثل هذه المواقف الحاسمة ، وبالنسبة إلى الأهداف النبيلة السامية التي أنشئت للحصول عليها هذه الأمة ، والتي تمتاز عن غيرها بكونها خير أمة أخرجت للناس ‏.‏
كما تحدث القرآن عن موقف المنافقين ، ففضحهم وأبدي ما كان في باطنهم من العداوة لله ولرسوله ، مع إزالة الشبهات والوساوس التي كانت تختلج في قلوب ضعفاء المسلمين ، والتي كان يثيرها هؤلاء المنافقون وإخوانهم اليهود ـ أصحاب الدس والمؤامرة ـ وقد أشار إلى الحكم والغايات المحمودة التي تمخضت عنها هذه المعركة ‏.‏
نزلت حول موضوع المعركة ستون آية من سورة آل عمران تبتدئ بذكر أول مرحلة من مراحل المعركة ‏:‏ ‏" ‏وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّىءُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ‏ "‏ ‏[‏ آل عمران‏:‏ 121 ‏]‏ ، وتترك في نهايتها تعليقاً جامعاً على نتائج هذه المعركة وحكمتها ، قال تعالى ‏:‏ ‏" ‏مَّا كَانَ اللّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىَ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللّهَ يَجْتَبِي مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَاء فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَإِن تُؤْمِنُواْ وَتَتَّقُواْ فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ‏ "‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 179‏] ‏‏.‏
الحكم والغايات المحمودة في هذه الغزوة

قد بسط ابن القيم الكلام على هذا الموضوع بسطاً تاماً ‏.‏
وقال ابن حجر ‏:‏ قال العلماء ‏:‏ وكان في قصة أحد وما أصيب به المسلمون فيها من الفوائد والحكم الربانية أشياء عظيمة ، منها تعريف المسلمين سوء عاقبة المعصية ، وشؤم ارتكاب النهي ، لما وقع من ترك الرماة موقفهم الذي أمرهم الرسول(صلى الله عليه وسلم) ألا يبرحوا منه ‏.‏
ومنها أن عادة الرسل أن تبتلي وتكون لها العاقبة ، والحكمة في ذلك أنهم لو انتصروا دائماً دخل في المؤمنين من ليس منهم ، ولم يتميز الصادق من غيره ، ولو انكسروا دائماً لم يحصل المقصود من البعثة ، فاقتضت الحكمة الجمع بين الأمرين لتمييز الصادق من الكاذب ، وذلك أن نفاق المنافقين كان مخفياً عن المسلمين ، فلما جرت هذه القصة ، وأظهر أهل النفاق ما أظهروه من الفعل والقول عاد التلويح تصريحاً ، وعرف المسلمون أن لهم عدواً في دورهم ، فاستعدوا لهم وتحرزوا منهم ‏.‏
ومنها أن في تأخير النصر في بعض المواطن هضـماً للنفس ، وكسراً لشـماختها ، فلما ابتلي المؤمنـون صـبروا ، وجـزع المنافقون ‏.‏
ومنها أن الله هيأ لعباده المؤمنين منازل فى دار كرامته لا تبلغها أعمالهم ، فقيض لهم أسباب الابتلاء والمحن ليصلوا إليها‏ .‏
ومنها أن الشهادة من أعلى مراتب الأولياء فساقها إليهم ‏.‏
ومنها أنه أراد إهلاك أعدائه ، فقيض لهم الأسباب التى يستوجبون بها ذلك من كفرهم وبغيهم وطغيانهم في أذى أوليائه ، فمحص بذلك ذنوب المؤمنين ، ومحق بذلك الكافرين ‏.‏
العتمه غير متواجد حالياً  
قديم 22-02-2008, 10:35 AM   #28
العتمه
 
