عرض مشاركة واحدة
قديم 15-07-2012, 06:03 PM   #5
محمد الساهر
عضو مميز
 
الصورة الرمزية محمد الساهر
 







 
محمد الساهر is on a distinguished road
افتراضي رد: فضل الصدقة في رمضان اللجنة العلمية 29/8/1432 هـ



التصدق على أهل المعاصي
وهناك أمر آخر، وهو: أن مهمتك أن تخرج الصدقة من عندك، وليست مهمتك أن تصل الصدقة إلى موضعها المرجو، فأنت مثلاً تنظر إلى بعض الجيران وهم يدخنون مثلاً، أو لا يهتمون بالأحكام الشرعية، وبعضهم يقصر في الصلاة، ولكنه فقير، فتقول: هذا الرجل لا يستحق الصدقة، سوف أعطيها لرجل ملتزم أفضل منه.


قولك هذا صحيح، ونحن لا ننازعك فيه، ولكن نلفت نظرك إلى شيءٍ هام، وهو: أنك إن أعطيت بعض أهل المعاصي مثل هذه الصدقات فقد يرق قلبه، بالذات -مثلاً- الإخوة الملتحين، فإن كثيراً منهم متهم بغير جريرة، فبعض الناس يأخذ عنه فكرة أنه متشدد، ومتزمت، وأنه يكفر المجتمع، وهذا كله كذب؛ بسبب الدعاية المغرضة لأجهزة الإعلام الكاذبة الفاجرة، التي نسأل الله تبارك وتعالى أن يعامل القائمين عليها بعدله.




فهؤلاء أسهموا بدورٍ فعالٍ جداً في تشويه صورة هؤلاء، وللإنصاف نقول: إن بعض هؤلاء الملتحين يسيئون إلى الإسلام ببعض الأحكام التي يتبنونها بحسن نية ولكن بجهل، وبعضهم يغلظ في النصيحة إغلاظاً شديداً حتى في غير موضعها؛ فيسبب نفرة في القلوب.


وهناك عوارض كثيرة مجتمعة ليس المجال الآن مجال معالجتها وإفرادها بالذكر، ولكن نقول: إن هناك بعض العوام يخافون من الرجل الملتزم، فأنت إذا أعطيت ذلك الرجل هذه الصدقة فلعل قلبه يرق.


وهناك قصة أخرى فقد كان هناك رجل يؤذي الملتزمين (المطاوعة) وقد رأيت بعض الناس وشخص يناديه: يا مطوع، فاعتبرها سبة، والتفت إليه وكاد أن يقتله! فالانتساب إلى السنة والالتزام شرف عظيم، بغض النظر عن هل يقولها سخريةً أو يقولها بجد- فكان يكرههم كثيراً، وبعد مدة حدث عنده حادث ولادة، فحصل لامرأته نزيف حاد واحتاجوا إلى دم، ولا يوجد دم في المستشفى، وهو قد تعرض لأهل السنة بالأذى كثيراً، حتى صار معروفاً لديهم من شدة ما يؤذيهم بلسانه، فقال له بعض الناس: لن يعطيك الدم إلا السنيون، فأنصحك بالذهاب إلى المسجد.

فذهب الرجل على استحياء، وكان ذلك في صلاة الفجر، فقام وقال: إن امرأتي جاء لها نزيف حاد، فهل يعطيني أحد دماً لننقذها؟ فقام كل من كان في المسجد وذهبوا يتسابقون فماذا كانت النتيجة؟
لقد أصبح هذا الرجل من أشد المتعصبين الآن لهؤلاء! انظر إلى الإحسان! {هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلَّا الإِحْسَانُ} [الرحمن:60] ، فإياك أن تتصور أنك تقدم معروفاً ولا تلقاه قد تقابل ببعض الجحود، لكن لابد أن ترى هذه الثمرة يوماً ما، ولو أن هذا الرجل ذهب وقال: أريد دماً.


فقالوا له: بعد هذا السب وهذا الأذى تريد دماً؟! فكيف سيكون حال الرجل؟ سيتحول إلى مقاتل شرس ضد هؤلاء.


إننا نفتقر إلى هذه النماذج للدعوة، فانظر إلى الإحسان إلى أهل المعاصي كيف يحول قلوبهم بإذن الله، فلا تقل: لن أعطي لأحد من أهل المعاصي، بل إن المهتدين أولى أنا معك، لكن ألا يسرك أن تضم إلى ركب المؤمنين رجلاً آخر؟!
هب أنك أعطيت هذا الرجل وظل على عناده، وأعطيته وظل على عناده، فلا تيأس، وانظر إلى حال نفسك: فقد كنت يوماً ما من المخرفين عن طريق الإيمان، فكم من رجالٍ هم الآن صفوة الرجال كانوا من ألد أعداء هذه الدعوة.


وانظر إلى جيل الصحابة حين كانوا كفرة في الجاهلية كـ عمر بن الخطاب مثلاً، كيف حول الله عز وجل قلوبهم بعد ذلك! ولا تتعجل النتائج، واتل قول الله عز وجل: {كَذَلِكَ كُنتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ} [النساء:94] ، ألم تكن من قبل كهذا الرجل فمن الله عليك وهداك إلى الإيمان؟! روى الإمام مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قال رجلٌ: لأتصدقن الليلة بصدقة، فخرج في الليل يخفي صدقته، فوجد امرأة في الطريق فأعطاها الصدقة، فأصبح الناس يقولون: تُصدِّق الليلة على زانية! فبلغ الرجل هذا القول، فقال: الحمد لله على زانية -كأنه رأى أنه لا أجر له طالما أنها لم تقع في موقعها الصحيح، وكان يريد أن تقع في يد مسكينٍ فقير حتى يؤجر، واستاء الرجل وأحس أن صدقته لم تقبل- لأتصدقن الليلة بصدقة -سأتصدق مرةً أخرى لعلها تقع في يد من يستحقها- فوجد رجلاً في الظلام فوضع الصدقة في يده، فأصبح الناس يقولون: تُصدق الليلة على سارق! فقال الرجل: الحمد لله على سارق، لأتصدقن الليلة بصدقة -فرأى أن الصدقة لم تقبل ولم تقع في موقعها في المرة الثانية، فأراد أن يتصدق في المرة الثالثة عساها أن تقع في يد من يستحقها- فخرج فرأى رجلاً في الظلام فأعطاه الصدقة، فأصبح الناس يقولون: تُصدق الليلة على غني -ليس محتاجاً للصدقة، إذاً للمرة الثالثة لم تقع الصدقة في موقعها الذي يريده- فجاءه ملكٌ في صورة رجل فقال له: أما صدقتك فقبلت، أما الزانية فلعلها تتوب، وأما السارق فلعله يستعف، وأما الغني فلعله ينظر فيخرج الذي عنده) ، انظر إلى فائدة التصدق على أهل المعاصي! وكم من النساء انحرفت بسبب أنها ذهبت إلى بعض الرجال ليقرضها فلم تجد، فتتاجر بعرضها، ونحن نحفظ عشرات القصص في ذلك، وكثيرٌ منكم عنده في جعبته الكثير! إن بداية الانحراف لكثير من النساء سببه أنها لم تجد أحداً يعطيها، فتاجرت بعرضها، وتمرست على ذلك، ومع ذلك تسمعها تقول: أتمنى أن أتوب.


فالمتاجرة بالعرض شيء سخيف جداً، وبشع للغاية، والمرأة البغي لا تشعر بأي متعة في هذا أي متعة تستمتعها المرأة؟! تتمنى أن تتوب، لكن من يكفلها؟! فالصدقة والزكاة طهرة للعبد، قال تعالى:: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة:103] ، وقد قاتل أبو بكر الصديق الذين منعوا الزكاة، وسموهم بالمرتدين لأنهم منعوها.


إن ضياع بيت مال المسلمين سبب في وجود كل هؤلاء المجرمين في المجتمع، ولو أن أي رجل عاطل لا يجد عملاً يعطى جزءاً من المال -ولو قرضاً- من بيت المال، ليستعين به في حياته؛ فلن يسلك طريق الإجرام أبداً.


فهذه المرأة أو هذا الرجل الذي يسرق لعله ما بدأ طريق الإجرام إلا بسبب أنه لم يجد يداً حانية تعطيه.


فانظر إلى قصة أصحاب الغار الثلاثة الذين انحدرت عليهم الصخرة، فقال أحدهم: اللهم إنه كان لي ابنة عم، وكانت من أحب الناس إليّ، فألمت بها سنة -أي: مجاعة وحاجة- فجاءت تطلب مالاً، فراودتها عن نفسها فأبت، ولكن اشتد عليها الكرب، فرجعت إليه تضحي بعرضها في سبيل أن تؤكل أولادها -هذا مثل واقع، امتنعت في السابق رجاء أن تجد يداً رحيمة، ولكنها لم تجد، فماذا تفعل؟ تموت هي وأولادها؟ لا، فتذهب تضحي بعرضها لهذا الرجل وتأخذ منه مالاً- قال: فلما قعدت منها مقعد الرجل من امرأته، قالت: اتق الله ولا تفض الخاتم إلا بحقه -إلا بالزواج الشرعي- فقمت عنها وهي أحب الناس إلي.


فهذا الحديث الصحيح يدل على أن كثيراً من أهل المعاصي لم يبدءوا في هذا الإجرام إلا بسبب عدم وجود اليد الحانية.


فإياك أن تحتقر أهل المعاصي، لا تشدد عليهم، وارحمهم، وأنت إنما تفعل ذلك رجاء وجه الله تبارك وتعالى، وهذا الحديث حجة في هذا الباب: فيجوز أن تعطي الزكاة -فضلاً عن الصدقة- لأهل المعاصي، وكم يحصل الإنسان من الأجر إذا سلك طريق الصدقة مع أنها لا تضره!

فإذا جاء إليك السائل فلا ترده، وأعطه من مال الله الذي أعطاك، فإن بعض الناس قد يرد السائل وتجده في المقابل قد ينفق (مائة جنيه) في وجبة غداء، ويعزم جماعة ويقول: هذا من كرم الضيافة، وهذا من أدب الإسلام مع أنه بخل أن يخرج عشرة قروش! هذه طبيعة في بني آدم؛ ولذلك قال الله تبارك وتعالى: {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر:9] .


إن استطعت أن تتقي شح نفسك التي بين جنبيك (فأولئك هم المفلحون) .






الإسرار بالصدقة وثمراته
إن من الناس من أنعم الله عليه بشيء من المال، فما أنكر فضل الله عليه، بل هو ينفق بسخاء ويتسلل إلى المساكين لواذاً، يعلم أن من الفقراء من يحرجه علانية العطاء، فذاك رجل تخطى عقبة الجشع، أنقذه الله ممن عبدوا الدينار والدرهم، فكانوا أحلاس كفر وإمساك، سجاياهم المتكررة منع وهات، بل هات وهات، قد قضوا على أنفسهم أن يعيشوا مرضى بالصحة، فقراء بالغنى، مشغولين بالفراغ، لكنهم مع ذلك لا يجدون في المال معنى الغنى، إذ كم من غني يجد وكأنه لم يجد إلا عكس ما كان يجده، وما علموا قول النبي صلى الله عليه وسلم: {اليد العليا خير من اليد السفلى} متفق عليه.

إن النفس بطبعها تميل إلى إبراز عملها لا سيما الصدقة، كل هذا لأجل أن تُحمد، فإذا ما جاهد المرء نفسه حق له أن يكون من السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، ورحم الله مالك بن دينار حيث يقول: قولوا لمن لم يكن صادقاً: لا يتعنى.


ولقد قال ابن عائشة قال أبي: سمعت أهل المدينة يقولون: ما فقدنا صدقة السر حتى مات علي بن الحسين رضي الله عنه.




ثمرات الإخلاص في الإنفاق


إن المرء أو العبد المؤمن قد ينفق نفقةً يسيرةً لو رآها المنافقون للمزوه، وقالوا: ما هذا؟ ألم يجد إلا هذا؟! ولكنها عند الله تبارك وتعالى عظيمة جداً؛ لأنها خالصة لوجه الله عز وجل، لأن هذا المؤمن التقي أنفق مما يحب، والله تعالى يقول: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران:92] .


ولم يتيمم الخبيث فينفق منه، كما قال تعالى: {وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ} [البقرة:267] ، فهو أنفق مما يحب، وأنفق وهو محتاج، وأنفق وهو صحيح شحيح يخشى الفقر ويرجو الغنى، فلما اجتمعت فيه هذه الأمور -وهي دليل على الإخلاص لله تعالى في نفقته- كانت هذه النفقة -وإن صغرت في أعين الخلق- عند الخالق تبارك وتعالى لها وزن وقدر عظيم جداً، والله عز وجل يُعظِّم أجرها، ويربي هذه الصدقة لصاحبها، وربما وجدها يوم القيامة مثل الجبال وهو لا يعلم، وهذا من فضل الله تبارك وتعالى وجوده وكرمه لمن صدق الله في توجهه له عز وجل.


