مصدر” بوابة المستقبل البعيد

[عذبة الاوصاف]

ما إن دخلت المدينة، حتى شعرت بأن عجلة الزمن أخذتني إلى المستقبل البعيد، وكأني أستقل آلة تنقلني إلى عالم آخر، بكل ما يمثله من تقدم وحداثة، لتشكل مع المباني النظيفة ومظاهر العمارة الأصيلة، لوحة فنية تعبر عن إحدى مدن المستقبل، رغم أنها جمعت بين القديم والحديث، جنباً إلى جنب من دون تعارض . هي لم يسمع عنها أنها إحدى مدن الخيال العلمي، انشغل بها العالم الخارجي، وككثيرين غيري تكونت صورة بسيطة عنها في ذهني، وتشوقت لزيارتها، لأتعرف إلى ملامح هذا المكان الذي شغل الدنيا، وجعل سيرة الإمارات على كل لسان حالم بعالم خال من التلوث . وعلى بوابة “مدينة مصدر” في أبوظبي، بدأت الإثارة بركوبي العربة المستقبلية للنقل من دون سائق، فبلمسة واحدة انتقلت إلى المستقبل، وعشت حكاية تدور أحداثها هناك، من دون حاجة إلى النفط والغاز والفحم .

بدأت باستكشاف المدينة والتعرف إلى أسرارها، فالشوارع ضيقة مختلفة عن شوارعنا المزدحمة، والمباني متقاربة تنتقل بينها بكل سهولة، والنوافذ مظللة، وبمجرد وضع يدي على الجدران الخارجية وجدتها باردة رغم ارتفاع الحرارة، والمكان هادىء، ووجدت الحضارة العربية مرسومة على المباني بزخارفها، وتموجات المبنى أشعرتني وكأني أرى نسيم الهواء، والمذهل هو الغاية الهندسية من هذا التصميم الذي يؤمن الخصوصية لسكان المدينة بحيث تكون الشرف عكسية، ولون المباني القريبة من لون الطين أشعرني أني في بيئة صحراوية ممزوجة بالتكنولوجيا العصرية، فالمدينة التي تجاوزت المستقبل أرجعتنا إلى الماضي البعيد والبيوت الطينية، وبمجرد دخول المبنى تجذبك السلالم لاستخدامها مستبعداً فكرة ركوب المصعد، فالتصميم المتقن للسلالم تجعل حركة الصعود والنزول مريحة، بالتالي تعيش يوماً نظيفاً بكل تحركاتك .

في الساحة الممتدة للمدينة، يقف البارجيل في استقبال الزوار بتناغم يمزج بين الأصالة والحداثة، مستفيدين من دوره كنظام للتهوية والتبريد وتلطيف الأجواء، ويبلغ ارتفاع “البارجيل” 45 متراً ليبرز بوضوح فوق مباني معهد مصدر، وتسهل رؤيته عن بعد من خارج المدينة، وخاصة في الليل حين تشع الأنوار التي تم تزويده بها، وتعمل مولدات للرذاذ في قمة البرج من أجل خفض درجة حرارة الهواء عبر التبريد بواسطة التبخر، فدروس العيش في الصحراء استوعبها أهل الإمارات جيداً، من خلال الممارسات المستدامة للمحافظة على الحياة في بيئة مماثلة، ودمج التراث بالتكنولوجيا الحديثة .

“مصدر” مدينة يقل فيها استهلاك الطاقة، وتلك الفكرة وجدت في التصاميم العربية القديمة، فالبيوت القريبة والشوارع الضيقة، تسهم في تقليل استخدام الطاقة .