الصورة الرمزية العتمه
 







 
العتمه is on a distinguished road
افتراضي رد : تعرف على حبيبك




عاد الأمن والسلام ، وهدأت الجزيرة العربية بعد الحروب والبعوث التي استغرقت أكثر من سنة كاملة ، إلا أن اليهود ـ الذين كانوا قد ذاقوا ألواناً من الذلة والهوان نتيجة غدرهم وخيانتهم ومؤامراتهم ودسائسهم ـ لم يفيقوا من غيهم ، ولم يستكينوا ، ولم يتعظوا بما أصابهم من نتيجة الغدر والتآمر ‏.‏ فهم بعد نفيهم إلى خيبر ظلوا ينتظرون ما يحل بالمسلمين من خلال المناوشات التي كانت قائمة بين المسلمين والوثنيين ، ولما تحول مجرى الأيام لصالح المسلمين ، وتمخضت الليالي والأيام عن بسط نفوذهم ، وتوطد سلطانهم ـ تحرق هؤلاء اليهود أي تحرق ‏.‏
وشرعوا في التآمر من جديد على المسلمين ، وأخذوا يعدون العدة ، لتصويب ضربة إلى المسلمين تكون قاتلة لا حياة بعدها ‏.‏ ولما لم يكونوا يجدون في أنفسهم جرأة على قتال المسلمين مباشرة ، خططوا لهذا الغرض خطة رهيبة ‏.‏
خرج عشرون رجلاً من زعماء اليهود وسادات بني النضير إلى قريش بمكة ، يحرضونهم على غزو الرسول(صلى الله عليه وسلم) ، ويوالونهم عليه ، ووعدوهم من أنفسهم بالنصر لهم ، فأجابتهم قريش ، وكانت قريش قد أخلفت موعدها في الخروج إلى بدر ، فرأت في ذلك إنقاذا لسمعتها والبر بكلمتها‏ .‏
ثم خرج هذا الوفد إلى غَطَفَان ، فدعاهم إلى ما دعا إليه قريشاً فاستجابوا لذلك ، ثم طاف الوفد في قبائل العرب يدعوهم إلى ذلك فاستجاب له من استجاب ، وهكذا نجح ساسة اليهود وقادتهم في تأليب أحزاب الكفر على النبي(صلى الله عليه وسلم) والمسلمين ‏.‏
وعلى إثر ذلك خرجت من الجنوب قريش وكنانة وحلفاؤهم من أهل تهامة ـ وقائدهم أبو سفيان ـ في أربعة آلاف ، ووافاهم بنو سليم بمَرِّ الظَّهْرَان ، وخرجت من الشرق قبائل غطفان‏ :‏ بنو فَزَارة ، يقودهم عُيينَة بن حِصْن ، وبنو مُرَّة، يقودهم الحارث بن عوف ، وبنو أشجع ، يقودهم مِسْعَر بن رُحَيلَةِ ، كما خرجت بنو أسد وغيرها ‏.‏
واتجهت هذه الأحزاب وتحركت نحو المدينة على ميعاد كانت قد تعاقدت عليه ‏.‏
وبعد أيام تجمع حول المدينة جيش عَرَمْرَم يبلغ عدده عشرة آلاف مقاتل ، جيش ربما يزيد عدده على جميع من في المدينة من النساء والصبيان والشباب والشيوخ ‏.‏
ولو بلغت هذه الأحزاب والمحزبة والجنود المجندة إلى أسوار المدينة بغتة لكانت أعظم خطراً على كيان المسلمين مما يقاس ، وربما تبلغ إلى استئصال الشأفة وإبادة الخضراء ، ولكن قيادة المدينة كانت قيادة متيقظة ، لم تزل واضعة أناملها على العروق النابضة ، تتجسس الظروف ، وتقدر ما يتمخض عن مجراها ، فلم تكد تتحرك هذه الجيوش عن مواضعها حتى نقلت استخبارات المدينة إلى قيادتها فيها بهذا الزحف الخطير ‏.‏
وسارع رسول الله(صلى الله عليه وسلم) إلى عقد مجلس استشاري أعلى ، تناول فيه موضوع خطة الدفاع عن كيان المدينة ، وبعد مناقشات جرت بين القادة وأهل الشورى اتفقوا على قرار قدمه الصحابي النبيل سلمان الفارسي رضي الله عنه ‏.‏ قال سلمان ‏:‏ يا رسول الله ، إنا كنا بأرض فارس إذا حوصرنا خَنْدَقْنَا علينا ‏.‏ وكانت خطة حكيمة لم تكن تعرفها العرب قبل ذلك‏ .‏
وأسرع رسول الله(صلى الله عليه وسلم) إلى تنفيذ هذه الحظة ، فوكل إلى كل عشرة رجال أن يحفروا من الخندق أربعين ذراعاً ، وقام المسلمون بجد ونشاط يحفرون الخندق ، ورسول الله(صلى الله عليه وسلم) يحثهم ويساهمهم في عملهم هذا ‏.‏ ففي البخاري عن سهل بن سعد ، قال ‏:‏ كنا مع رسول الله في الخندق ، وهم يحفرون ، ونحن ننقل التراب على أكتادنا ، فقال رسول الله(صلى الله عليه وسلم) " :‏ ‏اللهم لا عَيشَ إلا عيشُ الآخرة ، فاغفر للمهاجرين والأنصار‏ "‏ ‏.‏
وعن أنس‏ :‏ خرج رسول الله(صلى الله عليه وسلم) إلى الخندق فإذا المهاجرين والأنصار يحفرون في غداة باردة ، فلم يكن لهم عبيد يعملون ذلك لهم ، فلما رأى ما بهم من النصب والجوع قال‏ :‏
اللهم إن العيش عيش الآخرة فاغفـر للأنصـار والمهـاجرة
فقالوا مجيبين له ‏:‏
نحـن الذيـن بايعـوا محمـداً على الجهـاد ما بقيـنا أبداً
وفيه عن البراء بن عازب قال ‏:‏ رأيته(صلى الله عليه وسلم) ينقل من تراب الخندق حتى وارى عني الغبار جلدة بطنه ، وكان كثير الشعر ، فسمعته يرتجز بكلمات ابن رواحة ، وهو ينقل من التراب ويقول‏:
اللهم لولا أنت ما اهتدينا
فأنزلن سكينـة علينـا
إن الألى بغـوا علينـا ولا تصـدقنـا ولا صلينــا
وثبت الأقـدام إن لاقينـــا
وإن أرادوا فتـنـة أبينـــا
قال ‏:‏ ثم يمد بها صوته بآخرها ، وفي رواية ‏:‏
إن الألى قـد بغـوا علينـا وإن أرادوا فـتنـة أبينـا
كان المسلمون يعملون بهذا النشاط وهم يقاسون من شدة الجوع ما يفتت الأكباد ، قال أنس ‏:‏ كان أهل الخندق يؤتون بملء كفي من الشعير ، فيصنع لهم بإهَالَةٍ سنخة توضع بين يدي القوم ، والقوم جياع ، وهي بشعة في الحلق ولها ريح ‏.‏
وقال أبو طلحة ‏:‏ شكونا إلى رسول الله(صلى الله عليه وسلم) الجوع ، فرفعنا عن بطوننا عن حجر حجر ، فرفع رسول الله(صلى الله عليه وسلم) عن حجرين ‏.‏
وبهذه المناسبة وقعت أثناء حفر الخندق آيات من أعلام النبوة ، رأى جابر بن عبد الله في النبي(صلى الله عليه وسلم) خمصاً شديدًا فذبح بهيمة ، وطحنت امرأته صاعاً من شعير ، ثم التمس من رسول الله(صلى الله عليه وسلم) سراً أن يأتي في نفر من أصحابه ، فقام النبي(صلى الله عليه وسلم) بجميع أهل الخندق ، وهم ألف ، فأكلوا من ذلك الطعام وشبعوا ، وبقيت بُرْمَة اللحم تغط به كما هي ، وبقي العجين يخبز كما هو ‏.‏
وجاءت أخت النعمان بن بشير بحَفْنَة من تمر إلى الخندق ليتغدى به أبوه وخاله ، فمرت برسول الله(صلى الله عليه وسلم) ، فطلب منها التمر ، وبدده فوق ثوب ، ثم دعا أهل الخندق ، فجعلوا يأكلون منه وجعل التمر يزيد ، حتى صدر أهل الخندق عنه ، وإنه يسقط من أطراف الثواب ‏.‏
وأعظم من هذين ما رواه البخاري عن جابر قال‏ :‏ إنا يوم خندق نحفر ، فعرضت كُدْية شديدة ، فجاءوا النبي(صلى الله عليه وسلم) فقالوا‏ :‏ هذه كدية عرضت في الخندق‏ .‏ فقال ‏:‏ ‏( ‏أنا نازل‏ ) ‏، ثم قام وبطنه معصوب بحجر ـ ولبثنا ثلاثة لا نذوق ذواقاً ـ فأخذ النبي(صلى الله عليه وسلم) المِعْوَل ، فضرب فعاد كثيباً أهْيل أو أهْيم ، أي صار رملاً لا يتماسك‏ .‏
وقال البراء ‏:‏ لما كان يوم الخندق عرضت لنا في بعض الخندق صخرة لا تأخذ منها المعاول ، فاشتكينا ذلك لرسول الله(صلى الله عليه وسلم) ، فجاءة وأخذ المعول فقال ‏:‏ ‏" ‏بسم الله ‏"‏ ، ثم ضرب ضربة ، وقال ‏:‏ ‏" ‏الله أكبر ، أعطيت مفاتيح الشام ، والله إني لأنظر قصورها الحمر الساعة‏ "‏، ثم ضرب الثانية فقطع آخر ، فقال :‏ ‏" ‏الله أكبر ، أعطيت فارس ، والله إني لأبصر قصر المدائن الأبيض الآن ‏" ‏، ثم ضرب الثالثة ، فقال ‏:‏ ‏" بسم الله "‏ ، فقطع بقية الحجر ، فقال‏ :‏ "‏الله أكبر ، أعطيت مفاتيح اليمن ، والله إني لأبصر أبواب صنعاء من مكاني ‏" ‏‏.‏
وروى ابن إسحاق مثل ذلك عن سلمان الفارسي رضي الله عنه ‏.‏
ولما كانت المدينة تحيط بها الحرات والجبال وبساتين من النخيل من كل جانب سوي الشمال ، وكان النبي(صلى الله عليه وسلم) يعلم أن زحف مثل هذا الجيش الكبير ، ومهاجمته المدينة لا يمكن إلا من جهة الشمال ، اتخذ الخندق في هذا الجانب‏ .‏
وواصل المسلمون عملهم في حفره ، فكانوا يحفرونه طول النهار ، ويرجعون إلى أهليهم في المساء ، حتى تكامل الخندق حسب الخطة المنشودة ، قبل أن يصل الجيش الوثني العرمرم إلى أسوار المدينة ‏.‏
وأقبلت قريش في أربعة آلاف ، حتى نزلت بمجتمع الأسيال من رُومَة بين الجُرْف وزَغَابَة ، وأقبلت غَطَفَان ومن تبعهم من أهل نجد في ستة آلاف حتى نزلوا بذَنَبِ نَقْمَي إلى جانب أحد‏ .‏