صدقة السر سبب لدخول المرء فيمن يظلهم الله في ظله
خامس هؤلاء السبعة: قال عليه السلام: (ورجل تصدق بصدقةٍ، فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه) .


لقد مدح الله سبحانه وتعالى صدقة السر فقال: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة:271] ، ولكن قد تكون صدقة العلانية أفضل من صدقة السر؛ وذلك إذا كان هناك حاجة إلى إعلان الصدقة، كالرجل الذي جاء بصرة وقدمها إلى النبي عليه السلام، فجعل الناس يقتدون بهذا الرجل ويقدمون صدقاتهم.


لكن الأصل أن الصدقة تكون سراً؛ لأن الصدقة إنما سميت صدقة؛ لأنها تدل على صدق إيمان صاحبها؛ لأنه إذا أخرجها سراً فإن هذا دليل على أنه لا يريد ثناءً من الناس؛ فإن هذا الثناء قد يجر إلى الرياء والسمعة.


وقال عليه السلام مادحاً صدقة السر: (صدقة السر تطفئ غضب الرب، وتدفع ميتة السوء) ، وهذا الرجل قد تصدق بصدقة فأخفاها، حتى لا تعلم شماله ما أنفقت يمينه، وذلك كناية عن شدة إخفائه عند إخراج الصدقة.


إذاً: أفضل أنواع الصدقة هي صدقة السر.


لذلك على المسلم أن يحرص كل الحرص على أن لا يترك صدقة السر، ولو بشيء يسير، فقد كان بعض السلف يتصدق كل يوم، فإذا لم يجد أحياناً تصدق ببصلة يقدمها إلى فقير.


إن أصحاب صدقة السر هم في ظل عرش الرحمن يوم لا ظل إلا ظله.


السر والعلن في الصدقة


قال سبحانه: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرّاً وَعَلانِيَةً} [البقرة:274] أيضاً النفقة تكون متتابعة بالليل والنهار، سراً وعلانية، فصدقة السر لها ميزان، وصدقة العلانية لها أحوال تكون أفضل، كما إذا كان يشجع غيره ويدفعه للصدقة، وإلا فإن الأصل أن تكون خفية حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، وصدقة السر تطفئ غضب الرب.


ولا شك أن الذي يقول قولاً معروفاً: {قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذىً} [البقرة:263] .


لأن القول المعروف صدقة، والمغفرة أن تغفر للناس ما أخطئوا عليك صدقة؛ هذه صدقتان خير من نفقة وصدقة يتبعها أذى فتكون باطلة.


إذاً: حسنتان أحسن من حسنة باطلة، ولا نريد صدقة بالمنة مهما بلغت، ولو كان الإنسان لا يوجد عنده ما يتصدق به {قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ} [البقرة:263] تصدق حذيفة بدية أبيه على المسلمين حين قتل أبوه في غزوة أحد بسبب ما حصل من اختلاط الأمور، فتصدق على المسلمين بديته.


وكان بعض السلف يتصدق على من آذاه واغتابه في عرضه.


وقد ختم الله سبحانه وتعالى الآية بقوله: {وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ} [البقرة:263] أي: إذا كنتم ستمنون؛ فالله غني عنكم، وإذا كنتم ستئوبون وترجعون؛ فالله حليم لا يعاجل بالعقوبة، ويمهل عبده حتى يئوب إليه ويرجع، والله غني لا يحتاج إلى صدقاتكم فنفعها عائدٌ عليكم أنتم.


الرياء في الصدقة
ولقد بين الله عز وجل مثلاً لمن يرائي في الصدقة فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ} [البقرة:264] هذا الصخر الصلب {عَلَيْهِ تُرَابٌ} [البقرة:264] عليه طبقة من تراب {فَأَصَابَهُ وَابِلٌ} [البقرة:264] أصابه مطر شديد، ماذا سيحصل للتراب الذي على الصخر الأصم الصلب؟ هل سينبت؟! لا.


وإنما سيزول، والمطر يغسل هذا الصخر من التراب، فكأنه لا مكان للبذل أصلاً ولا لخروج شيء {فَتَرَكَهُ صَلْداً} [البقرة:264] أملس كما كان قبل أن يكون عليه تراب {لا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} [البقرة:264] .


فإذاً: هذا معنى أن المن والأذى يحبط الصدقة.


فقلب المرائي مثل الصخر لا ينبت شيئاً ولا ينبت خيراً، كما أن هذه الصخرة التي عليها التراب لم تنبت شيئاً، ما كان عليه إلا قليل من الغبار، شبه ما علق به من أثر الصدقة بالغبار، والوابل الذي أزال ذلك التراب عن الحجر هذا هو المن الذي أذهب أثر الصدقة وأزالها، بخلاف الذي ينفق ابتغاء وجه الله، يقول الله في شأنه: {وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [البقرة:265] الذي ينفق أمواله إخلاصاً لله وتصديقاً بموعود الله وتثبيتاً من نفسه وهو صدقه في البذل والعطاء لا شك أنه في هذه الحالة يكون حاله كمثل جنة -بستان- بربوة، أي: على مكان مرتفع، فإن البستان إذا صار في مكان مرتفع، في طريق الهواء والرياح تسطع عليه الشمس وقت طلوعها واستوائها وغروبها، ويكون الثمر أنضج وأحسن وأطيب ولا شك في ذلك، بخلاف الثمار التي تنشأ دائماً في الظلال، ولذلك قال في الزيتونة: {شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ} [النور:35] أي: معتدلة في الوسط، الشمس تأتي عليها في جميع الأوقات {يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ} [النور:35] فهذا أنفس الزيتون، وأنفس الأشجار ما تكون بهذه الصفة، فهذه الجنة التي بهذا المرتفع المتعرضة للشمس إذا أصابها الوابل والمطر الشديد آتت أكلها ضعفين؛ أعطت البركة أخرج ثمرتها ضعفي ما يثمر غيرها {فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ} [البقرة:265] إذا ما أصباها وابل {فَطَلٌّ} وهو دون الوابل الرش الخفيف؛ هذا يكفي لإنباتها أيضاً، لكن إنباتاً دون الإنبات الأول، فهذا مثل ضربه الله سبحانه وتعالى للسابق بالخيرات والمقتصد المقتصد صاحب الطل، والسابق بالخيرات صاحب الوابل.


إذاً: هذا مثل المرائي ومثل الذي ينفق إخلاصاً لله سبحانه وتعالى.


ثم إن الله عز وجل ضرب مثلاً آخر في سورة البقرة التي فيها هذه الأمثال العظيمة حاثاً عباده على أن تكون صدقاتهم خالصة له عز وجل، قال: {أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ}



[البقرة:266] هذا الشخص تعلق قلبه بهذه الجنة من نواحي كثيرة: أولاً: أن فيها أعناب ونخيل، وهي من أنفس الثمار.


ثانياً: أن هذا البستان يجري من تحته الأنهار.


ثالثاً: أنه ليس فقط فيها أعناب ونخيل، وإنما فيها من كل الثمرات.


رابعاً: أن هذه الجنة التي فيها أشرف أنواع الثمار التي يؤخذ منها: القوت، والغذاء، والدواء، والشراب، والفاكهة، والحلو والحامض التي تؤكل رطباً ويابسةً، أي: النخيل والعنب؛ هذه صفاتها، وبالإضافة إلى كل الثمرات؛ فإن هذا الرجل قد كبر سنه، ولا شك أن الإنسان إذا كبر سنه لا يقدر على الكسب والتجارة ويحتاج إلى الأشياء التي لها مدخولات ثابتة كالمزارع والعقار، ولذلك أصابه الكبر، فهو يحتاج إليها حاجة شديدة الآن، وكذلك فإن هذا الرجل إذا كبر سنه اشتد حرصه فتعلق قلبه بها أكثر، فإن الإنسان يهرم ويشب معه حب المال والحرص.
وكذلك فإن هذا الرجل له ذرية؛ والذي له ذرية يحب أن يحفظ أمواله حتى يبقيها للذرية والأولاد، وبالإضافة إلى ذلك فإن هؤلاء الذرية ليسوا كباراً وإنما هم ضعفاء، وإذا كانت الذرية ضعفاء؛ فسيكون حرصه على هذا المال أكثر؛ لأن الذرية ضعفاء صغار لا يستطيعون الكسب، وكذلك فإنه هو الذي ينفق عليهم لضعفهم وعجزهم، كيف تكون مصيبة هذا الرجل إذا أصبح يوماً فرأى أن جنته قد احترقت بإعصارٍ فيه نار فاحترقت وصارت رماداً، كيف تكون وقع المصيبة عليه؟!

هذا الرجل مثله مثل رجل عمل أعمالاً في الدنيا لكن برياء ومنّ وأذى، فجاء يوم القيامة وهو أحوج ما يكون إلى ثواب الأعمال؛ لأن أمامه النار والهلاك والدمار، فرأى أنه لا شيء له ألبتة؛ لأنها كلها ذهبت بالرياء والمن والأذى، فهذا مثل ضربه الله سبحانه وتعالى والله يضرب الأمثال للناس لعلهم يعقلون، وهذا مثل قلّ من يعقله من الناس، فكل واحد تسول له نفسه إحراق أعماله الصالحة بالرياء، فليتأمل هذا المثل، وليعرف أيضاً عظم المصيبة التي تنزل عليه عندما يدخل في موضوع الرياء أو يدخل الرياء في أعماله.





فوائد الصدقة
فائدة الصدقة إنما تكون لنفس المتصدق
أنت تتصدق على نفسك، وليس على غيرك، فأكثر إن شئت، أو أقلل، قال الله تعالى: {وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ} [البقرة:272] وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {أيكم ماله أحب إليه من مال وارثه، قالوا: يا رسول الله، كلنا ماله أحب إليه من مال وارثه، قال: فإن ماله ما قدم، ومال وارثه ما أخَّر} .
أنت حين تجمع المال وتضعه في الأرصدة، وقد بلغت الستين، أو الخمسين، أو السبعين، أو ما أشبه ذلك، هل تنتظر عمراً آخر تصرف فيه هذا المال؟، بل أنت حين تكون كبير السن عاجزاً وقليل الأكل، وقليل الشرب، قليل اللبس، وزاهداً في متاع الدنيا، ومع ذلك تمسك بهذه الأموال، فماذا تنتظر فيها؟

إن الإنفاق له فوائد أخرى غير الجوائز الأخروية التي فيها ثقل كفة الحسنات: فبه كذلك رفع الدرجات في الدنيا، فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (اليد العليا خير من اليد السفلى) ، فالمنفق خير من المنفَق عليه؛ وكذلك هو مدعاة للغنى، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (يقول الله تعالى: يا ابن آدم! أنفق أُنفق عليك) ، وقال صلى الله عليه وسلم: (ما من يوم تطلع فيه الشمس إلا وملكان ينزلان، يقول أحدهما: اللهم أعط منفقاً خلفاً، ويقول الآخر: أعط ممسكاً تلفاً) هذا في كل يوم تطلع فيه الشمس، ملكان ينزلان يرسلهما الله سبحانه وتعالى، ولا يمكن أن يدعو الملك إلا بما عين له كالشفاعة لا تكون إلا بإذنه: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} [الأنبياء:28] ، فلا يمكن أن يدعو الملك إلا لمن أذن الله بالدعاء له.