يقول ناصر المرزوقي “رئيس إدارة المرافق”: فكرة المدينة تتمثل في الوصول إلى أكبر حد من الاستدامة بأفكار بسيطة وذكية من غير أن يكلفنا موارد مالية إضافية، وتسهم مباني مدينة مصدر في خفض استهلاك الكهرباء والطاقة اللازمة للتبريد بنحو 50% مقارنة بالمباني الاعتيادية الموجودة في الإمارة . واستطعنا تقليل استهلاك الماء إلى درجة تزيد على 56% مقارنة بالمباني الأخرى . ومباني المدينة موجهة على زاوية 45 درجة من طلوع الشمس وغروبها للحصول على أكبر نسبة من الظل، واستخدمنا المواد الصديقة للبيئة، من خلال دراسة البصمة الكربونية لكل مادة مستخدمة، لمعرفة نسبة الكربون في المواد، ومعظم المواد معاد تدويرها واستخدمنا الإسمنت الأخضر الذي صنع في مدينة مصدر، والطابوق من إعادة تدوير ويعد عازلاً للحرارة، والألمنيوم المستخدم معاد تدويره بنسبة 90% للاستخدام في الواجهات الداخلية، 100% من الأخشاب تأتي من غابات مستدامة، واستخدمنا أصباغاً مائية لا تحتوي على مركبات عضوية طيارة تؤذي صحة الإنسان، وهناك مواد صنعت محلياً وهذا إنجاز إضافي قدمته مدينة مصدر في سوق الإمارات .

ويضيف: ركب الزجاج بطريقة مائلة حتى تدخل أشعة الشمس إلى المكان ولا تكون حادة على العين، والواجهات الخارجية للمباني تكون أكثر عزلاً للحرارة، وتكون مظللة وتسمح للضوء بدخول المبنى بطريقة ملائمة للنظر، وفحص التغليف الهوائي للمباني لمنع تسرب الهواء البارد من داخل المبنى إلى الخارج، وتبريد التكيف يأتي من تحت على غرار المباني التقليدية، لتبريد المنطقة المستغلة فقط، وعززت المباني بالأفكار المقتبسة من العمارة العربية والإسلامية، التي تسهم في تظليل المباني من الخارج واستهلاك الطاقة، وأضيفت الألواح الشمسية على أسطح المباني وتسهم في إنتاج الطاقة لها، وكذلك توجد لاقطات حرارية للمياه على أسطح المدينة توفر المياه الحارة للمباني، التي تميزت بالارتفاع البسيط، حسب التصميم العربي القديم لتعزيز التيار الهوائي في المدينة وتقليل الازدحامات، وجعلها بيئة اجتماعية نظيفة وصديقة، وحالياً يعمل 2000 شخص مابين موظف وباحث وعامل في مدينة مصدر، و400 شخص مقيمون فيها .

وحسب ناصر المرزوقي، تنتج محطة المدينة 10 ميغا واط وتعد أكبر محطة عاملة للطاقة الشمسية الكهروضوئية في الشرق الأوسط، وتزود المحطة منذ عام 2008 المدينة بالطاقة المتجددة، وربطت بشبكة كهرباء أبوظبي، بحيث يصدر الفائض من الطاقة إليها .

وقرب المباني أسهم في زيادة نسبة التظليل وهذا يخلق مكاناً بيئياً ويسهم في تخفيف دخول الحرارة المباني، ويشير المرزوقي إلى أنهم من خلال المقارنات وجدوا أن هناك فرقاً بين درجات الحرارة المنبعثة في أحد الشوارع العادية في مركز مدينة أبوظبي وبين شارع في مدينة مصدر، التي كانت درجات الحرارة فيها أقل . ويعد هذا الفرق في درجة الحرارة المنبعثة الذي يصل إلى 20% إنجازاً بكل المقاييس وفق المرزوقي .

طموح المدينة في النمو كبير، فهناك مبانٍ عديدة في طور الإنشاء والكل في مدينة مصدر يعمل كخلية النحل لتصبح كبيرة وتستوعب أعداداً أكبر من البشر، وهذا النمو يتطلب طاقات إضافية، ويقول المرزوقي: مع نمو المدينة احتياجاتنا للطاقة تزيد، وسنستمر في استغلال الطاقة الشمسية، وإنتاج الطاقة سيزيد من خلال إنشاء محطات أخرى، وأرض مدينة مصدر ذات قيمة عالية، إذ تعد منطقة اقتصادية حرة تسهم في تشجيع الشركات على إنشاء مقرات وممارسة أعمالها في المدينة، وذلك من خلال تسجيل هذه الشركات وإصدار الرخص من خلال النافذة الموحدة، وتشجيع الاستثمار في مجال الطاقة المتجددة . وحالياً لدينا شركات عالمية تعمل في نطاق المنطقة الحرة، ونستضيف مقر الوكالة الدولية للطاقة المتجددة (إيرينا)، وهو تحت الإنشاء، وبه أحدث التصاميم والمعايير في الاستدامة، ويعد التجمع المتخصص في المدينة مجتمعاً ديناميكياً، حيوياً، عالمياً، وريادياً في مجال الأعمال، من شأنه تقديم العديد من الفوائد، أبرزها تسهيل الوصول إلى رؤوس الأموال، وكم هائل من المعرفة في هذا القطاع، ومجموعة كبيرة من المواهب المتميزة، ومنصة يمكن من خلالها الانطلاق إلى الأسواق المحلية والإقليمية والعالمية .