‏" ‏وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا‏ "‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 22‏] ‏‏.‏
وأما المنافقون وضعفاء النفوس فقد تزعزعت قلوبهم لرؤية هذا الجيش "‏وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلا غُرُورًا‏ "‏‏[‏ الأحزاب‏:‏ 12‏] ‏‏.‏
وخرج رسول الله(صلى الله عليه وسلم) في ثلاثة آلاف من المسلمين ، فجعلوا ظهورهم إلى جبل سَلْع فتحصنوا به ، والخندق بينهم وبين الكفار‏ . ‏وكان شعارهم ‏:‏ ‏[ ‏حم لا ينصرون ‏] ‏، واستحلف على المدينة ابن أم مكتوم ، وأمر بالنساء والذراري فجعلوا في آطام المدينة‏ .‏
ولما أراد المشركون مهاجمة المسلمين واقتحام المدينة ، وجدوا خندقاً عريضاً يحول بينهم وبينها ، فالتجأوا إلى فرض الحصار على المسلمين ، بينما لم يكونوا مستعدين له حين خرجوا من ديارهم ، إذ كانت هذه الخطة ـ كما قالوا ـ مكيدة ما عرفتها العرب ، فلم يكونوا أدخلوها في حسابهم رأساً‏ .‏
وأخذ المشركون يدورون حول الخندق غضاباً ، يتحسسون نقطة ضعيفة ، لينحدروا منها ، وأخذ المسلمون يتطلعون إلى جولات المشركين ، يرشقونهم بالنبل ، حتى لا يجترئوا على الاقتراب منه ، ولا يستطيعوا أن يقتحموه ، أو يهيلوا عليه التراب ، ليبنوا به طريقاً يمكنهم من العبور‏ .‏
وكره فوارس من قريش أن يقفوا حول الخندق من غير جدوى في ترقب نتائج الحصار ، فإن ذلك لم يكن من شيمهم ، فخرجت منها جماعة فيها عمرو بن عبد وُدّ وعكرمة بن أبي جهل وضرار بن الخطاب وغيرهم ، فتيمموا مكاناً ضيقاً من الخندق فاقتحموه ، وجالت بهم خيلهم في السَّبْخة بين الخندق وسَلْع ، وخرج علي بن أبي طالب في نفر من المسلمين حتى أخذوا عليهم الثغرة التي أقحموا منها خيلهم ، ودعا عمرو إلى المبارزة ، فانتدب له علي بن أبي طالب ، وقال كلمة حمي لأجلها ـ وكان من شجعان المشركين وأبطالهم ـ فاقتحم عن فرسه فعقره وضرب وجهه ، ثم أقبل على علي ، فتجاولا وتصاولا حتى قتله علي رضي الله عنه ، وانهزم الباقون حتى اقتحموا الخندق هاربين ، وقد بلغ بهم الرعب إلى أن ترك عكرمة رمحه وهو منهزم عن عمرو ‏.‏
وقد حاول المشركون في بعض الأيام محاولة بليغة لاقتحام الخندق ، أو لبناء الطرق فيها ، ولكن المسلمين كافحوا مكافحة مجيدة ، ورشقوهم بالنبل ، وناضلوهم أشد النضال حتى فشل المشركون في محاولتهم ‏.‏
ولأجل الاشتغال بمثل هذه المكافحة الشديدة فات بعض الصلوات عن رسول الله(صلى الله عليه وسلم) والمسلمين ، ففي الصحيحين عن جابر رضي الله عنه ‏:‏ أن عمر بن الخطاب جاء يوم الخندق ، فجعل يسب كفار قريش ‏.‏ فقال‏ :‏ يا رسول الله(صلى الله عليه وسلم) ، ما كدت أن أصلي حتى كادت الشمس أن تغرب ، فقال النبي(صلى الله عليه وسلم) ‏:‏ ‏(‏ وأنا والله ما صليتها ‏) ‏، فنزلنا مع النبي(صلى الله عليه وسلم) بُطْحَان ، فتوضأ للصلاة ، وتوضأنا لها ، فصلى العصر بعد ما غربت الشمس ، ثم صلى بعدها المغرب ‏.‏
وقد استاء رسول الله(صلى الله عليه وسلم) لفوات هذه الصلاة حتى دعا على المشركين ، ففي البخاري عن على عن النبي(صلى الله عليه وسلم) أنه قال يوم الخندق ‏:‏ ‏" ‏ملأ الله عليهم بيوتهم وقبورهم ناراً ، كما شغلونا عن الصلاة الوسطى حتى غابت الشمس ‏" ‏‏.‏
وفي مسند أحمد والشافعي أنهم حبسوه عن صلاة الظهر والعصر والمغرب والعشاء فصلاهن جميعاً‏ .‏ قال النووي ‏:‏ وطريق الجمع بين هذه الروايات أن وقعة الخندق بقيت أياماً فكان هذا في بعض الأيام ، وهذا في بعضها ‏.‏ انتهى ‏.‏
ومن هنا يؤخذ أن محاولة العبور من المشركين ، والمكافحة المتواصلة من المسلمين ، دامت أياماً ، إلا أن الخندق لما كان حائلاً بين الجيشين لم يجر بينهما قتال مباشر أو حرب دامية ، بل اقتصروا على المراماة والمناضلة ‏.‏
وفي هذه المراماة قتل رجال من الجيشين ، يعدون على الأصابع‏ :‏ ستة من المسلمين ، وعشرة من المشركين ، بينما كان قتل واحد أو اثنين منهم بالسيف ‏.‏
وفي هذه المراماة رمي سعد بن معاذ رضي الله عنه بسهم فقطع منه الأكْحَل ، رماه رجل من قريش يقال له ‏:‏ حَبَّان بن العَرِقَة ، فدعا سعد ‏:‏ اللّهم إنك تعلم أنه ليس أحد أحب إلى أن أجاهدهم فيك من قوم كذبوا رسولك وأخرجوه ، اللّهم فإني أظن أنك قد وضعت الحرب بيننا وبينهم ، فإن كان بقي من حرب قريش شيء فأبقني لهم حتى أجاهدهم فيك ، وإن كنت وضعت الحرب فافجرها واجعل موتتي فيها ‏.‏ وقال في آخر دعائه‏ :‏ ولا تمتني حتى تقر عيني من بني قريظة‏ .‏
وبينما كان المسلمون يواجهون هذه الشدائد على جبهة المعركة كانت أفاعي الدس والتآمر تتقلب في جحورها ، تريد إيصال السم داخل أجسادهم ‏:‏ انطلق كبير مجرمي بني النضير حيي بن أخطب إلى ديار بني قريظة فأتى كعب بن أسد القرظي ـ سيد بني قريظة وصاحب عقدهم وعهدهم ، وكان قد عاقد رسول الله(صلى الله عليه وسلم) على أن ينصره إذا أصابته حرب ، كما تقدم ـ فضرب عليه حيي الباب فأغلقه كعب دونه ، فما زال يكلمه حتى فتح له بابه ، فقال حيي ‏:‏ إني قد جئتك يا كعب بعز الدهر وببحر طَامٍ ، جئتك بقريش على قادتها وسادتها ، حتى أنزلتهم بمجمع الأسيال من رُومَة ، وبغطفان على قادتها وسادتها ، حتى أنزلتهم بذَنَب نَقْمَي إلى جانب أحد ، قد عاهدوني وعاقدوني على ألا يبرحوا حتى نستأصل محمداً ومن معه ‏.‏
فقال له كعب‏ :‏ جئتني والله بذُلِّ الدهر وبجَهَامٍ قد هَرَاق ماؤه ، فهو يرْعِد ويبْرِق ، ليس فيه شيء ‏.‏ ويحك يا حيي ! فدعني وما أنا عليه ، فإني لم أر من محمد إلا صدقاً ووفاءً‏.‏
فلم يزل حيي بكعب يفْتِلُه في الذِّرْوَة والغَارِب ، حتى سمح له على أن أعطاه عهداً من الله وميثاقاً‏ :‏ لئن رجعت قريش وغطفان ، ولم يصيبوا محمداً أن أدخل معك في حصنك ، حتى يصيبني ما أصابك ، فنقض كعب بن أسد عهده ، وبرئ مما كان بينه وبين المسلمين ، ودخل مع المشركين في المحاربة ضد المسلمين ‏.‏
وفعلاً قامت يهود بني قريظة بعمليات الحرب ‏.‏ قال ابن إسحاق‏ :‏ كانت صفية بنت عبد المطلب في فارع حصن حسان بن ثابت ، وكان حسان فيه مع النساء والصبيان ، قالت صفية ‏:‏ فمر بنا رجل من يهود ، فجعل يطيف بالحصن ، وقد حاربت بنو قريظة وقطعت ما بينها وبين رسول الله(صلى الله عليه وسلم) ، وليس بيننا وبينهم أحد يدفع عنا ، ورسول الله(صلى الله عليه وسلم) والمسلمون في غور عدوهم ، لا يستطيعون أن ينصرفوا عنهم إن أتانا آت ، قالت ‏:‏ فقلت ‏:‏ يا حسان ، إن هذا اليهودي كما ترى يطيف بالحصن ، وإني والله ما آمنه أن يدل على عورتنا مَنْ وراءنا مِنْ يهود ، وقد شغل عنا رسول الله(صلى الله عليه وسلم) وأصحابه ، فانزل إليه فاقتله ‏.‏
قال ‏:‏ والله لقد عرفت ما أنا بصاحب هذا ، قالت‏ :‏ فاحتجزت ثم أخذت عموداً ، ثم نزلت من الحصن إليه ، فضربته بالعمود حتى قتلته ، ثم رجعت إلى الحصن وقلت ‏:‏ يا حسان ، انزل إليه فاسلبه ، فإنه لم يمنعني من سبله إلا أنه رجل ، قال ‏:‏ ما لي بسلبه من حاجة ‏.‏
وقد كان لهذا الفعل المجيد من عمة الرسول(صلى الله عليه وسلم) أثر عميق في حفظ ذراري المسلمين ونسائهم ، ويبدو أن اليهود ظنوا أن هذه الآطام والحصون في منعة من الجيش الإسلامي ـ مع أنها كانت خالية عنهم تماماً ـ فلم يجترئوا مرة ثانية للقيام بمثل هذا العمل ، إلا أنهم أخذوا يمدون الغزاة الوثنيين بالمؤن ، كدليل عملي على انضمامهم إليهم ضد المسلمين ، حتى أخذ المسلمون من مؤنهم عشرين جملاً ‏.‏