ثم إن من فوائد الإنفاق الدنيوية أنه يرد الله به البلاء، فإن الصدقة تصطرع مع البلاء في السماء، وترده عن أهل البيت؛ ولهذا رتب الله على ابن آدم ثلاثمائة وستين صدقة كل يوم تطلع فيه الشمس، مقابل ما فيه من المفاصل، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (كل سلامى من الناس عليه صدقة كل يوم تطلع فيه الشمس.
) ، وفي صحيح مسلم من حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله خلق ابن آدم على ستين وثلاثمائة مفصل، وجعل على كل مفصل صدقة كل يوم تطلع فيه الشمس) ، في كل مفصل من المفاصل، سواء كانت مما يعرفه الأطباء، ومما يدرك بالتشريح، أو كانت من المخفيات التي لا تعرف بالعين المجردة، فإن كل تلك المفاصل -عظيمها ودقيقها- رتب الله عليه صدقة كل يوم تطلع فيه الشمس، ويجزئ من ذلك أن يصلي المؤمن ركعتين وقت الضحى، فركعتان وقت الضحى تقومان مقام ثلاثمائة وستين صدقة؛ لكن لا شك أن هذا الترتيب هو إرشاد للعبد، ونفع له، وتقوية لهذه الجوارح، وسعي لتمتيعه بها، ودفع للضرر عنها، فما أحوجنا إلى مثل هذه الصدقات التي ترفع البلاء عن أهله في الدنيا، وترفع المنازل وتطفئ غضب الرب سبحانه وتعالى، وهي مع ذلك تضمن للإنسان الزيادة؛ فالصدقة لا تنقص المال كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما نقصت صدقة من مال) ، فالصدقة لا تنقص المال، بل تزيده، وما يبذل الإنسان من المال؛ ابتغاء مرضات الله سبحانه وتعالى مخلوف عليه قطعاً، لا بد أن يناله في هذه الحياة الدنيا، فضلاً عن أجره يوم القيامة، والله سبحانه وتعالى غني عن دراهم الناس ودنانيرهم، وأعطياتهم وإمدادهم، وإنما امتحنهم ليعلم الذين يؤثرون الآخرة على الأولى، ويتقربون إليه بما آتاهم.



الفائدة الأولى: الصدقة بركة وزيادة في الدنيا والآخرة
ثم قال عز وجل: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} [البقرة:276] وهذا عكس ما هو مشاهد الآن في الميزان الاقتصادي المادي، أن الربا زيادة والصدقة نقص، لكن عند الله الربا نقص والصدقة زيادة، كيف؟ يقول العلماء: إذا كان عندك -مثلاً- أربعمائة ريال في جيبك، وعرض عليك مشروع خيري، أو رأيت فقيراً، أو علمت بأسرة محتاجة، وأخرجت من هذا المبلغ خمسين ريالاً أو مائة ريال، لما تأتي تعد الباقي في الشنطة تجد أن الباقي ثلاثمائة ريال، الظاهر أنه نقص، لكن الله يقول: {وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} [البقرة:276] كيف يربيها؟ قالوا: أولاً: هذا المبلغ الذي أخذ منك يربيه الله في الآخرة حتى يصبح كالجبال الرواسي: (إن الله ليربي لأحدكم صدقته كما يربي أحدكم فلوه) أنت تضعها ريالاً لكنها تأتي يوم القيامة مثل الجبال، هذه واحدة.


ثانياً: يصرف الله عن الإنسان من الآفات والمشاكل التي كان بالإمكان أن تلتهم هذه المائة وأضعافها الشيء الكثير -فمثلاً- يصرف الله عنه مرض زوجته بأسباب الصدقة، ويصرف الله عنه السقم من أولاده بأسباب الصدقة، ويصرف الله عنه الحوادث في سيارته بأسباب الصدقة، ويصرف الله عنه الفساد في زراعته وتكون مزارعه باستمرار محفوظة، ويصرف الله عنه الكساد في تجارته، وتكون تجارته مطلوبة، وبضاعته مرغوبة، وجلبه للزبائن محبوب، بأسباب أنه أنفق، لكن لو أنه ما أنفق في سبيل الله، وأعطى هذه المائة لشخص قرضاً بمائتين بعد ذلك، لكن الله يمحقه؛ أولاً: تمرض المرأة، وإذا مرضت تلك الليلة يذهب بها إلى المستشفى، وفي المستشفى لا يريدون علاجها؛ لأنهم يقولون: بلاش، فيذهبون المستوصف ويخسر خمسين ريالاً وأعطاه قبضة حبوب، وبعد ذلك يمرض الولد، وبعد ذلك يوقف السيارة وإذا هي مصدومة في جنبها لا يدري من صدمها، وبعد ذلك زراعته تخرب وبركة أمواله وبركة حياته في أكله حتى في طعامه لا يجد له بركة بأسباب الربا، فالله يقول: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} [البقرة:276] يقول في الحديث: (ما نقص مال من صدقة بل تزيد، بل تزيد، بل تزيد) وفي بعض الآثار: [ما هلك مال في بر ولا بحر إلا بأسباب منع الزكاة].


أحد التجار يخبرني حكاية عن تاجر في مكة، يقول: كان له تجارة بينه وبين الهند، وبعد ذلك الباخرة آتية، وكانت البواخر يوم ذاك تسير (بطرب) بدائية عن طريق الشراع وليس بالبواخر الحديثة، وفي البحر اضطربت الباخرة وهاجت وتكسرت، وكادت أن تغرق، ولكن ربانها -أهل السفينة- خففوا من البضائع أملاً في نجاة أنفسهم، ولا يعلمون لمن البضائع طبعاً؛ لأنهم مؤتمنين عليها آتين بها من الهند، فقاموا يأخذون من الكراتين ويرمون البضاعة، حتى بقي شيء تنجو به السفينة، إلى أن وصلوا ميناء جدة، وفي ميناء جدة كان كل التجار واقفين وكل واحد منهم لديه كشفه يريد أن يستلم بضاعته، ووجدوا أن البضائع كلها مرمية إلا تاجر بضاعته ما ذهب منها ولا كرتون، لما جاءوا عليه وإذا به من أهل الزكاة ومن أهل الصلاة ومن أهل الخوف من الله، وأولئك بضاعتهم فيها حرام، وفيها منع زكاة، وفيها ربا، ذهبت [فلا هلك مال في بر ولا بحر إلا بأسباب منع الزكاة] .


فهنا يقول الله: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} [البقرة:276] أي: يزيدها؛ لأنه كما جاء في الحديث الصحيح: (ما من يوم تشرق فيه الشمس إلا وملك ينادي يقول: اللهم أعط منفقاً خلفاً، وأعط ممسكاً تلفاً) هذه دعوة الملك يدعو لك كل يوم: يا من أنفقت في سبيل الله! يا من أنفقت فيما يرضي الله! أن الله يخلف عليك، الفقير عندما تعطيه ريالاً، يقول: خلف الله عليك، بارك الله لك، جزاك الله كل خير، الله يوسع عليك، الله يمدك، الله يعطيك، سبحان الله! {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [سبأ:39] تبارك وتعالى.




الفائدة الثانية: الصدقة من أسباب رفع البلايا
إن من أعظم ما يدفع الله تعالى به العذاب الصدقة، كما قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {اتقوا النار ولو بشق تمرة} وهي من أفضل الأعمال، فإنها تطفئ الخطايا، ويدفع الله تعالى بها البلايا، ولا شك أننا في بلد أنعم الله علينا فيه بنعم عظيمة، ولو تذكرنا حال الأمم والشعوب الأخرى لعجبنا، فنحن هنا لا نتضرع، وقليل من الناس من يتضرع إلى الله كل يوم أن يطعمه الله أو يسقيه، فنحن لا نسأل الله ذلك؛ لأن الطعام والشراب والأكل متوفر عندنا، وقد يوهمنا الشيطان أننا لا نحتاج إلى الله -تعالى الله عن ذلك- فلوفرته فهو مثل الهواء مع أنه حتى الهواء نحتاج أن ندعو الله أن يحفظه لنا، وفي كل شيء نحتاج أن ندعو الله.
ولنضرب لكم مثلاً مما نعيشه، فنحن لا يهمنا مسألة الطعام والشراب، وإنما أكثر الناس همومهم في العمارات وفي غيرها، وفي أرزاقهم ووظائفهم وفي زيادة مالٍ في كذا وكذا، وأكثر من نصف الشعوب في العالم -كما في تقارير الأمم المتحدة- تعاني من سوء التغذية، فهي تحتاج أن تأكل أكلاً سليماً، وتحتاج أن تشرب ولكنها لا تجد!! فانظروا كيف هذا الحال الذي نعيش فيه، وكيف تعيش تلك الشعوب والأمم، الواحد منا لو سافر إلى تلك البلاد ومعه الأموال -والحمد لله- قد لا يجد أكلاً نظيفاً يأكله، وقد لا يجد ما يريد من الفاكهة وإن وجد فقد يجد نوعاً رديئاً في حالة يرثى لها، بينما هنا الفاكهة تداس وترمى، وتورد بملايين الأطنان، فنحن نعيش في بحبوحة ورخاء وسراء، ثم نغفل عن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وانتقامه وسريع غضبه، ولا نفطن لأحوال إخواننا المسلمين الذين يحتاجون إلى ذلك.


فأقول: يجب مضاعفة النقود في التصدق لمنفعتها، بل لمنافعها العظمى التي منها أن يدفع الله تبارك وتعالى عنا العذاب ويرفعه.

الفائدة الثالثة: من أسباب الوقاية من عذاب النار
من المعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب النساء كما في الصحيحين، من حديث ابن عباس: فوعظهن وذكرهن وقال: {يا معشر النساء! تصدقن ولو من حليكن؛ فإني رأيتكن أكثر حطب جهنم، فقامت امرأة منهن سفعاء الخدين، فقالت: لم يا رسول الله؟ قال: لأنكن تكثرن الشكاة، وتكفرن العشير، لو أحسنت إلى إحداهن الدهر كله ثم رأت منك شيئاً قالت: ما رأيت منك خيراً قط} ففي هذا الحديث، أمر النبي صلى الله عليه وسلم المسلمات بالصدقة {تصدقن يا معشر النساء ولو من حليكن} فإذا لم تجد المرأة ما تتصدق به فلتخرج من حليها، من حليها الذي في يدها أو على صدرها، أو قرطها الذي في أذنها، أو خلخالها الذي في رجلها، أو محزمها أو من حليها الذي تحتفظ به في بيتها.
فإن هذه الصدقة من أعظم وأهم أسباب النجاة من عذاب النار، ولهذا قال: {تصدقن فإني رأيتكن أكثر حطب جهنم} فدل على أن الصدقة من أعظم أسباب الوقاية من عذاب النار، ومن أهم أسباب النجاة من السعير، ومن أهم أسباب دخول الجنة، والمرء في ظل صدقته يوم القيامة ذكراً كان أو أنثى.


فعلى المرأة المسلمة أن تساهم في الصدقة، وإنني أسأل الله تعالى لكل أخت مسلمة، جادت يدها بما تستطيع، أن يجعل الله تعالى ما جادت به رفعة في درجاتها، وطولاً في عمرها، وصحة في بدنها، وسعادة في قلبها، وصلاحاً في ولدها، وعافية لها، ورفعة في درجاتها عند الله تعالى يوم القيامة، ونجاة لها من عذاب السعير، اللهم آمين اللهم آمين.


والصدقة فداء للنفس من عذاب الآخرة، فقد أخبر الله تعالى عن الكفار: أنه لو كانت لهم الدنيا ومثلها معها في الدار الآخرة، لافتدوا بها من سوء العذاب يوم القيامة، فلماذا لا يفتدي الإنسان نفسه باليسير؟ قال الله عز وجل: {قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ} [إبراهيم:31] ليس في ذلك اليوم بيع، ولا شراء، ولا صداقة، ولا علاقة، وإنما هي الحسنات والسيئات.

