عيشة .. و«شيشة» .. وسَكَّة «ضومنة»!

[فارس دوس]

عيشة .. و«شيشة» .. وسَكَّة «ضومنة»!

يحيى باجنيد
هذا كلام لا (يودِّي) ولا (يجيب).. ولا يضر ولا ينفع.. تحمله الريح لجهات الدنيا الأربع.. يرتطم بآذان الحيطان ويرجع..! انه كلام في الريح.. فماذا تأخذ الريح من البلاط؟!
كان عم (ناجي) مكباً في بسطته على (نفافيخه).. بعضها مستطيل على شكل (موزة)، أو على شكل دوائر متصلة وغير منتظمة كما الأمعاء الغليظة.. وبعضها مستديرة (مكوَّرة) ينفخها قليلاً ثم يضغطها برأس الأصبع السبابة من جانب، ويعقدها من الجانب الآخر، فتأخذ شكل التفاحة الكبيرة.
وما كان لنا عهد بتفاح بهذا الحجم.. قبل هذا الزمن (الكيماوي).. الذي كبرت فيه الأشياء وتمدَّدت حتى لكأنها تأخذ مكاننا على (ظهر) الأرض وتلجئنا الى (بطنها)!!
*****
حينما يداهم (ناجي) السعال أثناء (النفخ) تنزلق فتحة النفيخة من بين شفتيه، فتندفع طائرة بشكل حلزوني، وتسقط بعد أن تتفرغ من الهواء.. كما صواريخ (سكود) التي كانت تهوي متقطعة الأنفاس، بعد رحلة شاقة تميزت بها (كذبة) التسعينيات (الكيماوية).. ولو كان لها رؤوس نووية لما تحلق الناس على حطامها كما يتحلقون على عروض (التفحيط).. وان كانت تجربة مثيرة، تحيي تراث الغارات (العربية- العربية) مثل (داحس والغبراء)، وتؤرخ لزمن (الاخوة الاعداء)!
*****
لم تكن لـ (عم ناجي) سابق معرفة بالحروب (العربية- العربية) إلا فيما كان يرويه (الحكواتي) عن تعليقات (أحمد سعيد) وبعض روايات عن (أباطيل تكشفها حقائق).. إذ لم تنفجر -في عهده- هذه القنوات الفضائية التي أتاحت للأخوة في (العروبة) ان يلعنوا سنسفيل بعضهم البعض في (اكتفاء ذاتي).. فوَّت على أعدائهم من الأمم الأخرى هذا الشرف الرفيع!
وللحقيقة وللتاريخ -والجغرافيا أيضا- فقد كانت المساجلات والمناوشات فيما سبق تقتصر على الساسة والمستوزرين وبعض الموظفين من داخل الهيئة وخارجها، قبل ان تنفش غنم القوم، وتشيع (الوارشة) وتصبح الدعوة الى (الردح) عامة للجميع..!
*****
ما كان (ناجي) يتعقَّب طيران (النُفيخة) ولا مكان هبوطها (الاضطراري) فقد عَشَى بصره من سحب دخان الغازات السامّة الكثيفة التي تنطلق ليلاتي من (الشيشة الحُمِّي) التي تساهرها زوجته (عيشة) حتى مطلع الفجر في غرفتهما الوحيدة!!
ما كان (ناجي) يشاركها (التدخين) الا بسعال تجحظ معه عيناه.. وتأخذ لون الكبدة (الجملي) والطاعون (البقري) ويتقوس عاموده الفقري، فيأخذ شكل الجنين.. حتى اذا ما طال به السعال صاحت به (عيشة) وهي تنفث الدخان في وجهه:
- «وااااي.. ما يحوج لهادا كُلَّه»!
*****
كان كلما هَمَّ بالافصاح لـ (عيشة) عن رغبته في الجلوس على (الدكة) لاستنشاق (الهواء) يبتلع لسانه.. فهو يعرف شكوكها في الهوا (البحري).. وارتيابها من الهوا (الشامي) وهي لا تثق بالهوا (الشرقي) لصلته (بالتخت الشرقي) وتوابعه التي تبدأ بـ (الوحدة ونص) التي (ربَّما) و(لعلها) تفضي الى (الهشِّك بشِّك) وحينها لا يبقى الا الهوا (الأزيب)!
وفي المرة التي آنس في نفسه الكفاءة، استجمع قواه وقال لها بعد ان تحمحم كما يفعل مذيع النشرة الجوية:
- «ايش رأيك يا عيشة؟! أنام على الدكَّة اللي برَّة.. عشان صدري طابق عليَّ شوية«!!
زغرت فيه (عيشة) ووبخته متسائلة:
- والله عااااال.. ايش يقولوا علينا الناس؟! تبغاهم يقولوا عيشة طردت جوزها»؟!
وأخذت نفساً عميقاً من مبسم شيشتها الحُمِّي.. ونفثته ببطء فتكثَّف على شكل دخان القنبلة التي اطلقتها الولايات المتحدة على (هيروشيما).. فاختفى رأس (ناجي) في سحابة داكنة لها رائحة الغازات التي تسرَّبت من مفاعل (تشرنوبل)!
قلقت عليه (عيشة):
- «ناجي.. انت فين رحت»؟!
لكنها أطمأنت حينما رأته مطروحا على قفاه، وقالت معاتبة:
- «وهـ يا ناجي.. مداك تنام»؟!
رصَّت بالملقاط جمرتين على رأس الشيشة وهي تقول لنفسها:
- «النفافيخ قطعت نسمُه.. ايش استفدناه من النفخ؟! قطيعة تقطع النفافيخ وسنينها..!
شقشق نور النهار.. وتهيأت (عيشة) للنوم.. كان سعال ناجي متواصلاً فتململت قبل أن تسمح له -بصورة استثنائية- بالخروج.. فهب منتشياً فارتطم رأسه بدرفة الشباك..
انطلق الى دكان (خلف) النجار.. يلعب معه (الضومنة).. الى ان سمع صوت (عثمان الشريف) يؤذن للظهر في مسجد البغدادية..
*****
حينما عاد الى البيت لم تعِّنفه (عيشة)..
ماتت (عيشة)..
بكى (ناجي) بعد الظهر..
وتقبَّل (العزاء) بعد المغرب
ولعب (سكَّة ضومنة) بعد العشاء..!
في اليوم الثالث للعزاء وزّع (ناجي) تركة المرحومة على روحها الطاهرة..
أعطى (حمدون) الشيشة..
وأعطى (التركيبة) لأم (عيد).. كانت قد قاستها في حياة (عيشة) التي أوصت لها بها بعد عمر طويل..
وزع (ناجي) كل (النفافيخ) على أولاد الحارة في جو (مهيب).. ودعا الجميع الله -في هذه اللحظات التاريخية- ان يُسكن الفقيدة فسيح جناته.