وانتهى الخبر إلى رسول الله(صلى الله عليه وسلم) وإلى المسلمين فبادر إلى تحقيقه ، حتى يستجلي موقف قريظة ، فيواجهه بما يجب من الوجهة العسكرية ، وبعث لتحقيق الخبر السعدين ، سعد بن معاذ وسعد بن عبادة ، وعبد الله بن رواحة وخَوَّات بن جبير ، وقال ‏:‏ ‏" ‏انطلقوا حتى تنظروا أحق ما بلغنا عن هؤلاء القوم أم لا ‏؟‏ فإن كان حقاً فالحنوا لي لحناً أعرفه ، ولا تَفُتُّوا في أعضاد الناس ، وإن كانوا على الوفاء فاجهروا به للناس "‏‏ .‏
فلما دنوا منهم وجدوهم على أخبث ما يكون ، فقد جاهروهم بالسب والعداوة ، ونالوا من رسول الله(صلى الله عليه وسلم) ‏.‏
وقالوا ‏:‏ من رسول الله ‏؟‏ لا عهد بيننا وبين محمد ، ولا عقد ‏.‏ فانصرفوا عنهم ، فلما أقبلوا على رسول الله(صلى الله عليه وسلم) لحنوا له ، وقالوا ‏:‏ عَضَل وقَارَة ، أي إنهم على غدر كغدر عضل وقارة بأصحاب الرَّجِيع ‏.‏
وعلى رغم محاولتهم إخفاء الحقيقة تفطن الناس لجلية الأمر ، فتجسد أمامهم خطر رهيب ‏.‏
وقد كان أحرج موقف يقفه المسلمون ، فلم يكن يحول بينهم وبين قريظة شيء يمنعهم من ضربهم من الخلف ، بينما كان أمامهم جيش عرمرم لم يكونوا يستطيعون الانصراف عنه ، وكانت ذراريهم ونساؤهم بمقربة من هؤلاء الغادرين في غير منعة وحفظ ، وصاروا كما قال الله تعالى ‏:‏ ‏" ‏وَإِذْ زَاغَتْ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا‏ "‏‏[‏ الأحزاب‏:‏10، 11‏]‏
ونجم النفاق من بعض المنافقين حتى قال ‏:‏ كان محمد يعدنا أن نأكل كنوز كسرى وقيصر ، وأحدنا اليوم لا يأمن على نفسه أن يذهب إلى الغائط‏ .‏ وحتى قال بعض آخر في ملأ من رجال قومه ‏:‏ إن بيوتنا عورة من العدو ، فأذن لنا أن نخرج ، فنرجع إلى دارنا فإنها خارج المدينة ‏.‏ وحتى همت بنو سلمة بالفشل ، وفي هؤلاء أنزل الله تعالى ‏:‏ ‏" ‏وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا وَإِذْ قَالَت طَّائِفَةٌ مِّنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِّنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِن يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا‏ "‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 12، 13‏]‏‏ .‏
أما رسول الله(صلى الله عليه وسلم) فتقنع بثوبه حين أتاه غَدْر قريظة ، فاضطجع ومكث طويلاً حتى اشتد على الناس البلاء ، ثم نهض مبشراً يقول ‏:‏ ‏" ‏الله أكبر، أبشروا يا معشر المسلمين بفتح الله ونصره "‏، ثم أخذ يخطط لمجابهة الظرف الراهن ، وكجزء من هذه الخطة كان يبعث الحرس إلى المدينة ، لئلا يؤتى الذراري والنساء على غرة ، ولكن كان لابد من إقدام حاسم ، يفضي إلى تخاذل الأحزاب ، وتحقيـقاً لهــذا الهـدف أراد أن يصالـح عُيينَة بن حصن والحارث بن عوف رئيسي غطفان على ثلث ثمار المدينة ، حتى ينصرفا بقومهما ، ويخلو المسلمون لإلحاق الهزيمة الساحقة العاجلة بقريش التي اختبروا مدى قوتها وبأسها مراراً ، وجرت المراودة على ذلك ، فاستشار السعدين في ذلك ، فقالا ‏:‏ يا رسول الله ، إن كان الله أمرك بهذا فسمعاً وطاعة ، وإن كان شيء تصنعه لنا فلا حاجة لنا فيه ، لقد كنا نحن وهؤلاء القوم على الشرك بالله وعبادة الأوثان ، وهم لا يطمعون أن يأكلوا منها ثمرة إلا قِرًي أو بيعاً ، فحين أكرمنا الله بالإسلام وهدانا له وأعزنا بك نعطيهم أموالنا ‏؟‏ والله لا نعطيهم إلا السيف ، فَصَوَّبَ رأيهما وقال ‏:‏ ‏" ‏إنما هو شيء أصنعه لكم لما رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحدة "‏‏.‏
ثم إن الله عز وجل ـ وله الحمد ـ صنع أمراً من عنده خذل به العدو وهزم جموعهم ، وفَلَّ حدهم ، فكان مما هيأ من ذلك أن رجلاً من غطفان يقال له‏:‏ نعيم بن مسعود بن عامر الأشجعي رضي الله عنه جاء رسول الله(صلى الله عليه وسلم) فقال ‏:‏ يا رسول الله ، إني قد أسلمت ، وإن قومي لم يعلموا بإسلامي ، فمرني ما شئت ، فقال رسول الله(صلى الله عليه وسلم) ‏:‏ ‏( ‏إنما أنت رجل واحد ، فَخذِّلْ عنا ما استطعت ، فإن الحرب خدعة ‏) ‏، فذهب من فوره إلى بني قريظة ـ وكان عشيراً لهم في الجاهلية ـ فدخل عليهم وقال ‏:‏ قد عرفتم ودي إياكم ، وخاصة ما بيني وبينكم ، قالوا‏ :‏ صدقت ‏.‏ قال‏ :‏ فإن قريشاً ليسوا مثلكم ، البلد بلدكم ، فيه أموالكم وأبناؤكم ونساؤكم ، لا تقدرون أن تتحولوا منه إلى غيره ، وإن قريشاً وغطفان قد جاءوا لحرب محمد وأصحابه ، وقد ظاهرتموهم عليه ، وبلدهم وأموالهم ونساؤهم بغيره ، فإن أصابوا فرصة انتهزوها ، وإلا لحقوا ببلادهم وتركوكم ومحمداً فانتقم منكم ، قالوا ‏:‏ فما العمل يا نعيم ‏؟‏ قال ‏:‏ لا تقاتلوا معهم حتى يعطوكم رهائن ‏.‏ قالوا‏ :‏ لقد أشرت بالرأي ‏.‏
ثم مضى نعيم على وجهه إلى قريش وقال لهم ‏:‏ تعلمون ودي لكم ونصحي لكم ‏؟‏ قالوا‏ :‏ نعم، قال ‏:‏ إن اليهود قد ندموا على ما كان منهم من نقض عهد محمد وأصحابه ، وإنهم قد راسلوه أنهم يأخذون منكم رهائن يدفعونها إليه ، ثم يوالونه عليكم ، فإن سألوكم رهائن فلا تعطوهم ، ثم ذهب إلى غطفان ، فقال لهم مثل ذلك ‏.‏
فلما كانت ليلة السبت من شوال ـ سنة 5هـ ـ بعثوا إلى اليهود ‏:‏ أنا لسنا بأرض مقام ، وقد هلك الكُرَاع والخف ، فانهضوا بنا حتى نناجز محمداً ، فأرسل إليهم اليهود أن اليوم يوم السبت ، وقد علمتم ما أصاب من قبلنا حين أحدثوا فيه ، ومع هذا فإنا لا نقاتل معكم حتى تبعثوا إلينا رهائن ، فلما جاءتهم رسلهم بذلك قالت قريش وغطفان ‏:‏ صدقكم والله نعيم ، فبعثوا إلى يهود إنا والله لا نرسل إليكم أحداً ، فاخرجوا معنا حتى نناجز محمداً ، فقالت قريظة ‏:‏ صدقكم والله نعيم‏ .‏ فتخاذل الفريقان ، ودبت الفرقة بين صفوفهم ، وخارت عزائمهم ‏.‏
وكان المسلمون يدعون الله تعالى‏ :‏ ‏( ‏اللهم استر عوراتنا وآمن روعاتنا ‏)‏ ، ودعا رسول الله(صلى الله عليه وسلم) على الأحزاب ، فقال‏:‏ ‏" ‏اللّهم منزل الكتاب ، سريع الحساب ، اهزم الأحزاب ، اللّهم اهزمهم وزلزلهم‏ "‏‏.‏
وقد سمع الله دعاء رسوله والمسلمين ، فبعد أن دبت الفرقة في صفوف المشركين وسرى بينهم التخاذل أرسل الله عليهم جنداً من الريح فجعلت تقوض خيامهم ، ولا تدع لهم قِدْرًا إلا كفأتها ، ولا طُنُبًا إلا قلعته ، ولا يقر لهم قرار ، وأرسل جنداً من الملائكة يزلزلونهم ، ويلقون في قلوبهم الرعب والخوف ‏.‏
وأرسل رسول الله(صلى الله عليه وسلم) في تلك الليلة الباردة القارسة حذيفة بن اليمان يأتيه بخبرهم ، فوجدهم على هذه الحالة ، وقد تهيأوا للرحيل ، فرجع إلى رسول الله(صلى الله عليه وسلم) ، فأخبره برحيل القوم ، فأصبح رسول الله(صلى الله عليه وسلم) وقد رد الله عدوه بغيظهم لم ينالوا خيراً وكفاه الله قتالهم ، فصدق وعده ، وأعز جنده ، ونصر عبده ، وهزم الأحزاب وحده ، فرجع إلى المدينة ‏.‏
وكانت غزوة الخندق سنة خمس من الهجرة في شوال على أصح القولين ، وأقام المشركون محاصرين رسول الله(صلى الله عليه وسلم) والمسلمين شهراً أو نحو شهر ‏.‏ ويبدو بعد الجمع بين المصادر أن بداية فرض الحصار كانت في شوال ونهايته في ذي القعدة ، وعند ابن سعد أن انصراف رسول الله(صلى الله عليه وسلم) من الخندق كان يوم الأربعاء لسبع بقين من ذي القعدة ‏.‏
إن معركة الأحزاب لم تكن معركة خسائر ، بل كانت معركة أعصاب ، لم يجر فيها قتال مرير ، إلا أنها كانت من أحسم المعارك في تاريخ الإسلام ، تمخضت عن تخاذل المشركين ، وأفادت أن أية قوة من قوات العرب لا تستطيع استئصال القوة الصغيرة التي تنمو في المدينة ، لأن العرب لم تكن تستطيع أن تأتي بجمع أقوى مما أتت به في الأحزاب ، ولذلك قال رسول الله(صلى الله عليه وسلم) حين أجلى الله الأحزاب ‏:‏ ‏" ‏الآن نغزوهم ، ولا يغزونا ، نحن نسير إليهم "‏‏ .
العتمه غير متواجد حالياً  
قديم 22-02-2008, 10:37 AM   #29
العتمه
 