المياه

المباني في مصدر مجهزة كلها بأنظمة قياس الطاقة والمياه التي تراقب الاستهلاك، وتصدر البيانات الجاهزة التي يستطيع الطلاب والهيئة التعليمية الاطلاع عليها، ويقول ناصر المرزوقي: تجمع مياه الأمطار في الطرق السفلية للمبنى لإعادة استخدامها في الري، ويعاد تدوير المياه المستخدمة في الوحدات والمباني، ما يسهم في تقليل الاستهلاك، وكل الصنابير في المباني تحتوي على مجسات لتقليل استهلاك المياه، ويركز معهد مصدر على المشروعات البحثية الخاصة بتحلية المياه والابتكار في هذا المجال للمساهمة في تقليل الطاقة التي يحتاجها في التحلية وإنتاج الكمية الأكبر ما يعود النفع على الإمارة . واستطعنا تقليل استهلاك الماء إلى درجة تزيد على 56% مقارنة بالمباني الأخرى، إضافة إلى ذلك بدأنا وضع العدادات الذكية التي تعطينا قراءات سريعة ما يحفزنا على اتخاذ الإجراءات اللازمة في أسرع وقت، وجميع احتياجات المياه الساخنة تقريباً تتوفر من خلال أجهزة جمع الحرارة الشمسية عبر أنابيب مفرغة مثبتة على الأسطح .

ويضيف المرزوقي: تهدف مصدر المساهمة في رؤية أبوظبي 2030 من خلال تنويع اقتصاد الإمارة وتعزيز دورها كأحد مزودي العالم بالطاقة وزيادة وتطوير مواردها الرئيسة وخبرتها في هذا القطاع للمحافظة على موقعها الريادي في سوق الطاقة العالمية الذي يتجه نحو اعتماد حلول الطاقة المتجددة . وتسعى أبوظبي إلى أن تصبح مركزاً دولياً رئيساً في قطاع الطاقة المتجددة والتقنيات المستدامة، وكذلك إيجاد فرص عمل متخصصة في مجالات حديثة ومتطورة في الإمارة، وتعد مبادرة مصدر فريدة من نوعها، لأنه للمرة الأولى ينظر إلى الطاقة المتجددة بشكل شمولي، ومستقبلي من خلال التركيز على التعليم والأبحاث والتطوير، من خلال معهد مصدر للعلوم والتكنولوجيا بالتعاون مع معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، والتركيز على مشاريع الطاقة المتجددة الكبيرة والعالمية .

مقصد سياحي

تحولت مدينة مصدر على مر الأيام من مركز بحثي إلى مزار يقصده السياح لاستكشاف مدينة المستقبل، فتجد الطلاب والأساتذة مشغولين في المختبرات البحثية لإجراء الأبحاث، بينما السياح يتجولون في المدينة ويستكشفون أركانها، وتستقبل مدينة مصدر يومياً مجموعة من الزوار من جميع أنحاء العالم، يهدفون إلى رؤية شيء مختلف وفريد من نوعه، وذلك للسمعة العالمية التي حظيت بها المدينة، كونها نموذجاً عالمياً لمدن المستقبل .

مركز عالمي

تسعى مصدر إلى استيعاب عدد أكبر من البشر، فالخطة المستقبلية أن تستوعب المدينة 40 ألف قاطن، و50 ألف زائر، وتشمل المدينة وحدات سكنية وتجارية وتعليمية وخدمات مجتمعية، كالمدارس والجامعات وعيادات طبية ومحلات تجارية لخلق بيئة متكاملة مجتمعية تساعد وتسهم في تقليل البصمة الكربونية في حياة الساكنين في المدينة، وتكون بمقربة من جميع الخدمات والمؤمل أن تصبح مدينة “مصدر” مركزاً عالمياً للطاقة المتجددة والتقنيات النظيفة التي تضع الشركات القائمة في أبوظبي في قلب هذه الصناعة العالمية .