الفائدة الرابعة: الصدقة برهان الإيمان
والصدقة دليل على صدق إيمان صاحبها، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام، في حديث أبي مالك الأشعري، في صحيح مسلم: {والصدقة برهان} لأن النفس مجبولة على حب المال، فإذا تخلص الإنسان من الشح وحب المال وأخرج المال، دل على أنه يقدم مرضات الله تعالى ومحبوب الله تعالى على محبوب نفسه، ويتخلص من شح نفسه قال الله: {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر:9] والأحاديث الواردة في الصدقة كثيرة جداً؛ لكن ينبغي أن يحرص الإنسان على أن يستتر بصدقته.
ولذلك جاء في الحديث الذي رواه الطبراني بسند حسن -كما يقول الدمياطي في المتجر الرابح- عن أبي أمامة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {صنائع المعروف تقي مصارع السوء، وصدقة السر تطفئ غضب الرب، وصلة الرحم تزيد في العمر} فليحرص الإنسان على الاستكثار من هذه الأشياء، وعلى أن تكون صدقته سراً.
ومن الخطأ أن يتصدق الإنسان بمائة ألف ريال أو بخمسمائة ألف ريال من أجل أن يكتب اسمه في الجريدة، أو يكتب اسمه في دفتر التبرعات، أو يذكر عنه أنه المحسن الفلاني، اللهم إلا أن يكون قصده أن يكون في ذلك حثاً وتشجيعاً للناس على الصدقة، وإثارة المنافسة بينهم في العمل الصالح فهذا جيد، أما إن كان القصد الرياء والقيل والقال؛ فهذا -والعياذ بالله! - خسارة الصحابة في الدنيا ووبال عليه في الآخرة.
الفائدة الخامسة: الإنفاق زيادة لا نقصان
يكفي أن تعلم أن هذا الإنفاق الذي ينفقه الإنسان لا ينقص من ماله بل تزيده، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم عن أبي هريرة: {ما نقص مال من صدقة، وما زاد الله عبداً بعفو إلا عزاً، وما تواضع أحد لله إلا رفعه} فأثبت عليه الصلاة والسلام أن الصدقة لا تنقص المال بل تزيده، وهذه الصدقة التي لا تنقص مالك هي تزيد في أعمالك وقربك من الله عز وجل.
الفائدة السادسة: الصدقة من أعظم أسباب دخول الجنة
وهي من أعظم أسباب دخول الجنة، واسمع بعض هذه الأحاديث الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، روى أبو كبشة رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: {أحدثكم حديثاً فاحفظوه: ما نقصت صدقة من مال، ولا فتح عبد على نفسه باب مسألة إلا فتح الله تعالى عليه باب فقر، ولا تواضع أحد لله إلا رفعه -ثم قال-: وأحدثكم حديثاً فاحفظوه، إنما الدنيا لأربعه نفر: رجل آتاه الله مالاً وعلماً، فهو ينفق ماله في علمه، ويتصدق، ويصل رحمه، وينفق في سبيل الله؛ فهو أفضلهم، ورجل آتاه الله علماً ولم يؤته مالاً فهو يقول: لو أن لي مثل مال فلان لعملت مثل ما عمل.
فهما في الأجر سواء.
ورجل آتاه الله مالاً ولم يؤته علمه فهو يخبط فيه ولا يتقي الله عز وجل، ولا يصل به رحمه ولا يعطي منه المسكين، فهو أخبثهم منزلةً.
ورجل لم يؤته الله تعالى مالاً ولا علماً، فيقول: لو أن لي مثل مال فلان لعملت مثل ما عمل.
فهما في الوزر سواء} .
والحديث رواه الترمذي وابن ماجة، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
وذلك يدل على أن نية المؤمن الصادقة على الإنفاق في سبيل الله وغير ذلك من أبواب الخير، أنها تبلغه منازل العاملين، متى كانت نيةً صادقة من أعماق قلبه، وليست مجرد أمنية، ففرق بين النية والأمنية، لأن بعض الناس يقول: لو عندي، لكن لو أعطاه الله عز وجل لكفر: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ * فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ * فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ} [التوبة:75-77] ففرق بين الأمنية وبين النية الصادقة المبيتة الجازمة، أنه لو أعطاك الله مالاً لفعلت مثل فلان، أو لو رزقك الله علماً لفعلت به مثل فلان.
وفي صحيح مسلم، من حديث أبي هريرة: {أن رجلاً من بني إسرائيل سمع صوتاً في السحاب يقول: اسق حديقة فلان اسق حديقة فلان.
فلما توسطت السحاب المزرعة أمطرت ما فيها، فذهب الرجل فإذا فلاح يحول الماء بمسحاته، فاستوعبت الشريجة ذلك الماء كله، فقال له الرجل: ما اسمك يا عبد الله؟ قال: اسمي فلان -بالاسم الذي سمعه في السحابة- فقال: وماذا تصنع؟ قال: وما ذاك؟ قال: سمعت صوتاً في السماء يقول: أسق حديقة فلان أسق حديقة فلان، فلما توسطت السحاب مزرعتك أمطرت.
فقال: أما إن قلت ذاك، فإنني إذا أخذت ثمرة هذه الحديقة تصدقت بثلثها، وجعلت ثلثها فيها، -أي رده في بذرها وإصلاحها- وأكلت أنا وأولادي ثلثها} .
فمن أجل ذلك وسع الله على هذا الرجل، وبارك له في رزقه وفيما أعطاه، حتى إن ملكاً موكلاً بالسحاب، يقول: اسق حديقة فلان اسق حديقة فلان، يخصه دون غيره من الناس، ولذلك لا تعجب إذا رأيت الناس الذين أصيبوا بالكوارث والمصائب والنكبات، إنما أتوا من قبل أنفسهم.
يقول لي أحد الإخوة القضاة: إنه جاءه رجل يشتكي إليه أن صاعقةً نزلت على غنمه فأتلفت منها مئاتاً -أكثر من سبعمائة رأس- فهو يأتي للمحكمة حتى تسجل له ويعوض عنها، يقول: فقلت له ذات مرة: ما سبب هذه المصيبة التي نزلت بك؟ لعلك لا تخرج الزكاة؛ قال: فرأيت الرجل تأثر ثم خرج من عندي ولم يعد بعد ذلك، وكأن هذه الكلمة وقعت من الرجل موقعاً، وعرف أن ما أصابه بسبب ذنوبه، فلم يرد أن يأخذ تعويضاً أو مقابلاً لذلك، ولعله تاب إلى الله عز وجل، ولذلك ينبغي علينا جميعاً أن نحرص على أن نتقي النار بالزكاة والصدقات والنفقات.
وقد جاء في الحديث المتفق عليه عن عدي بن حاتم رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه ليس بينه ويبنه ترجمان، فينظر أيمن منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر أشام منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر أمامه فلا يرى إلا النار، فاتقوا النار ولو بشق تمرة} وفي الحديث الآخر المتفق عليه -أيضاً-: {أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أتى النساء وعظهن وذكرهن، وقال: يا معشر النساء تصدقن ولو من حليكن، فإني رأيتكن أكثر أهل النار} فبين عليه الصلاة والسلام أن
الفائدة السابعة: النفقة سبب في دعاء الصالحين لك
هي سببٌ في دعاء الصالحين لك بالخير، ولهذا قال الله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} [التوبة:103] فكان عليه الصلاة والسلام يأخذ الصدقة والزكاة، ثم يقول: {اللهم صلِّ على آل بني فلان، اللهم صلِّ على آل أبي أوفى} كما في الصحيح، وكذلك قال الله تعالى في الآية السابقة: {وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ} [التوبة:99] أي: دعواته لهم.
إن المؤمنين جميعاً يدعون للمنفقين، بل وحتى الملائكة، فما من شمسٍ تطلع إلا وملكان يقولان: {اللهم أعط منفقاً خلفاً} وهكذا الصالحون من المؤمنين يدعون للمنفقين.
وأقول أيها الأحبة: حق عليَّ وعليكم أن ندعو سراً وجهاراً حتى في صلاتنا وسجودنا للذين يساهمون في أعمال الخير، ويدعمون مشاريعها سواء عرفوا، أو لم يعرفوا، هذا بعض حقهم، وإذا كنت أنت عاجزاً عن الإنفاق، فادع لمن أنفقوا، فإنك لست عاجزاً عن الدعاء.
الفائدة الثامنة: النفقة طهارة للنفس
الثانية عشرة: النفقة مضاعفة في أجرها وثوابها، قال الله تعالى: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ} [البقرة:276] وقال تعالى: {إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ} [الحديد:18] وقال: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ} [البقرة:261] .
الفائدة التاسعة: عدم الإنفاق مهلكة
الثالثة عشرة: ترك الإنفاق مهلكة في الدنيا والآخرة، فأنفقوا في سبيل الله، قال تعالى: {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة:195] .

الفائدة العاشرة: الإنفاق سبب لرحمة الله
الخامسة عشرة: هي طهارة للنفس وزكاء لها، كما قال سبحانه وتعالى: {تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} وقال تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} [الأعلى:14-15] وقال: {وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى} [الليل:17] يعني: النار، {الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى} [الليل:18] .
الفائدة الحادية عشرة: هي سبب لرحمة الله عز وجل للمتصدقين والمنفقين
قال جل وعلا: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنَا يُؤْمِنُونَ} [الأعراف:156] .
الفائدة الثانية عشرة: هي سبب للتكفير ومغفرة الذنوب
قال الله تعالى: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ} [البقرة:271] وقال النبي صلى الله عليه وسلم: {يا معشر النساء! تصدقن ولو من حليكن} والحديث جاء أصله في الصحيحين في قصة خطبة العيد، وجاء -أيضاً- عن زينب امرأة عبد الله بن مسعود كما عند الترمذي وأبي داود، وهو حديث حسن، وله شواهد.
الفائدة الثالثة عشرة: الله غني عنكم والصدقة قربة منه تعالى
الله غني عنك، وإنما ابتلاك ليعلم -وهو أعلم في كل حال- أتشكر أم تكفر: {لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ} [النمل:40] وقال الله تعالى: {وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الحديد:10] .
إن الله تعالى لو شاء، لأجرى الجبال ذهباً وفضةً مع نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، فلم يكن به حاجة عليه الصلاة والسلام أن يربط على بطنه حجرين من الجوع يوم الأحزاب، ولكن هكذا الدنيا، هكذا أرادها الله عز وجل، والله تعالى قادر على أن يعطي جنده وأولياءه والمجاهدين في سبيله من نعيم الدنيا الشيء الكثير، ولكنها دار الابتلاء.

الفائدة الرابعة عشرة: النفقة سبب في دعاء الصالحين لك
هي سببٌ في دعاء الصالحين لك بالخير، ولهذا قال الله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} [التوبة:103] فكان عليه الصلاة والسلام يأخذ الصدقة والزكاة، ثم يقول: {اللهم صلِّ على آل بني فلان، اللهم صلِّ على آل أبي أوفى} كما في الصحيح، وكذلك قال الله تعالى في الآية السابقة: {وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ} [التوبة:99] أي: دعواته لهم.
إن المؤمنين جميعاً يدعون للمنفقين، بل وحتى الملائكة، فما من شمسٍ تطلع إلا وملكان يقولان: {اللهم أعط منفقاً خلفاً} وهكذا الصالحون من المؤمنين يدعون للمنفقين.
وأقول أيها الأحبة: حق عليَّ وعليكم أن ندعو سراً وجهاراً حتى في صلاتنا وسجودنا للذين يساهمون في أعمال الخير، ويدعمون مشاريعها سواء عرفوا، أو لم يعرفوا، هذا بعض حقهم، وإذا كنت أنت عاجزاً عن الإنفاق، فادع لمن أنفقوا، فإنك لست عاجزاً عن الدعاء.
الفائدة الخامسة عشرة: شرف المتصدق
الله عليم بما أنفقت ومُطِّلع عليه، وحسبك بذلك شرفاً ورفعة، قال تعالى: {وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ} [البقرة:273] وقال: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ} [البقرة:270] .

الفائدة السادسة عشرة: النفقة سبب في دعاء الصالحين لك
تاسعاً: هي سببٌ في دعاء الصالحين لك بالخير، ولهذا قال الله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} [التوبة:103] فكان عليه الصلاة والسلام يأخذ الصدقة والزكاة، ثم يقول: {اللهم صلِّ على آل بني فلان، اللهم صلِّ على آل أبي أوفى} كما في الصحيح، وكذلك قال الله تعالى في الآية السابقة: {وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ} [التوبة:99] أي: دعواته لهم.
إن المؤمنين جميعاً يدعون للمنفقين، بل وحتى الملائكة، فما من شمسٍ تطلع إلا وملكان يقولان: {اللهم أعط منفقاً خلفاً} وهكذا الصالحون من المؤمنين يدعون للمنفقين.
وأقول أيها الأحبة: حق عليَّ وعليكم أن ندعو سراً وجهاراً حتى في صلاتنا وسجودنا للذين يساهمون في أعمال الخير، ويدعمون مشاريعها سواء عرفوا، أو لم يعرفوا، هذا بعض حقهم، وإذا كنت أنت عاجزاً عن الإنفاق، فادع لمن أنفقوا، فإنك لست عاجزاً عن الدعاء.
الفائدة السابعة عشرة: الانتقال من الشح إلى البذل
رمضان شهر الإنفاق، شهر العطاء، ليس عطاء المال وحده، بل عطاء في النفوس التي تنشرح، والابتسامات التي تظهر، والصلات التي تمتد، والزيارات التي تحصل، والألفة التي ترى، والاجتماع الذي يشهد.
صورة جميلة رائعة من بذل النفوس والقلوب والأرواح، وبذل الجيوب والأموال والدرهم والدينا.
لمه؟ لأسباب كثيرة، فضيلة الزمان، ومضاعفة الأجر، وكلنا يعرف ذلك في رمضان، ثم اختصاص للصدقة في شهر رمضان، كما ورد في سنن الترمذي من حديث المصطفى عليه الصلاة والسلام: (أفضل الصدقة صدقة رمضان) .
ثم ماذا؟ اجتماع الصيام والصدقة في سياق واحد من الأعمال المفضية إلى دخول الجنة، كما روى علي بن أبي طالب فيما أخرجه الترمذي في سننه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال فيما ذكر من الأمور التي تدخل الجنة في شأن عباد الله الصالحين، قال عليه الصلاة والسلام: (إن في الجنة غرفاً يرى ظهورها من بطونها، وبطونها من ظهورها، فلما سألوا: هي لمن يا رسول الله؟! قال: لمن أطعم الطعام، وأدام الصيام، وصلى بالليل والناس نيام) ، والصدقة فيها في رمضان إطعام الطعام، وفي رمضان الصلاة والناس نيام، وفيه كذلك الصيام، فلما اجتمعت هذه أحب كل مؤمن أن يجمعها في شهره لعله يتعرض لنفحات الله عز وجل فيستوجب رحمته ومغفرته، وينال بإذن الله عز وجل يوم القيامة جنته.
وخصيصة أخرى كذلك، وهي في حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم: (الراحمون يرحمهم الرحمن) ، فبقدر رحمتك بالخلق تفيض عليك رحمة الله، ونحن نعلم أن القلوب ترق في رمضان، وأن الرحمة تفيض فيه، وأن الإنسان يشارك الفقراء والأيتام والمحرومين مشاعرهم ويرحمهم، فيكون أكثر عرضة لرحمة الله سبحانه وتعالى.
وخصيصة أخيرة، وهي أن ثمة نوعاً من الصدقة خاصاً بهذا الشهر يأتينا في جانبين: (من فطّر صائماً فله مثل أجره دون أن ينقص ذلك من أجر الصائم شيئاً) ، فلذلك نرى الناس وهم يسارعون إلى تفطير الصائمين ليبلغوا أجرهم ويتعرضوا لرحمة ربهم.
ومن جهة أخرى فإننا نعلم أن الكفارات تكفر الذنوب، وهي أنواع كثيرة، منها الصيام، ومنها إطعام الفقراء والمساكين، فاجتمعت الأسباب كلها ليعمد المسلمون إلى أن يخصوا هذا الشهر مع ارتباطهم بالقرآن، ومع كثرة الصلاة، ومع وجود الصيام بالإنفاق، فتجود به النفوس، وتسخو به، فلا يغالبها شح، بل تنتصر بإذن الله عز وجل فيها إرادة الخير وابتغاء الأجر: {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر:9] .
وتستحضر النفوس قول الله تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ} [البقرة:261] ، كم هو الأجر عظيم! وكم هو الثواب جزيل! وكم هي أعطيات الله عز وجل التي لا يحدها حد ولا يحيط بها وصف! فعطاؤه سبحانه وتعالى غير مجذوذ.