الصورة الرمزية العتمه
 







 
العتمه is on a distinguished road
افتراضي رد : تعرف على حبيبك





معركة مؤتة

وهذه المعركة أكبر لقاء مُثْخِن ، وأعظم حرب دامية خاضها المسلمون في حياة رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، وهي مقدمة وتمهيد لفتوح بلدان النصارى ، وقعت في جمادى الأولى سنة 8 هـ ، وفق أغسطس أو سبتمبر سنة 926 م ‏.‏
ومؤتة ‏( ‏بالضم فالسكون ‏)‏ هي قرية بأدنى بلقاء الشام ، بينها وبين بيت المقدس مرحلتان ‏.

سبب المعركة
وسبب هذه المعركة أن رسول الله(صلى الله عليه وسلم) بعث الحارث بن عمير الأزدي بكتابه إلى عظيم بُصْرَي‏ ،‏ فعرض له شُرَحْبِيل بن عمرو الغساني ـ وكان عاملاً على البلقاء من أرض الشام من قبل قيصر ـ فأوثقه رباطاً ، ثم قدمه ، فضرب عنقه ‏.‏
وكان قتل السفراء والرسل من أشنع الجرائم ، يساوي بل يزيد على إعلان حالة الحرب ، فاشتد ذلك على رسول الله(صلى الله عليه وسلم) حين نقلت إليه الأخبار ، فجهز إليهم جيشاً قوامه ثلاثة آلاف مقاتل ، وهو أكبر جيش إسلامي لم يجتمع قبل ذلك إلا في غزوة الأحزاب ‏.‏

أمراء الجيش ووصية رسول الله(صلى الله عليه وسلم) إليهم

أمر رسول اللهعلى هذا البعث زيد بن حارثة ، وقال ‏:‏ ‏" ‏إن قتل زيد فجعفر ، وإن قتل جعفر فعبد الله بن رواحة "‏ ، وعقد لهم لواء أبيض، ودفعه إلى زيد بن حارثة ‏.‏ وأوصاهم أن يأتوا مقتل الحارث بن عمير ، وأن يدعوا مَنْ هناك إلى الإسلام ، فإن أجابوا وإلا استعانوا بالله عليهم ، وقاتلوهم ، وقال لهم ‏:‏ ‏" ‏اغزوا بسم الله ، في سبيل الله ، مَنْ كفر بالله ، لا تغدروا ، ولا تغلوا ، ولا تقتلوا وليداً ولا امرأة ، ولا كبيراً فانياً ، ولا منعزلاً بصومعة ، ولا تقطعوا نخلاً ولا شجرة ، ولا تهدموا بناء ‏" ‏‏.‏


توديع الجيش الإسلامي وبكاء عبد الله بن رواحة

ولما تهيأ الجيش الإسلامي للخروج حضر الناس ، وودعوا أمراء رسول الله(صلى الله عليه وسلم) ، وسلموا عليهم ، وحينئذ بكي أحد أمراء الجيش ـ عبد الله بن رواحة ـ فقالوا ‏:‏ ما يبكيك ‏؟‏ فقال ‏:‏ أما والله ما بي حب الدنيا ، ولا صبابة بكم ، ولكني سمعت رسول الله(صلى الله عليه وسلم) يقرأ آية من كتاب الله يذكر فيها النار‏ : ‏" ‏وَإِن مِّنكُمْ إِلا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَّقْضِيًّا "‏ ‏[ ‏مريم ‏: ‏71 ‏] ‏، فلست أدري كيف لي بالصدور بعد الورود‏ ؟‏ فقال المسلمون ‏:‏ صحبكم الله بالسلامة ، ودفع عنكم ، وردكم إلينا صالحين غانمين ، فقال عبد الله بن رواحة ‏:‏
لكنني أسأل الرحمن مغفــرة
أو طعنة بيدي حران مجـهزة
حتى يقال إذا مروا على جدثي وضربة ذات فرع تقذف الزبدا
بحربة تنفذ الأحشـاء والكبدا
أرشده الله من غاز وقد رشدا
ثم خرج القوم ، وخرج رسول الله(صلى الله عليه وسلم) مشيعاً لهم حتى بلغ ثنية الوداع ، فوقف وودّعهم‏ .‏

تحرك الجيش الإسلامي ومباغتته حاله رهيبة
وتحرك الجيش الإسلامي في اتجاه الشمال حتى نزل مَعَان ، من أرض الشام ، مما يلي الحجاز الشمالي ، وحينئذ نقلت إليهم الاستخبارات بأن هرقل نازل بمآب من أرض البلقاء في مائة ألف من الروم ، وانضم إليهم من لَخْم وجُذَام وبَلْقَيْن وبَهْرَاء وبَلِي مائة ألف ‏.

المجلس الإستشاري بمعان

لم يكن المسلمون أدخلوا في حسابهم لقاء مثل هذا الجيش العرمرم ـ الذي بوغتوا به في هذه الأرض البعيدة ـ وهل يهجم جيش صغير ، قوامه ثلاثة آلاف مقاتل فحسب ، على جيش كبير عرمرم مثل البحر الخضم ، قوامه مائتا ألف مقاتل ‏؟‏ حار المسلمون ، وأقاموا في مَعَان ليلتين يفكرون في أمرهم ، وينظرون ويتشاورون ، ثم قالوا‏ :‏ نكتب إلى رسول الله(صلى الله عليه وسلم) ، فنخبره بعدد عدونا ، فإما أن يمدنا بالرجال ، وإما أن يأمرنا بأمره فنمضي له‏ .‏
ولكن عبد الله بن رواحة عارض هذا الرأي ، وشجع الناس ، قائلاً‏ :‏ يا قوم ، والله إن التي تكرهون لَلَّتِي خرجتم تطلبون ‏:‏ الشهادة ، وما نقاتل الناس بعدد ولا قوة ولا كثرة ، ما نقاتلهم إلا بهذا الدين الذي أكرمنا الله به ، فانطلقوا ، فإنما هي إحدى الحسنيين ، إما ظهور وإما شهادة‏ .‏
وأخيراً استقر الرأي على ما دعا إليه عبد الله بن رواحة‏ .‏

الجيش الإسلامي يتحرك نحو العدو

وحينئذ بعد أن قضى الجيش الإسلامي ليلتين في معان ، تحركوا إلى أرض العدو ، حتى لقيتهم جموع هرقل بقرية من قرى البلقاء يقال لها‏ :‏ ‏[ ‏َشَارِف ‏]‏ ثم دنا العدو ، وانحاز المسلمون إلى مؤتة ، فعسكروا هناك ، وتعبأوا للقتال ، فجعلوا على ميمنتهم قُطْبَة بن قتادة العُذْرِي ، وعلى الميسرة عبادة بن مالك الأنصاري ‏.‏

بداية القتال وتناوب القواد

وهناك في مؤتة التقى الفريقان ، وبدأ القتال المرير ، ثلاثة آلاف رجل يواجهون هجمات مائتي ألف مقاتل ‏.‏ معركة عجيبة تشاهدها الدنيا بالدهشة والحيرة ، ولكن إذا هبت ريح الإيمان جاءت بالعجائب ‏.‏
أخذ الراية زيد بن حارثة ـ حِبُّ رسول الله(صلى الله عليه وسلم) ـ وجعل يقاتل بضراوة بالغة ، وبسالة لا يوجد لها نظير إلا في أمثاله من أبطال الإسلام ، فلم يزل يقاتل ويقاتل حتى شاط في رماح القوم ، وخر صريعاً‏ .‏
وحينئذ أخذ الراية جعفر بن أبي طالب ، وطفق يقاتل قتالاً منقطع النظير ، حتى إذا أرهقه القتال اقتحم عن فرسه الشقراء فعقرها ، ثم قاتل حتى قطعت يمينه ، فأخذ الراية بشماله ، ولم يزل بها حتى قطعت شماله ، فاحتضنها بعضديه ، فلم يزل رافعاً إياها حتى قتل ‏.‏ يقال‏ :‏ إن رومياً ضربه ضربةً قطعته نصفين ، وأثابه الله بجناحيه جناحين في الجنة ، يطير بهما حيث يشاء ، ولذلك سمي بجعفر الطيار ، وبجعفر ذي الجناحين ‏.‏
روى البخاري عن نافع ، أن ابن عمر أخبره‏ :‏ أنه وقف على جعفر يؤمئذ وهو قتيل ، فعددت به خمسين بين طعنة وضربة ، ليس منها شيء في دبره ، يعني ظهره .‏
وفي رواية أخرى قال ابن عمر ‏:‏ كنت فيهم في تلك الغزوة ، فالتمسنا جعفر بن أبي طالب فوجدناه في القتلى ، ووجدنا ما في جسده بضعاً وتسعين من طعنة ورمية‏ .‏ وفي رواية العمري عن نافع زيادة ‏:‏ ‏[ ‏فوجدنا ذلك فيما أقبل من جسده ‏] ‏‏.‏
ولما قتل جعفر بعد أن قاتل بمثل هذه الضراوة والبسالة ، أخذ الراية عبد الله بن رواحة ، وتقدم بها ، وهو على فرسه ، فجعل يستنزل نفسه ، ويتردد بعض التردد ، حتى حاد حيدة ثم قال ‏:‏
أقسـمت يـا نفس لتـنزلنه
إن أجلب الناس وشدوا الرنه كارهة أو لتـطـاوعنـه
مالي أراك تكرهين الجنه
ثم نزل ، فأتاه ابن عم له بعَرْق من لحم فقال ‏:‏ شد بهذا صلبك ، فإنك قد لقيت في أيامك هذه ما لقيت ، فأخذه من يده فانتهس منه نَهْسَة ، ثم ألقاه من يده ، ثم أخذ سيفه فتقدم ، فقاتل حتى قتل ‏.‏

الراية إلى سيف من سيوف الله

وحينئذ تقدم رجل من بني عَجْلان ـ اسمه ثابت بن أقرم ـ فأخذ الراية وقال ‏:‏ يا معشر المسلمين ، اصطلحوا على رجل منكم ، قالوا ‏:‏ أنت‏ .‏ قال‏ :‏ ما أنا بفاعل ، فاصطلح الناس على خالد بن الوليد ، فلما أخذ الراية قاتل قتالاً مريراً ، فقد روى البخاري عن خالد بن الوليد قال ‏:‏ لقد انقطعت في يدي يوم مؤتة تسعة أسياف ، فما بقي في يدي إلا صفيحة يمانية‏ .‏ وفي لفظ آخر ‏:‏ لقد دق في يدي يوم مؤتة تسعة أسياف ، وصبرت في يدي صفيحة لي يمانية ‏.‏
وقد قال رسول الله(صلى الله عليه وسلم) يوم مؤتة ـ مخبراً بالوحي ، قبل أن يأتي إلى الناس الخبر من ساحة القتال‏ :‏ ‏( ‏أخذ الراية زيد فأصيب ، ثم أخذ جعفر فأصيب ، ثم أخذ ابن رواحة فأصيب ـ وعيناه تذرفان ـ حتى أخذ الراية سيف من سيوف الله ، حتى فتح الله عليهم‏ )‏ ‏.‏

نهاية المعركة

ومع الشجاعة البالغة والبسالة والضراوة المريرتين ، كان مستغرباً جداً أن ينجح هذا الجيش الصغير في الصمود أما تيارات ذلك البحر الغطمطم من جيوش الروم‏ ،‏ ففي ذلك الوقت أظهر خالد بن الوليد مهارته ونبوغه في تخليص المسلمين مما ورطوا أنفسهم فيه‏ .‏
واختلفت الروايات كثيراً فيما آل إليه أمر هذه المعركة أخيراً‏ .‏ ويظهر بعد النظر في جميع الروايات أن خالد بن الوليد نجح في الصمود أمام جيش الرومان طول النهار ، في أول يوم من القتال ‏.‏ وكان يشعر بمسيس الحاجة إلى مكيدة حربية تلقي الرعب في قلوب الرومان حتى ينجح في الانحياز بالمسلمين من غير أن يقوم الرومان بحركات المطاردة‏ .‏ فقد كـان يعرف جيداً أن الإفلات من براثنهم صعب جداً لو انكشف المسلمون ، وقام الرومان بالمطاردة .‏

فلما أصبح اليوم الثاني غير أوضاع الجيش ، وعبأه من جديد ، فجعل مقدمته ساقه ، وميمنته ميسرة ، وعلى العكس ، فلما رآهم الأعداء أنكروا حالهم ، وقالوا‏ :‏ جاءهم مدد ، فرعبوا ، وصار خالد ـ بعد أن تراآى الجيشان ، وتناوشا ساعة ـ يتأخر بالمسلمين قليلاً قليلاً ، مع حفظ نظام جيشه ، ولم يتبعهم الرومان ظناً منهم أن المسلمين يخدعونهم ، ويحاولون القيام بمكيدة ترمي بهم في الصحراء ‏.‏
وهكذا انحاز العدو إلى بلاده ، ولم يفكر في القيام بمطاردة المسلمين ونجح المسلمون في الانحياز سالمين ، حتى عادوا إلى المدينة ‏.

قتلى الفريقين

واستشهد يومئذ من المسلمين اثنا عشر رجلاً ، أما الرومان ، فلم يعرف عدد قتلاهم ، غير أن تفصيل المعركة يدل على كثرتهم.