طرق الحث على الإنفاق وأنواعها
قال تعالى{وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا} [الحديد:10] لقد جاءت الزكاة بمعناها الشرعي الخاص في أكثر من ثلاثين موضعاً في القرآن الكريم، وحث الله تعالى على الصدقة والإنفاق، وتنوعت في ذلك الطرائق، وأهم تلك الطرق التي رصدتها في القرآن والسنة في الحث على الإنفاق تقرب من عشرين طريقة، أسردها على عجالة كما يلي:
إنها سنة ماضية، وأهل هذا الدين مبتلون ومختبرون، فعلينا -أيها الإخوة وأيتها الإخوات- أن نفزع مع إخواننا المسلمين، وأن نصدق الله تعالى، وألا نمل ولا نكل ولا نحتقر شيئاً مهما قل؛ فإن الصدقة يربيها الله تعالى للإنسان، كما يربي أحدنا فلوه، حتى تكون كالجبل العظيم، أو تحسد نفسك الخير والمعروف والبر والجود؟ والله تعالى يقول: {وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ} [البقرة:272] .
فيا أيتها الأخوات المؤمنات -وأنا إذ أنادي النساء خاصة فإني أريد أن أثير حمية الرجال أيضاً- يا أيتها الأخوات المؤمنات تصدقن ولو من حليكن، كما قال لكن الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم الناصح الأمين {تصدقن ولو من حليكن، فإني رأيتكن أكثر حطب جهنم} ويا أيها الرجال، إذا بذلت النساء، وتخلت المرأة المسلمة عن ساعتها أو عن قرطها، أو عن شيء من حليها، أفتعجز أنت أن تتخلى عن جزء من مرتبك أو رصيدك، في سبيل الله تعالى.
إن المحروم من حرم هذا الخير، خاصة في هذه الأيام المباركات، والساعات التي يرجى أن تضاعف فيها الحسنات، وتقال فيها العثرات، وتكفر فيها السيئات.
فأسأل الله تعالى أن يجعلنا وإياكم جميعاً ممن أسرعوا إلى الخيرات، وسابقوا إليها فكانوا لها سابقين، إنه على كل شيء قدير، والحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
الصدقة من علامات التقوى
الحادية عشرة: الإنفاق علامة من علامات التقوى، قال تعالى: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [البقرة:2-3] وقال تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ} [آل عمران:133-134] .
النفقة قربة إلى الله
ثامناً: النفقة قربى إلى الله عز وجل، قال الله تعالى: {وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ} [التوبة:99] الفريضة أولاً، وهي الزكاة، ثم النافلة، وربنا عز وجل يقول: {وما تقرب إلي عبدي بشيءٍ أحب إلي مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه} .
الدعوة لسرعة الإنفاق
أولاً: الدعوة إلى المسارعة إلى الإنفاق في زمن الحاجة والفقر والشدة، فهو خير من البذل زمن السعة والغنى.
إن المسلمين اليوم جياع فقراء ضعفاء وهم غداً -بإذن الواحد الأحد- أقوياء أغنياء أعزاء غير محتاجين إلى أحدٍ من الناس، فالذين ينفقون زمن الفقر والحاجة قبل الفتح هم أعظم درجة، كما قال الله عز وجل:
{لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلّاً وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} [الحديد:10] .
إن الإسلام منصور، وراية الجهاد مرفوعة، فأدرك شرف المشاركة اليوم قبل أن يفوتك الفضل والنبل.
الثواب من الله على المتصدقين
ثالثاً: الأجر والثواب في الآخرة للمنفقين والمتصدقين المخلصين، فهي تجارة مضمونة، ولكن ليس فيها شائبة ربا، أو شبهة حرام: {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ} [فاطر:29] {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنّاً وَلا أَذىً لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة:262] .
الصدقة دليل على البراءة من النفاق
رابعاً: الصدقة دليل على البراءة من النفاق، وبرهان على الإيمان وصدق اليقين في القلب، قال الله تعالى عن المنافقين: {وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ وَكَانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيماً} [النساء:39] .
وقال عن المنافقين: {هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ} [المنافقون:7] .
فهذا هو الحصار الاقتصادي الذي تواصى به المنافقون بالأمس في الضغط على المؤمنين، ومحاولة التضييق عليهم، وحرمانهم من الوظائف والأعمال والأموال والمرتبات، والتضييق عليهم في أرزاقهم وأموالهم حتى ينفضوا.
لقد ظن هؤلاء أن اجتماع المؤمنين والمسلمين هو على المغنم، وعلى الدنيا، فاعتقدوا أن المال هو الذي يقدم ويؤخر، والله تعالى يقول: {وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ} [الأنفال:63] .
فهم ما اجتمعوا على المال، ولا من أجله، ولذلك لن يفرقهم الجوع أبداً.
لقد كان السجناء من المؤمنين والدعاة في بعض السجون يجوعون، ثم يعطى الواحد منهم قطعة من الشوكولاته تصله من بعض أقاربه بالتهريب وبطريقة سرية، فلا يأكلها، بل يعطيها إخوانه، ثم تدور على المجموعة حتى تصل إلى الأول الذي أخرجها طيبةً بها نفسه، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم من حديث أبي مالك الأشعري: {والصدقة برهان} أي: دليل على صحة وصدق إيمان المتصدق.
معالم قرآنية في الحث على الإنفاق
صور كثيرة تجعلنا نتذكر ونهتم ونعتني بهذه الشعيرة في الإنفاق والبذل والعطاء الذي نبتغي به أجر الله سبحانه وتعالى، ونجد لذلك بعضا ًمن المعالم والمعاني القرآنية المهمة التي يحسن الذكر لها، ولعلنا نستحضر حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (ما نقص مال من صدقة) ، فهذه معادلة صادقة، وهي أصدق من المعادلات الرياضية، وهي أوضح وأصدق من قضية واحد يزاد عليه فيصبحان اثنين؛ لأن هذا خبر الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم.
صحيح أنه قد يكون عندي الألف، فإذا أخرجت مائة أصبح تسعمائة، لكنه صلى الله عليه وسلم قال في الحديث الآخر: (فيقبلها ربه بيمينه فيربيها له كما يربي أحدكم فلوه، حتى تكون عند الله مثل جبل أحد) .
صدقة يسيرة تضاعف حتى تصبح مثل جبل أحد، وجبل أحد محيطه إذا سرت حوله بالسيارة يبلغ ستة كيلو مترات، وانظر إلى حجمه وضخامته، ولا تظن أن هذه مجرد أمثال، بل هي خبر حقيقي صادق ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلماذا لا نعتقد يقيناً أنه لن ينقص هذا المال من الصدقة من حيث الأجر الأخروي، ومن حيث البركة الدنيوية؟ ومن حيث البركة فهي في وجهين: قليل يبارك فيه فينفع ويفيض، ونرى ذلك كثيراً، ترى من عنده راتب قليل وعيال كثير وهو مبتسم منشرح الصدر، ويأتي آخر شهره وقد قضى حوائجه بحمد الله، وآخر راتبه أضعافه وأبناؤه أقل منه، ومع ذلك يشكو من الويل والثبور وعظائم الأمور، ومن ضيق ذات اليد، وليس الأمر في الكثرة ولكنه في البركة، والبركة لا تحل إلا بطاعة الله والاستجابة لأمره والإنفاق في سبيله والتفقد لعباده.
وينبغي أن نوقن بذلك، وأن نراه جزماً في واقع حياتنا، ومن البركة كذلك أنك تنفق ويزيد الله سبحانه وتعالى لك ويخلف عليك؛ لأنه وعد، ووعده صادق سبحانه وتعالى.
ومما ينبغي أن يحرص عليه المتصدق أمر الخفاء والسر والتجرد بالإخلاص في النفقة، كما قال جلا وعلا: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة:271] .
وفي الحديث المشهور عنه صلى الله عليه وسلم في شأن السبعة الذين يظلهم الله تحت ظله يوم لا ظل إلا ظله قال: (ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه) ، ولعمري ما من بلاغة أحسن من هذا التعبير النبوي، حتى إن اليدين وهما في جسد واحد لا تعلم اليسرى ما أنفقت اليمنى، فغير ذلك من الخفاء أولى، وذلك هو معروف بصدقة السر التي لها عظيم الأجر وعظيم الأثر في الوقت نفسه.
وأعظم من هذا وذاك: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة:103] ، أي: تسل سخائم النفوس، وتسل ضغائن القلوب، وتطهر النفس من الشح والبخل، وتطهر نفوس الفقراء من الحسد.
صور كثيرة أصبحنا نراها في مجتمعاتنا يوم ضعفت صلتنا بكتاب ربنا وبسنة نبينا وبديننا وإسلامنا.
ألسنا نرى هذا وهو يحسد ذاك، وهو يتمنى لو أنه أخذ ما عنده؟ وترى الآخر وهو يشح ويبخل ويرى غيره غير مستحق لنعمة الله عز وجل.
كم هي هذه الصور التي لا يغيرها إلا منهج الله وإلا عبادة الله سبحانه وتعالى، والله جل وعلا قد قال في وصف الإنسان: {وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا} [الفجر:20] ، وكثيرة هي الأمور المتصلة بهذا الشأن، ولعلنا ننتبه لها، وسنعرف كذلك من بعد ما يضادها.
نسأل الله عز وجل أن يبلغنا رمضان، وأن يوفقنا فيه للصيام والقيام والذكر والتقوى، وأن يبعدنا ويجنبنا عن كل ما فيه غفلة ومعصية، إنه ولي ذلك والقادر عليه.

أنواع الصدقات
يظن بعض الناس أن الصدقة هي الصدقة المالية فقط، ولكن الحقيقة أن الصدقة أنواع كثيرة جداً، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لفقراء الصحابة لما جاءوه: (يا رسول الله! ذهب أهل الدثور بالأجور؛ يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ويتصدقون من فضول أموالهم.
قال: أو ليس قد جعل الله لكم ما تصدقون؟ إن لكم بكل تسبيحةٍ صدقة، وكل تكبيرة صدقة، وكل تحميدة صدقة، وكل تهليلة صدقة، وأمرٌ بالمعروف صدقة، ونهي عن منكر صدقة، وفي بضع أحدكم صدقة.
قالوا: يا رسول الله! أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟! قال: أرأيتم لو وضعها في الحرام أكان عليه وزر؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر) رواه الإمام مسلم رحمه الله تعالى في صحيحه.
وقد وردت نصوص كثيرة في أنواع الصدقات.
فمما اختصرته لكم من هذه الروايات من أنواع الصدقات: الكلمة الطيبة، عون الرجل أخاه على الشيء، الشربة من الماء يسقيها، إماطة الأذى عن الطريق، الإنفاق على الأهل وهو يحتسبها، كل قرض صدقة، القرض يجري مجرى شطر الصدقة، المنفق على الخيل في سبيل الله، ما أطعم زوجته، ما أطعم ولده، تسليمه على من لقيه، التهليلة، التكبيرة، التحميدة، التسبيحة، الأمر بالمعروف، النهي عن المنكر، إتيان شهوته بالحلال، التبسم في وجه أخيه المسلم، إرشاد الرجل في أرض الضلال؛ إذا تاه رجل وضل الطريق، ما أطعم خادمه، ما أطعم نفسه، إفراغه من دلوه في دلو أخيه، الضيافة فوق ثلاثة أيام، إعانة ذي الحاجة الملهوف، الإمساك عن الشر، قول: أستغفر الله، هداية الأعمى، إسماع الأصم والأبكم حتى يفقه، أن تصب من دلوك في إناء جارك، ما أعطيته امرأتك، الزرع الذي يأكل منه الطير أو الإنسان أو الدابة، ما سرق منه فهو صدقة، وما أكله السبع فهو صدقة، إنظار المعسر بكل يومٍ له صدقة، تدل المستدل على حاجةٍ قد علمت مكانه، تسعى بشدة ساقيه إلى اللهفان المستغيث، ترفع بشدة ذراعيك مع الضعيف، كل ما صنعت إلى أهلك، النخاعة في المسجد تدفنها، تعدل بين اثنين، تعين الرجل على دابته فتحمله عليها أو ترفع له عليها متاعه، كل خطوة تخطوها إلى الصلاة، التصدق على المصلي لكي تكون جماعة من يتصدق على هذا، إذا منحت منحة أعطيته إياها غدت بصدقة وراحت بصدقة صبوحها وغبوطها؛ ما يحلم في الصباح وما يحلم في المساء؛ هذه بعض أنواع الصدقة.
والمتأمل لها يجد أنها على نوعين، الصدقات الغير مالية هذه على نوعين: الأول: ما فيه تعدية الإحسان إلى الخلق يكون صدقة عليه، مثل: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إقراء القرآن، تعليم العلم، إزالة الأذى عن الطريق، نفع الناس، استعمال وجاهة تكفيه أو شفاعة حسنة لنفع مسلم، الدعاء للمسلمين، الاستغفار لهم، هذا نفعه متعدي، وقد يكون أفضل من الصدقة بالمال.
النوع الثاني: ما نفعه قاصرٌ على فاعله، مثل: التكبير، والتسبيح، والتحميد، والتهليل، والاستغفار، والمشي إلى المساجد وغير ذلك.
إذاً: كل ما كان نفعه متعدٍ أكثر؛ كلما كان زيادة في الأجر، وكلما كان شرفه وفضله أكثر؛ فهو أيضاً زيادة في الأجر، فإن الذي يمشي إلى الصلاة بكل خطوة يخطوها حسنة تكتب، وسيئة تمحى، ودرجة ترفع.

صدقة المرأة المسلمة في رمضان
كذلك فإن من أوجه العبودية في رمضان: الصدقة، فإذا كان رسولك صلى الله عليه وسلم قد قال: (يا معشر النساء، تصدقن فإني رأيتكن أكثر أهل النار) فإذا كان الأمر بالصدقة عاماً، فالأمر به أو فعله في رمضان آكد وأقوم وأكثر أجراً، ولا شك في مضاعفة الأجر في مواسم الطاعة العظيمة كشهر رمضان، فإن الحسنة تتضاعف في المكان الفاضل، والزمان الفاضل.
فأقول إذاً: تحركي بما تستطيعين أو تجودين به من الصدقات في أنواع البر المختلفة، والذي حصل من النساء -ولله الحمد- الآن تفتح كبيرٌ لها، وإسهامات عظيمة في التجميع والإيصال والحمد لله، وأنبه في هذه المناسبة إلى أن على النساء تمحيص جمعيات البر؛ لأن بعضها جمعيات سوء، وبعضها جمعيات صلاح وتقوى بعضها أسس على تقوى من الله ورضوان، وبعضها أسس على شفا جرف هار، فعليك بتمييز الجمعيات الطيبة وإشهارها والإعلان عنها، والنصيحة بالتبرع لها، والمساعدة فيها، والتحذير من الجمعيات السيئة، وعدم إعانتهم بشيء إذا كانوا يريدون قصداً سيئاً، أو يخفون أهدافاً سيئة، واحذري من القيل والقال وعليك من التأكد والتثبت {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات:6] .
أيتها الأخت المسلمة! إن زكاة مالك مهم، فإن الناس كثيراً لا يعتادون إخراج الزكاة في رمضان، فعليك بإخراج الأموال الزائدة عندك، وإذا كانت لديك أراضٍ معدة للبيع فأخرجي زكاتها، وإذا كان لك تجارة أو حصة في دكان أو عروض تجارة، فتقوم عروض التجارة عند حلول الحول، ويخرج (2.
5%) من قيمتها الحالية في السوق، وما لديك من الحلي الملبوس والمدخر والمعار وغيره، فأخرجي زكاته على القول الراجح من أقوال أهل العلم المستند للدليل، وهو قوله عليه الصلاة والسلام للمرأة لما قال لها: (أتؤدين زكاة هذا؟ قالت: لا.
قال لها: أيسرك أن يسورك الله سوارين من نار يوم القيامة؟) فعليك معرفة ثمن الحلي عند حلول الحول بالتقريب، فأكثر، وكذلك إذا كان عندك حلي للبنات تخرجين زكاة كل بنت على حدة، تعامل كل بنت بنصاب منفصل، فلو كانت البنت عندها أربعين غراماً لا يجب عليها، والبنت الثانية عندها خمسون غراماً لا يجب عليها، لكن لو أن البنت الواحدة عندها تسعين غراماً مثلاً أو مائة يجب عليها، وأنت تلاحظين زكاة ذهب بناتك أنت، وتخرجينها بالنقود أو من نفس الذهب، أو ببيع قطعة منه، أو يتبرع الزوج عنك بعلمك، كل ذلك جائز والحمد لله.
وبعض النساء اعتدن على إعطاء أسر قد أغناها الله، كانوا قبل ذلك أيتاماً وأرامل لكن الآن أغناهم الله، فلا يجوز الاستمرار في إعطائهم وقد أعطاهم الله، ولم يصبحوا من أهل الآية الكريمة، {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} [التوبة:60] ، فينبغي البحث عن المستحقين الآخرين.
حملات تبرع
هناك حملات للتبرعات التي ينبغي أن نقوم بها في أي مكان، بين الزملاء، أو في المساجد، أو في الجوامع، أو في الجمع، أو في الأعياد، أو في رمضان، أو حتى في وقت استلام الراتب من كل الطلاب، أو الموظفين في أي دائرة، أو حتى في الأزمات التي تمر بالمسلمين، وليكن لك أنت شرف السبق إلى ذلك والمسارعة والمساهمة.
مع أنه ينبغي علينا جميعاً حينما نبذل ونتبرع أن نراعي أهل الثقة والعدالة، وأن نتأكد من وصول الأمر إلى مستحقيه.
ثم هناك نقطة إضافية وهي تخصيص جزء من عملك التجاري الاستثماري- كما أسلفت- فإذا كان عندك عشرة فروع لمتجرك فلماذا لا تخصص واحداً منها لمشاريع الخير؟ وجرِّب وقس وسوف تجد أن مالك يتضاعف بذلك، وخاصة حينما تتولى إدارته بنفسك وتنميه لوجه الله عز وجل، ثم هناك المشاريع الاستثمارية التي يقوم عليها بعض الأخيار لصالح الدعوة، وهذا واجب على الدعاة أن يقوموا به، وواجب على الاقتصاديين أن يفكروا جيداً في هذا الأمر ويعملوا له.
إن الكثيرين قد يتساءلون عن مثل ذلك، إنها أموال تصرف في أعمال الخير في تجارة، في أرض، في مزرعة، في أي عمل آخر، ويكون هناك مجموعة من الأمناء القائمين على هذا المشروع بحيث يطمئن إلى استمراره وألاّ يكون مرهوناً بحياة إنسان، أو موته، وألاّ يكون فيه مجال لضياع الأموال، أو استغلالها من قبل بعض ضعفاء النفوس، وإن كانت مثل هذه الأمور مما لا ينبغي أن يطال بتفصيلها.
وهناك مشروع صناديق الدعوة، وقد يكون هذا الصندوق في المسجد، أو في غرفة الصرف في الدوائر الحكومية، أو حتى في البيت لتبذل فيه المرأة، أو يضع فيه الطفل ما تيسر له، وفي خلال شهر، أو شهور يكون قد اجتمع فيه مبلغ كبير، وينبغي أن تفتح هذه الصناديق أولاً بأول ليأخذ ما فيها، ويمكن أن تفهم صناديق الدعوة بطريقة أشمل من ذلك بحيث تكون على تلك مؤسسة صغيرة لها إدارة، لها دخل ثابت وإيرادات، ولها مصروفات، ولها نشاطات، ولها حسابات.
وهناك الزكاة وهي من أعظم مصادر المال وأهميتها، وضرورتها واضحة جداً، فينبغي أن توضع في موضعها المناسب، ولو أن أغنياء المسلمين أخرجوا زكاة أموالهم، لاستغنى المسلمون جميعاً، سواء كانوا من المجاهدين، أو من الفقراء، أو من المحتاجين، أو من الراغبين في الزواج، أو سواه.
إن هناك من المسلمين من يملكون أموالاً هائلةً طائلةً زكاتها تدفن فقر المسلمين جميعاً، فلماذا لا يحاسب المسلم نفسه محاسبة الشريك الشحيح؟ بل وحتى يخرج احتياطاً لئلا يدخل شيء من مال الزكاة في ماله الخاص، بل إذا لزم الأمر، فلا مانع من تعجيل الزكاة إذا كان هناك مناسبة، فادع إلى تعجيلها، فقد روى الترمذي وأبو داود عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه: {أن العباس سأل الرسول صلى الله عليه وسلم تعجيل زكاته قبل أن يحول الحول مسارعة إلى الخير، فأذن له الرسول صلى الله عليه وسلم في ذلك} والحديث رواه أحمد أيضاً والدارقطني والحاكم، وفي سنده ضعف، ولكن له شواهد.