أثر المعركة

وهذه المعركة وإن لم يحصل المسلمون بها على الثأر ، الذي عانوا مرارتها لأجله ، لكنها كانت كبيرة الأثر لسمعة المسلمين ، إنها ألقت العرب كلها في الدهشة والحيرة ، فقد كانت الرومان أكبر وأعظم قوة على وجه الأرض ، وكانت العرب تظن أن معنى جلادها هو القضاء على النفس وطلب الحتف بالظِّلْف ، فكان لقاء هذا الجيش الصغير ـ ثلاثة آلاف مقاتل ـ مع ذلك الجيش الضخم العرمرم الكبير ـ مائتا ألف مقاتل ـ ثم الرجوع عن الغزو من غير أن تلحق به خسارة تذكر‏ .‏ كان كل ذلك من عجائب الدهر ، وكان يؤكد أن المسلمين من طراز آخر غير ما ألفته العرب وعرفته ، وأنهم مؤيدون ومنصورون من عند الله ، وأن صاحبهم رسول الله حقاً‏ .‏
ولذلك نرى القبائل اللدودة التي كانت لا تزال تثور على المسلمين جنحت بعد هذه المعركة إلى الإسلام ، فأسلمت بنو سُلَيْم وأشْجَع وغَطَفَان وذُبْيَان وفَزَارَة وغيرها ‏.‏
وكانت هذه المعركة بداية اللقاء الدامي مع الرومان ، فكانت توطئة وتمهيداً لفتوح البلدان الرومانية ، واحتلال المسلمين الأراضي البعيدة النائية‏ .
العتمه غير متواجد حالياً  
قديم 22-02-2008, 10:38 AM   #30
العتمه
 
الصورة الرمزية العتمه
 







 
العتمه is on a distinguished road
افتراضي رد : تعرف على حبيبك





غزوة حنين

إن فتح مكة جاء عقب ضربة خاطفة شَدَهَ لها العرب ، وبوغتت القبائل المجاورة بالأمر الواقع ، الذي لم يكن يمكن لها أن تدفعه ، ولذلك لم تمتنع عن الاستسلام إلا بعض القبائل الشرسة القوية المتغطرسة ، وفي مقدمتها بطون هوازن وثقيف ، واجتمعت إليها نَصْرٌ وجُشَمٌ وسعد بن بكر وناس من بني هلال ـ وكلها من قيس عَيْلان ـ رأت هذه البطون من نفسها عزاً وأنَفَةً أن تقابل هذا الانتصار بالخضوع ، فاجتمعت إلى مالك ابن عوف النَّصْري ، وقررت المسير إلى حـرب المسلمين‏ .‏

مسير العدو ونزوله بأوطاس

ولما أجمع القائد العام ـ مالك بن عوف ـ المسير إلى حرب المسلمين ، ساق مع الناس أموالهم ونساءهم وأبناءهم ، فسار حتى نزل بأوْطَاس ـ وهو واد في دار هَوَازِن بالقرب من حُنَيْن ، لكن وادي أوطاس غير وادي حنين ، وحنين واد إلى جنب ذي المجَاز ، بينه وبين مكة بضعة عشر ميلاً من جهة عرفات‏ .‏


مجرب الحروب يغلط رأي القائد


ولما نزل بأوطاس اجتمع إليه الناس ، وفيهم دُرَيْدُ بن الصِّمَّةِ ـ وهو شيخ كبير ، ليس فيه إلا رأيه ومعرفته بالحرب وكان شجاعاً مجرباً ـ قال دريد‏ :‏ بأي واد أنتم ‏؟‏ قالوا ‏:‏ بأوطاس ، قال ‏:‏ نعم مَجَالُ الخيل ، لا حَزْنٌ ضَرسٌ ، ولا سَهْلٌ دَهِس ، مالي أسمع رُغَاء البعير ، ونُهَاق الحمير ، وبُكَاء الصبي ، وثُغَاء الشاء ‏؟‏ قالوا‏ :‏ ساق مالك بن عوف مع الناس نساءهم وأموالهم وأبناءهم ، فدعا مالكاً وسأله عما حمله على ذلك ، فقال‏ :‏ أردت أن أجعل خلف كل رجل أهله وماله ليقاتل عنهم ، فقال ‏:‏ راعي ضأن واللّه ، وهل يرد المنهزم شيء ‏؟‏ إنها إن كانت لك لم ينفعك إلا رجل بسيفه ورمحه ، وإن كانت عليك فُضِحْتَ في أهلك ومالك ، ثم سأل عن بعض البطون والرؤساء ، ثم قال ‏:‏ يا مالك ، إنك لم تصنع بتقديم بَيْضَة هوازن إلى نحور الخيل شيئاً ، ارفعهم إلى ممتنع بلادهم وعلياء قومهم ، ثم الْقَ الصُّبَاة على متون الخيل ، فإن كانت لك لحق بك من وراءك ، وإن كانت عليك ألفاك ذلك وقد أحرزتَ أهلك ومالك ‏.‏
ولكن مالكاً ـ القائد العام ـ رفض هذا الطلب قائلاً‏ :‏ واللّه لا أفعل ، إنك قد كبرت وكبر عقلك ، واللّه لتطيعني هوازن أو لأتَّكِئَنَّ على هذا السيف حتى يخرج من ظهري ، وكره أن يكون لدريد فيها ذكر أو رأي ، فقالوا‏ :‏ أطعناك ‏.‏ فقال دريد ‏:‏ هذا يوم لم أشهده ولم يَفُتْنِي‏ :‏
يا ليتنـي فيها جـَذَعْ
أقود وطْفَاءَ الزَّمَــعْ أخُبُّ فيهـا وأضَعْ
كأنها شـاة صَدَعْ



سلام استكشاف العدو
وجاءت إلى مالك عيون كان قد بعثهم للاستكشاف عن المسلمين ، جاءت هذه العيون وقد تفرقت أوصالهم ، قال‏ :‏ ويلكم ، ما شأنكم ‏؟‏ قالوا ‏:‏ رأينا رجالاً بيضا على خيل بُلْق ، والله ما تماسكنا أن أصابنا ما ترى ‏.‏

سلاح استكشاف رسول الله (صلى الله عليه وسلم)

ونقلت الأخبار إلى رسول اللّه(صلى الله عليه وسلم) بمسير العدو ، فبعث أبا حَدْرَد الأسلمي ، وأمره أن يدخل في الناس ، فيقيم فيهم حتى يعلم علمهم، ثم يأتيه بخبرهم ، ففعل ‏.‏



الرسول(صلى الله عليه وسلم) يغادر مكة إلى حنين

وفي يوم السبت ـ السادس من شهر شوال سنة 8 هـ ـ غادر رسول اللّه(صلى الله عليه وسلم) مكة ـ وكان ذلك اليوم التاسع عشر من يوم دخوله في مكة ـ خرج في اثني عشر ألفاً من المسلمين ، عشرة آلاف ممن كانوا خرجوا معه لفتح مكة ، وألفان من أهل مكة‏ ،‏ وأكثرهم حديثو عهد بالإسلام واستعار من صفوان بن أمية مائة درع بأداتها ، واستعمل على مكة عَتَّاب بن أسيد ‏.‏
ولما كان عشية جاء فارس ، فقال ‏:‏ إني طلعت جبل كذا وكذا ، فإذا أنا بهوازن على بكرة آبائهم بِظُعُنِهم ونَعَمِهم وشائهم اجتمعوا إلى حنين ، فتبسم رسول اللّه(صلى الله عليه وسلم) وقال ‏:‏ ‏( ‏تلك غنيمة المسلمين غدًا إن شاء اللّه ‏) ‏، وتطوع للحراسة تلك الليلة أنس بن أبي مَرْثَد الغَنَوي ‏.‏
وفي طريقهم إلى حنين رأوا سِدْرَة عظيمة خضراء يقال لها‏ :‏ ذات أنْوَاط ، كانت العرب تعلق عليها أسلحتهم ، ويذبحون عندها ويعكفون ، فقال بعض أهل الجيش لرسول اللّه(صلى الله عليه وسلم) ‏:‏ اجعل لنا ذات أنواط ، كما لهم ذات أنواط ‏.‏ فقال‏:‏ ‏( ‏اللّه أكبر ، قلتم والذي نفس محمد بيده كما قال قوم موسى ‏:‏ اجعل لنا إلها كما لهم آلهة ، قال‏ :‏ إنكم قوم تجهلون ، إنها السَّنَنُ ، لتركبن سَنَنَ من كان قبلكم ‏) ‏‏.‏
وقد كان بعضهم قال نظراً إلى كثرة الجيش ‏:‏ لن نُغْلَبَ اليوم ، وكان قد شق ذلك على رسول اللّه (صلى الله عليه وسلم) ‏ .