بعض مصارف ومجالات الصدقة
أولاً: المتسولون الذين يطرقون الأبواب، ويمرون في الشوارع، ويقفون أمام المصلين يكثر فيهم الكذب، وقد كشفنا وكشف غيرنا الكثير من ذلك، سواء كانوا يطلبون العطاء لأنفسهم، أو لأولادهم، أو لديات، أو كانوا ربما أحياناً قد يطلب الواحد منهم لمشروع، وبعد التحقق يبدو أن هناك خطأً، أو مبالغةً في الأمر، وقد يكون الموضوع مزوراً في بعض الأحيان، حتى بعض الأوراق والوثائق قد تكون مزورة أو قديمة، أو قد يكون كتب لهم رجل أحسن بهم الظن، وحملهم على ظاهرهم.
إنه ينبغي لنا ألاَّ نعطي إلا بعد التثبت من حال الإنسان، ولو كان في بلد ناءٍ، خاصةً إذا كان يجمع لمشروع خيري -مدرسة، أو مركز، أو مسجد، أو ما شابه ذلك- حتى لو كان هذا المشروع في الصين، أو في الهند، أو في أفريقيا.
إن من السهل أن تُجمع عشرة مشاريع، ثم يسافر شاب إلى الهند، أو إلى الصين، أو إلى أفريقيا بتذكرة لا تكلف أكثر من ستة آلاف ريال، ويتأكد من هذه المشاريع بنفسه، ثم يرجع بخبر جهينة الخبر اليقين.
وقد يجمع في المساجد، أو في غير المساجد مبالغ طائلة قد قبض على بعض هؤلاء، ووجد معه مائة ألف ريال جمعها خلال أقل من أسبوع، وتبين أن مدعاه ليس بصحيح، ثم إن هذا لا يعني إهمال المشاريع الإسلامية بحجة عدم التثبت، فإن كلا طرفي قصد الأمور ذميم، فبعض الناس لا يُعطي بحجة الشك، وبعض الناس يُعطي بلا تثبت! لا، ولكن حينما تريد العطاء، فأعطه من تثق بهم أنهم يتثبتون ويطمئنون ويكونون وسطاء مأمونين يستطيعون أن يوصلوا هذه الأموال إلى مستحقيها.
ثانياً: أصحاب العاهات، وبعض النساء، وبعض العاطلين مهمتهم الطواف والسؤال، ولا مانع أن تعطي هذا الإنسان مبلغاً يسيراً مجاملةً من مالك الخاص، أما أن تعطيه من حق الفقراء، ومن مال الله عز وجل، فلا وألف لا، لا تعطه من الزكاة، وأنت يغلب على ظنك أنه غير محتاج، وأنه يجمع أموالاً طائلة، وربما ملك ما لا تملكه أنت نفسك.
ثالثاً: العوائد المألوفة، أنت معتاد أن تعطي بعض الجيران، وبعض الأقارب، وبعض المعارف كل سنة من الزكاة، وهم قد تغيَّرت أحوالهم، وسددت ديونهم، واستغنوا بغنى الله عز وجل، وتحسنت أوضاعهم، وتوظف أولادهم، فلا داعي لاستمرار هذا العطاء، بل يجب أن تقطعه إذا علمت أنهم استغنوا عنه، ولا يجوز لك أن تعطيهم مجاملة، وأنت تعلم أنهم غير محتاجين.
وفي موضوع الصدقة أود أن أشير إلى مصارف مهمة: المصرف الأول: مصرف المجاهدين في سبيل الله قال الله: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّه} [التوبة:60] فالمجاهدون في سبيل الله هم أحد الأصناف الثمانية الذين تدفع لهم الزكاة، وقد بينت لكم أن في بلاد الأفغان وفلسطين وإريتريا والفلبين مسلمين ومجاهدين ومرابطين على الثغور، وإذا كنا لم نجاهد معهم، ولم نحمل السلاح معهم، ولم نخلفهم في أولادهم وأزواجهم بخير، فلا أقل من أن نعينهم بما تجود به أيدينا من المال، وهذه أعظم مصارف الزكاة في هذا العصر خاصة، ولذلك ينبغي دعم هؤلاء الإخوة المجاهدين، وبالأسباب والوسائل التي من الممكن أن تصل من خلالها الأموال إليهم بيسر وسهولة.
ومن المصارف التي أود أن أشير إليها: الفقراء والمحتاجين من الشباب وطلاب العلم، فإنني أعلم كثيراً من طلاب العلم ****-وقد يكون بعضهم من بينكم، من بين المستمعين- من هم بحاجة إلى مساعدة إخوانهم، من لعوز، أو فقر أو حاجة أو إعسار، أو لأنهم يريدون أن يتزوجوا ولا يجدون ما يكمل لهم مهر الزواج وموؤنته، وفي ذلك إعفاف لهم وتحصين لفروجهم وإكمال لنصف دينهم، وفيه من المصالح مالا يخفى، كما أنه يعين على طلب العلم وتحصيله.
وأود أن أشير إلى أن من الجهات التي تتقبل الصدقات والنفقات هي: الجمعيات الخيرية، فإذا وجدت جمعيات خيرية موثوقة، فلا بأس أن يعطيها الإنسان، لأن هذه الجمعيات تتحرى، وعندها ملفات خاصة بالأسر المحتاجة، وتعطيهم رواتب شهرية وتنفق عليهم، وفي هذا البلد أعلم أن القائمين على جمعية البر الخيرية من الناس الموثوقين المعروفين بالخير والاستقامة، والحرص على تحري وضع المال في موضعه الصحيح الشرعي، فينبغي للإنسان الذي يجد المال وربما لا يعرف مصارفه الصحيحة، أن يوكلهم في صرف هذا المال إلى مستحقيه.
بناء المساجد
حادي عشر: المساجد: {ومن بنى لله مسجداً ولو كمفحص قطاةٍ، بنى الله له بيتاً في الجنة} فالمساجد في المناطق التي يحتاج إليها سواء في هذا البلد، أو في أي بلد إسلامي لا تقل أهمية المسجد عن غيره، لكن يجب أن تعرف ماذا سيكون مصير المسجد بعد البناء، وأن تعتدل في نفقته.
صناديق الأسر
ثاني عشر: صناديق الأسر: وهي مهمة جداً للتكافل الاجتماعي، والترابط الأسري، فإن بعض الأسر خاصة الأسر الكبيرة تجعل لها صندوقاً واشتراكاً شهرياً من جميع أفراد هذه الأسرة، ثم يكون هناك مجلس خاص يدير هذا الصندوق ويستثمره، فيعطي المحتاجين، والشباب الراغبين في الزواج، والفقراء، والأيتام، والأرامل، وأمثالهم، ومثل هذه الصناديق ظاهرة موجودة في هذه المنطقة بحمد الله عز وجل، وفي مناطق أخرى كثيرة، وينبغي السعي إلى تعميمها ونشرها، فإن فيها فوائد: فوائد دينية، وفوائد ترابط الأسرة، والغنى وعدم الحاجة، إضافة إلى مصالح أخرى كثيرة.
إعانة من أراد الزواج
رابعاً: من طرق الإنفاق، الشباب الراغبون في الزواج، فإنهم يحتاجون إلى إعفاف فروجهم، وغض أبصارهم، وبناء الأسرة السليمة التي تعبد الله تعالى وتوحده، وحبذا أن يكون ذلك بالقرض الحسن لتربيتهم على الاستغناء عن الناس، وعلى البحث عن الرزق الحلال، وعلى الاعتماد على الله عز وجل، ثم على أنفسهم، وفي ذلك فائدة تربوية عظيمة.
المشاريع الاستثمارية الخيرية
خامساً: المشاريع الاستثمارية الخيرية، وهي مهمة جداً، ومثلها الأوقاف التي توقف لصالح أعمال الخير من الأحياء، أو من الأموات، والتعجيل بها في حال الحياة أحسن وأفضل منها بعد الموت.
إن الكثيرين يوصون بالثلث بعد الموت، وهذا في الأصل إنما هو صدقة من الله عز وجل، وإلا فالإنسان بعد موته يكون ماله لورثته، لكنك تدري أن كثيراً من الأموات ضاعت أوقافهم ووصاياهم واختلف فيها الأولاد، وتركوها، ولم تجد من يقوم بها، أو استلمتها بعض الجهات الرسمية، ولم يكن فيها كبير نفع.
لكن لو أنك أوقفت شيئاً في حال حياتك على أعمال الخير والدعوة، وجعلته استثماراً يدر ويفيد سواء أكان أرضاً، أو عمارةً، أو محطةً، أو مشروعاً تجارياً، أو ما أشبه ذلك وكتبته لأعمال الخير، فإنك تقوم به في حال حياتك، ويكون بعد وفاتك معروفاً محدداً لا يختلف عليه أحد، وهذا عمل عظيم، لأنه يترتب عليه وجود أعمال استثمارية ثابتة ريعها معروف، ودخلها ثابت يصرف منه في أعمال البر.
التعليم
سادساً: التعليم: كبناء المدارس، والمعاهد، وإرسال المعلمين، وكفالتهم، وطباعة الكتب، وبناء الأربطة والمساكن للطلاب وللمدرسين وغيرهم، وإعداد خلوات تحفيظ القرآن الكريم، ويوجد ذلك في مناطق أفريقيا لذلك سواء في السودان، أو في الصومال، أو في غيرها من المناطق الإفريقية.
ومن ذلك أيضاً تفريغ بعض النابغين من الطلبة، وإعدادهم إعداداً جيداً بصورة صحيحة ليتفرغ لطلب العلم بعيداً عن الاشتغال بالرزق والبحث عنه؛ ليتفرغوا لهذا العمل الجليل.
الجمعيات الخيرية
سابعاً: الجمعيات الخيرية سواء كانت جمعيات خيرية تخدم البلد، أو المنطقة، أو كانت جمعيات إسلامية عالمية تعمل على خدمة المسلمين في كل مكان، ويجب أن يتولى إدارة هذه الجمعيات كلها -بنوعيها- الأمناء الأخيار: {إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ} [القصص:26] وحبذا أن يكون لكل داعية، أو مهتم، أو غني، أو عالم أن يكون له جمعية، بل أن يكون له شبكة من الجمعيات عبر العالم، لئلا تكون أعماله وبضاعته هي الكلام فحسب.
فعليه أن يكون عنده نشاط للأيتام والأرامل، وآخر للتعليم -تعلم الدين- وثالث مركز للدعوة، ورابع مكتب للإعلام وهكذا يستثمر هذا العالم، أو الداعية، أو المهتم، يستثمر فرصته وعلاقاته في دعم هذه الجمعيات والإشراف عليها، ومن الضروري أن يكون هناك تنسيق بين هذه الجمعيات وتعاون على البر والتقوى، وعدم تضارب في الجهود، كما يجب عدم التسرع في إطلاق التهم على الآخرين بدون بينة، أو روية، أو تثبت أن أموالهم لا تثبت، أو أنها تضيع سدى.
المبرات الخيرية
ثامناً: المبرات الخيرية للأسر المحتاجة داخل المدن، أو القرى، أو المناطق النائية، بحيث توفر هذه المبرات الأموال، فتنفق على الأسر في السكن، وفي الطعام، وفي الشراب، وفي اللباس، وفي الغذاء، وفيما يحتاجون إليه، وينبغي أن يقوم على هذه المبرات العلماء وطلبة العلم، بحيث تكون مأمونة، ولا تكون فرصة لضعاف النفوس الذين يصطادون في الماء العكر، ويثرون على حساب الأيتام والأرامل والفقراء.
المستودعات الخيرية
تاسعاً: المستودعات الخيرية: كالمستودع الخيري الموجود، الذي يقوم عليه الشيخ صالح الهنيان جزاه الله خيراً، والتي تستقبل الأواني المنزلية والأثاث والطعام والأدوات الكهربائية وغيرها، وتصلح ما فسد منها، وتقوم عليها، ثم تعطيها المحتاجين.
الفقراء والمساكين
عاشراً: الفقراء والمساكين والأرامل والأيتام أينما كانوا، فإن لهم حقاً في أموال الأغنياء، قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} [المعارج:24-25] وقال: {وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} [الذاريات:19] .
أيها الأحبة: تردني أسئلة كثيرة من الناس رجالاً ونساءً: فلان حاله كذا، فهل نعطيه؟ وفلانة حالها كذا، هل نعطيها؟ ويتبين لي من تلك الأسئلة أن معظم الناس يعطون زكواتهم وصدقاتهم لأقوام ربما لا يستحقونها، أو هم في غنىً عنها، وأقل ما نقول: إن هناك من هو أحوج إليها منهم.
الدعوة إلى الله
ثانياً: الدعوة إلى الله تعالى، وذلك بإقامة المراكز الإسلامية، أو طباعة الكتب، أو توزيع الأشرطة، أو كفالة الدعاة.
إن كفالة داعيةٍ واحدٍ في الاتحاد السوفيتي لا يكلف شهرياً، أكثر من مائة ريال، إذاً تستطيع أن تكفل داعية سنة كاملة بألف ومائتي ريال فقط.
إننا بذلك نستطيع أن نوفر آلاف الدعاة، ولا يكلفنا ذلك شيئاً كثيراً، وإنني أعجب أيها الإخوة، وحق لي أن أعجب أن يأتي تاجر محسن متصدق فيبني مسجداً، ويجعله فخماً ضخماً واسعاً مرتفع البناء ربما كلفه ثلاثة ملايين دولار مثلاً في البناء، ثم لا يوجد من يصلي في هذا المسجد، ولا من يؤم، ولا من يخطب، ولا من يعلم، وبناء المسجد شيء حسن، وسوف أذكره بعد قليل، ولكن لو كان هذا المال صرف كله، أو جله، أو بعضه لكفالة دعاة يقومون بتوعية الناس، وتصحيح عقائدهم، وإعادتهم إلى دينهم، وتعليمهم أحكام شريعة ربهم، لكان ذلك خيراً وأقوم.
إن طباعة خمسين ألف نسخة من كتاب لا تكلف أكثر من عشرين ألف ريال، يستطيع خمسة أن يقوموا بمثل هذا العمل الجليل اليسير في نفس الوقت.
الشعوب المنكوبة
ثالثاً: الشعوب المنكوبة في العراق شعب يحاصر منذ أكثر من ثلاث سنوات لا يصل إليه من الطعام والشراب واللباس والكساء إلا أقل القليل، وأحلف بالله الذي لا يحلف إلا به لو كان شعب العراق نصرانياً، لتنادت أمم النصارى كلها لفك الحصار عنه، ولكن لأنه شعب في غالبيته أبيٌ مسلمٌ، فإن أمم الغرب كلها تتحالف على الحصار عليه، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول كما في الصحيح: {دخلت امرأة النار في هرة حبستها لا هي أطعمتها إذ حبستها، ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض} .
فكيف بإنسان؟! فكيف بمسلم؟! فكيف بشعب مسلم بأكمله يُحاصر حتى من قبل دول عربية إسلامية؟! إن هذه الصحيفة التي أدارتها الأمم المتحدة لحصار المسلمين في العراق هي صحيفة آثمة ظالمة، وواجب على المسلمين أن ينكروها ويرفضوها، وأن يتنادوا لنصرة إخوانهم ودعمهم بالمال والطعام والشراب والغذاء والكساء والدواء، وبالدعوة إلى الله تعالى، فإن إيصال الكتب ممكن، وإيصال الأشرطة وارد.
بل إنني أقول لكم من معلومات مؤكدة -أيها الإخوة- إن عدداً من شباب الشيعة تحولوا إلى طريقة أهل السنة والجماعة وعلى الطريقة السلفية السليمة في مناطق الأهوار وفي غيرها، داخل العراق، بل وداخل إيران بواسطة جهود المخلصين والدعاة والكتب والأشرطة.
فعلينا أن نكون عوناً للمسلمين وللدعوة في كل مكان.
وفي مصر شعب بأكمله يُجّوَّع وذلك من أجل أن ينشغل بالبحث عن لقمة العيش، ويضيق عليه، ويُودع شبابه في غياهب السجون، فالمساجين يعدون بالآلاف، والقتلى يعدون بالمئات، ومع ذلك حصلت نكبات وزلازل وأزمات، فتجد أن هناك تبرعات كثيرة لا يصل الناس منها إلا أقل القليل، بل إن الجماعات الإسلامية التي كانت تدعم المسلمين في مصر قد حوربت، والذي ثبت عليه أنه يدعم ويوصل بعض الأموال قد سجن، وقد سجن أكثر من أربعين طبيباً، لأنهم ساعدوا المسلمين هناك.
ولذلك أقول للإخوة: ادعموا إخوانكم المسلمين في كل مكان، ادعموا إخوانكم المسلمين في مصر، لكن حذار أن يكون الدعم عن الطرق الرسمية التي تصل إلى الحكومات، فإن الحكومات قد تتقوى بها على ضرب الإسلام، وعلى حصار المسلمين، وعلى قتل الأبرياء، وعلى إشاعة الفاحشة في الذين آمنوا، ولولا الحياء لذكرت لكم نماذج أحلف بالله لا تصدقون أنها تقع، لولا أنني قرأتها في صحف موثوقة مصرية مضبوطة عندي تدل على أن هناك خططاً مبيتةً لإشاعة الجريمة في الذين آمنوا، وقطع دابر العفاف في أوساط تلك الشعوب المؤمنة الأبية في مصر وفي غيرها.
فعلينا أن ندعم المسلمين، ولكن بواسطة الطرق الخاصة التي تصل إليهم، ولهذا أقول للموظفين: إذا جاءك طلب المساعدة، فإياك إياك أن تبذل شيئاً تعين به على قتل مسلم، أو على التضييق عليه، أو على الترويج للسياحة، أو على إشاعة الفاحشة في الذين آمنوا، وإذا كنت تريد الدعم، فأنت تعرف سبله وطرقه وأبوابه التي تطمئن إلى أنها تصل إلى المحتاجين.
وفي أفغانستان دولةٌ بأكملها عانت أربع عشرة سنة من ويلات الحرب، وهي الآن تعاني أيضاً من بقايا آثار الخلاف بين أصناف وطبقات المجاهدين، فهي محتاجةٌ إلى دعم الإخوة المؤمنين سواء عن طريق التعليم، أو عن طريق نشر الكتب، أو نشر الدعوة، أو عن طريق المساعدة، أو عن طريق مساعدة اللاجئين والمهاجرين، أو غير ذلك من الوسائل.
وفي الجزائر أيضاً شعبٌ يموت جوعاً، خمسة عشر شخصاً يعيشون في غرفة واحدة، لا يجدون مأوى إلا غرفة واحدة حتى إنهم الآن بدءوا يسلكون أسلوب النوم بالتناوب إذ لا تتسع لهم، فينام خمسة الآن على حين يذهب الباقون يبحثون عن أي عمل آخر، ثم تأتي نوبة الآخرين ليقوم هؤلاء وينام الآخرون بدلاً عنهم.
وفي طاجاكستان الأمر كما ذكرت، وفي البوسنة الأمر معروف، ودولة البوسنة والهرسك فيها مدن ومناطق محاصرة منذ ما يزيد على سنة، سراييفو، سربنيتشا، قورازدا، وغيرها مدن محاصرة على مدى أكثر من سنة لا يكاد يصل إليها إلا أقل القليل، فعلينا أن نهب لنصرتهم.
وفي فلسطين شعب يجوع ويضيق عليه، ويمنع حتى من الأعمال التي يمارسها -وهي أعمال متواضعة- بين اليهود في داخل ما يسمى بدولة إسرائيل، فيحال بينه وبين العمل، ويبن رغيف الخبز، وبين العيشة التي يقوم بها أوده، فضلاً عن الذين أبعدوا من ديارهم بغير حقٍ إلا أن يقولوا: ربنا الله، فهم بأمس الحاجة إلى دعمكم وعونكم وتأييدكم، فأين أنتم من هذه الشعوب المنكوبة؟ إنني أعجب من أخ يقارن مصيبة فرد مهما عظمت وجلت بمصيبة شعب بأكمله يعاني مثل هذه الآلام.
أيها الإخوة: إنني أُحذركم مرة أخرى من الطرق الرسمية التي تتولاها حكومات تلك الدول، فإنه لا ينفعنا أن نكتشف بعد عشرة سنوات، أو عشرين سنة أن هؤلاء كانوا خونة، وأنهم يحاكمون كما وقع في الجزائر حيث حُوُكِمَ بعض رءوس الفساد، واتهموا وثبت أنهم كانوا يسرقون الأموال، فماذا ينفعنا أن نكتشف ذلك بعدما ضاعت أموالنا؟
الجهاد في سبيل الله
أولها: الجهاد في سبيل الله، ومساعدة المجاهدين بالمال والسلاح وغير ذلك من الوسائل في كل مكان، وراية الجهاد اليوم مرفوعة في بلاد عديدة، ففي البوسنة مؤمنون يقاتلون عن دينهم وعن أرضهم وأعراضهم، وفي طاجاكستان أعداد من المؤمنين المجاهدين في الشعاب.
وقد رأينا البارحة مندوباً منهم موثوقاً -إن شاء الله تعالى- يمثل الحزب الإسلامي الوحيد هناك، حزب النهضة، فيقول: عدد المجاهدين أكثر من مائة ألف مجاهد متحصنين في الجبال، وقد استطاعوا أن يردوا نصف تلك الدولة التي سقطت في أيدي الشيوعيين، بلد قتل فيها أكثر من مائتي ألف مسلم خلال ثلاثة أشهر، وفقد منها مائة ألف مسلم أيضاً، وشرِّد أكثر من مليوني مسلم حيث ذهب أكثرهم إلى الدول المجاورة ومنها أفغانستان المنهمكة والمنشغلة بهمومها الخاصة.
شعب يقتل لماذا؟ لأنه أقرب الشعوب لآسيا الوسطى وإلى الإسلام، وأكثرها تديناً وصلاحاً، فلذلك رفعوا راية الجهاد، وهم أحوج ما يكونون إلى المال.
وهناك في إرتيريا مؤمنون مجاهدون على الطريق الصحيح، ويحتاجون إلى الدعم بالمال، وهناك في الفلبين مسلمون يُقتلون، وقد هدمت قرى بأكملها، وقد اعتدى الجنود الحكوميون على أعراض المسلمات، فأصبحت المسلمات نهباً مباحاً، ففي الهند اعتدوا على المسلمات بالاغتصاب، وفي الفلبين، وفي البوسنة، وفي كشمير، والله تعالى وحده هو المستعان.
وأقول: أيضاً في الجزائر عشرات الآلاف من الشباب الذين يدافعون عن دينهم، وعن أعراضهم، وعن تحكيم شريعة الله عز وجل، ويقاتلون أولياء العلمانية، وأولياء الاشتراكية، وأولياء الغرب، والجميع محتاجون إلى دعم إخوانهم المسلمين، ليس فقط لدعم الجهاد بنفسه، بل لحماية ظهور المجاهدين، ورعاية أسرهم، فإن أهل الفساد والريب يقولون: لا تنفقوا على هؤلاء، ويحاصرونهم، ويتابعون كل من يدخل إلى بيوتهم، أو يوصل إليهم خيراً، يريدونهم أن يموتوا فقراً وجوعاً وعرياً، وأن يحنوا رءوسهم بسبب الحاجة والفقر، فلابد من خلافتهم في أهلهم وأطفالهم وأولادهم بخير.
إنني أعجب -أيها الإخوة- حين نسمع عن الشباب المجاهد في أفغانستان، وما يعانيه في بيشاور وغيرها، أولاً من الحصار الدولي التي تحكمه حامية راية الصليب أمريكا نسأل الله تعالى أن يُعجل بسقوطها وهلاكها وتمزقها.
فهي تتصل الآن بقوة بالباكستان وتضغط عليها وتتحالف في ذلك مع مصر، فهناك ثلاثي -أمريكا ومصر وباكستان- للتضييق على المجاهدين في بيشاور، والقبض على المجاهدين.
وقد قبض هناك على عشرات من الشباب، وأودعوا السجون، وهناك تخطيط للقبض على البقية الباقية، وإرسالهم إلى دولهم لتتولى محاكمتهم وسجنهم وتعذيبهم.
فماذا كانت ذنوبهم؟ لقد كانوا بالأمس يُودَّعون من قبل دولهم بالحفاوة والتكريم، بل ويعطون تذاكر مخفضة، أما اليوم، فهم يؤتى بهم يقادون مكبلين بالأغلال والقيود ويودعون في السجون، ويعتبرون إرهابيين ومتطرفين، لقد كانت المهمة أن يقاتلوا الروس يوم كان الاتحاد السوفيتي عدواً لأمريكا، فكانت بعض الدول العربية تتعامل معهم على هذا الأساس.
أما اليوم وقد سقط الاتحاد السوفيتي، فقد أصبح هؤلاء هم الخطر، وبدأت الدول تتآمر ضدهم، ثم إنهم يعانون حالاً من الجوع والفقر، وقلة ذات اليد، ويحتاجون إلى دعم إخوانهم المسلمين.
إن الأمة التي تريد أن تكون مجاهدة حقاً عليها أن تحفظ للمجاهدين سابقتهم وفضلهم، وأن تقوم بحقهم عليها.
نعم! إن المال لو وُفِّر لانتصر الجهاد في أكثر من موطن.



آداب الإنفاق
أولاً: لا منٌّ ولا أذى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى * قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذىً} [البقرة:264-263] .
ثانياً: لا رياء ولا سمعة إن أظهرت الصدقة، وإنما تظهرها للقدوة الحسنة والسنة الحسنة، وإن أخفيتها، فالأصل هو الإخفاء، قال الله تعالى: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة:271] .
ثالثاً: أن تكون خالصة لوجه الله عز وجل، كما قال سبحانه وتعالى: {وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ} [البقرة:272] .
رابعاً: لا تتصدق إلا بالطيب: {فإن الله تعالى طيب لا يقبل إلا طيباً} كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ} [البقرة:267] .
خامساً: لا تعد ما أخرجته -من الزكاة، أو الصدقة- مغرماً، بل هو مغنمٌ لك، قال الله تعالى: {وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَماً} [التوبة:98] قال ابن قتيبة: أي غُرماً وخسارة، وقال غيره: يعدونه من التزام ما ليس بلازم، يقول: لماذا أتعب في جمع المال، ثم أخرجه في غير مصلحة دنيوية مشاهدة؟ فهو لا يرجو لذلك ثواباً، ولا جزاءً عند الله تعالى.
سادساً: أن يخرج المال طيبةً به نفسه، ليس كارهاً له، ولهذا وصف الله تعالى المنافقين، فقال: {وَلا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ} [التوبة:54] وأثنى على المؤمنين أنهم إن وجدوا مالاً تصدقوا، وإن لم يجدوا تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزناً ألا يجدوا ما ينفقون.
سابعاً: أن تتصدق في وقت صحتك وعافيتك وشبابك وحاجتك وخوفك من الفقر، كما قال عليه الصلاة والسلام: {أن تتصدق وأنت صحيح شحيح تخاف الفقر وترجو الغنى} وهذا المعنى موجود في القرآن الكريم، قال الله تعالى: {وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ} [المنافقون:10]



تابع
محمد الساهر غير متواجد حالياً