الجيش الإسلامي يباغت بالرماة والمهاجمين

انتهى الجيش الإسلامي إلى حنين ، الليلة التي بين الثلاثاء والأربعاء لعشر خلون من شوال ، وكان مالك بن عوف قد سبقهم ، فأدخل جيشه بالليل في ذلك الوادي ، وفرق كُمَنَاءه في الطرق والمداخل والشعاب والأخباء والمضايق ، وأصدر إليهم أمره بأن يرشقوا المسلمين أول ما طلعوا ، ثم يشدوا شدة رجل واحد ‏.‏
وبالسَّحَر عبأ رسول اللّه(صلى الله عليه وسلم) جيشه ، وعقد الألوية والرايات ، وفرقها على الناس ، وفي عَمَاية الصبح استقبل المسلمون وادي حنين ، وشرعوا ينحدرون فيه ، وهم لا يدرون بوجود كمناء العدو في مضايق هذا الوادي ، فبينا هم ينحطون إذا تمطر عليهم النبال ، وإذا كتائب العدو قد شدت عليهم شدة رجل واحد ، فانشمر المسلمون راجعين ، لا يلوي أحد على أحد ، وكانت هزيمة منكرة ، حتى قال أبو سفيان بن حرب ، وهو حديث عهد بالإسلام ‏:‏ لا تنتهي هزيمتهم دون البحر ـ الأحمر ـ وصرخ جَبَلَةُ أو كَلَدَةُ بن الحَنْبَل ‏:‏ ألا بطل السِّحْر اليوم‏ .‏
وانحاز رسول اللّه(صلى الله عليه وسلم) جهة اليمين وهو يقول ‏:‏ ‏(‏ هَلُمُّوا إلى أيها الناس ، أنا رسول الله ، أنا محمد بن عبد اللّه‏)‏ ولم يبق معه في موقفه إلا عدد قليل من المهاجرين والأنصار ‏.‏ تسعة على قول ابن إسحاق ، واثنا عشر على قول النووي ، والصحيح ما رواه أحمد والحاكم في المستدرك من حديث ابن مسعود ، قال ‏:‏ كنت مع النبي(صلى الله عليه وسلم) يوم حنين ، فولي عنه الناس وثبت معه ثمانون رجلاً من المهاجرين والأنصار ، فكنا على أقدامنا ولم نُوَلِّهم الدُّبُر ، وروى الترمذي من حديث ابن عمر بإسناد حسن قال ‏:‏ لقد رأيتنا يوم حنين وإن الناس لمولين ، وما مع رسول اللّه(صلى الله عليه وسلم) مائة رجل ‏.‏
وحينئذ ظهرت شجاعة النبي(صلى الله عليه وسلم) التي لا نظير لها ، فقد طفق يركض بغلته قبل الكفار وهو يقول‏ :‏
أنــا النبي لا كَذِبْ أنا ابن عبد المطلب‏
بيد أن أبا سفيان بن الحارث كان آخذا بلجام بغلته ، والعباس بركابه ، يكفانها ألا تسرع ، ثم نزل رسول اللّه(صلى الله عليه وسلم) فاستنصر ربه قائلاً‏ :‏ ‏( ‏اللّهم أنزل نصرك ‏) ‏‏.‏



رجوع المسلمين واحتدام المعركة
وأمر رسول اللّه(صلى الله عليه وسلم) عمه العباس ـ وكان جَهِيَر الصوت ـ أن ينادي الصحابة ، قال العباس ‏:‏ فقلت بأعلى صوتي ‏:‏ أين أصحاب السَّمُرَة‏ ؟‏ قال ‏:‏ فو الله لكأن عَطْفَتَهُم حين سمعوا صوتي عَطْفَة البقر على أولادها ، فقالوا ‏:‏ يا لبيك ، يا لبيك‏ .‏ ويذهب الرجل ليثني بعيره فلا يقدر عليه ، فيأخذ درعه ، فيقذفها في عنقه ، ويأخذ سيفه وترسه ، ويقتحم عن بعيره، ويخلي سبيله، فيؤم الصوت ، حتى إذا اجتمع إليه منهم مائة استقبلوا الناس واقتتلوا‏ .‏
وصرفت الدعوة إلى الأنصار ‏:‏ يا معشر الأنصار ، يا معشر الأنصار ، ثم قصرت الدعوة في بني الحارث بن الخزرج ، وتلاحقت كتائب المسلمين واحدة تلو الأخرى كما كانوا تركوا الموقعة ، وتجالد الفريقان مجالدة شديدة ، ونظر رسول اللّه(صلى الله عليه وسلم) إلى ساحة القتال ، وقد استحر واحتدم ، فقال ‏:‏ ‏( ‏الآن حَمِي الوَطِيسُ‏ )‏ ‏.‏ ثم أخذ رسول اللّه(صلى الله عليه وسلم) قبضة من تراب الأرض ، فرمى بها في وجوه القوم وقال‏ :‏ ‏( ‏شاهت الوجوه ‏) ‏، فما خلق اللّه إنساناً إلا ملأ عينيه تراباً من تلك القبضة ، فلم يزل حَدُّهُم كَلِيلاً وأمرهم مُدْبِرًا‏ .‏


انكسار حدة العدو وهزيمته الساحقة
وما هي إلا ساعات قلائل ـ بعد رمي القبضة ـ حتى انهزم العدو هزيمة منكرة ، وقتل من ثَقِيف وحدهم نحو السبعين ، وحاز المسلمون ما كان مع العدو من مال وسلاح وظُعُن‏ .‏
وهذا هو التطور الذي أشار إليه سبحانه وتعالى في قوله ‏:‏ "‏وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ ثُمَّ أَنَزلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا وَعذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَذَلِكَ جَزَاء الْكَافِرِينَ‏ "‏ ‏[ ‏التوبة ‏:‏25 ، 26 ‏]‏


حركة المطاردة
ولما انهزم العدو صارت طائفة منهم إلى الطائف ، وطائفة إلى نَخْلَة ، وطائفة إلى أوْطاس ، فأرسل النبي(صلى الله عليه وسلم) إلى أوطاس طائفة من المطاردين يقودهم أبو عامر الأشعري ، فَتَنَاوَشَ الفريقان القتال قليلاً ، ثم انهزم جيش المشركين ، وفي هذه المناوشة قتل القائد أبو عامر الأشعري ‏.‏
وطاردت طائفة أخري من فرسان المسلمين فلول المشركين الذين سلكوا نخلة ، فأدركت دُرَيْدَ بن الصِّمَّة فقتله ربيعة بن رُفَيْع‏ .‏
وأما معظم فلول المشركين الذين لجأوا إلى الطائف ، فتوجه إليهم رسول اللّه(صلى الله عليه وسلم) بنفسه بعد أن جمع الغنائم ‏.‏



الغنائم
وكانت الغنائم ‏:‏ السبي ستة آلاف رأس ، والإبل أربعة وعشرون ألفاً ، والغنم أكثر من أربعين ألف شاة ، وأربعة آلاف أوقية فضة ، أمر رسول اللّه(صلى الله عليه وسلم) بجمعها ، ثم حبسها بالجِعْرَانَة ، وجعل عليها مسعود بن عمرو الغفاري ، ولم يقسمها حتى فرغ من غزوة الطائف‏ .‏
وكانت في السبي الشيماء بنت الحارث السعدية ، أخت رسول اللّه(صلى الله عليه وسلم) من الرضاعة ، فلما جيء بها إلى رسول الله(صلى الله عليه وسلم) عرفت له نفسها ، فعرفها بعلامة فأكرمها ، وبسط لها رداءه ، وأجلسها عليه ، ثم منّ عليها ، وردّها إلى قومها ‏.‏
العتمه غير متواجد حالياً  
موضوع مغلق

مواقع النشر (المفضلة)


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة
الانتقال السريع

المواضيع المتشابهه للموضوع : تعرف على حبيبك
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
¸♥ ¸♥ زوجك ,حبيبك, زعلان عندي الحل , تعالي نراضيه ¸♥ ¸♥ ¸♥ فراشه شفافه شقائق الرجال 24 19-05-2008 09:12 AM
كلما احزنك زوجك .......اذهبي الي حبيبك من يغدق عليك الحنان ابومهند2008 شقائق الرجال 10 25-04-2008 12:05 AM
شوف اوصاف حبيبك جمعان الدوسي الإستراحة 14 21-03-2008 11:00 AM
كيف تعرف انك تحب فتى السعبرة المنتدى العام 13 20-03-2008 09:03 PM
آه من حبك... لو تعرف Dr_asmaa المنتدى الأدبي 10 25-01-2008 08:41 PM


الساعة الآن 07:34 AM.


Powered by vBulletin
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
جميع ما يطرح في المنتديات من مواضيع وردود تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الإدارة
Copyright © 2006-2016 Zahran.org - All rights reserved