جامعة فريدة

دعم العلم يسهم في الإبقاءِ على شعلة الابتكار والاختراع مضيئة، لتعود بالنفع على المدينة والإمارات والعالم، لذا كان مبنى معهد مصدر كأول مبنى في المدينة، وكان الهدف من ذلك أن يكون طلابه أول القاطنين فيها، مما يزيد إلهامهم عند إجراء البحوث والمشروعات حول الاستدامة، وتحفيزهم على الابتكار لأن التكنولوجيا والابتكار يعدان من أهم الأسس التي تقوم عليها المدينة .

ويعد معهد مصدر للعلوم والتكنولوجيا جامعة مستقلّة للدراسات العليا تُعنى بالأبحاث، وهي الجامعة الوحيدة على مستوى المنطقة المختصة ببرامج الدراسات العليا والأبحاث العلمية في مجالات الطاقة المتجددة والتقنيات النظيفة والتنمية المستدامة .

15 مبنى

تحتوي المدينة على 15 مبنى، بما فيها مباني معهد مصدر السكنية والمختبرات، إضافة إلى مبنى سيمنس الذي يعد المقر الرئيس للشركة في الشرق الأوسط، ويتوقع أن تستوعب أكثر من 1500 موظف، إضافة إلى واحة الابتكار التي تحتوي على النافذة الموحدة للمنطقة الحرة، ومبنى مركز المعرفة، وآخر متعدد الاستخدامات وبها حوض سباحة وملعب متعدد الاستخدامات وقاعات للفعاليات ومركز صحي .

أبحاث نظيفة

الخيال العلمي طغى على هذا المكان، والمختبرات الدقيقة التي نراها في الأفلام الأجنبية، وجدناها حقيقة على أرض مدينة مصدر، مختبرات تحت الأرض لا توجد بها ذرة غبار، وأجواء هادئة، وحرارة شبه معتدلة، فارتفاع البرودة أو تقليلها قد يؤثر سلباً على العمليات التي تجري في تلك الغرف النظيفة التي تنقلنا إلى عالم آخر، فقبل دخول تلك الغرف، لابد من تنظيف الحذاء بالجهاز الخاص به، ومن ثم الدخول إلى غرفة تبديل الملابس .

يقول د . عمار نايفه “هندسة الكهرباء”: غرفة تبديل الملابس أول غرفة نظيفة في الإمارات، ويوجد فيها جهاز لا يسمح بدخول الغبار، ومنها تبدأ رحلة الدخول إلى المختبر النظيف، إذ يرتدي الباحث بذلة بيضاء تغطي الجسم بأكمله، مع القفازات والكمامات وغطاء للرأس، وإذا أراد الباحث إدخال جهاز شخصي لابد من تعقيمه، وتوجد أوراق مخصصة للغرف النظيفة لكتابة النتائج وغيرها، وبعدها بإمكانه دخول الغرفة وإجراء أبحاثه، وأجهزة الشفط الموجودة في الغرفة تضخ الهواء وتشفطه وبالتالي المكان محافظ على نظافته، وتوجد 4 غرف نظيفة، وأجهزة عديدة، منها أجهزة قياسات، ومجاهر، ويضم المختبر أقوى مجهر في العالم، ومن شدة الدقة نستطيع رؤية مدار الإلكترون .

إدارة الإنارة

زودت المباني بوحدة لإدارتها تعد من أكثر التكنولوجيات تطويراً، وتدوير الطاقة في مختلف مباني المدينة، بما في ذلك التكييف والإنارة المصممة بشكل يستهلك قليلاً من الطاقة لكنه طويل الأمد من خلال تقنيات ذكية، وعززت وحدات التحكم بالإضاءة بمجسات الضوء التي تضيء وقت الحاجة، وكذلك تعتمد المدينة بشكل كبير على الإضاءة الطبيعية .

مواصلات صديقة للبيئة

المدينة تشجع السير على الأقدام، وذلك بسبب قرب المباني من بعضها بعضاً، وتتوافر رغم ذلك، خيارات واسعة من وسائل النقل العامة والشخصية للوصول إلى العديد من الأماكن في المدينة، من خلال استخدام السيارات ذاتية الحركة وذات المقصورة الواحدة التي تعمل بالكهرباء وتنقل الركاب من نقطة إلى أخرى، إضافة إلى أن المدينة تدرس استخدام الحافلات الكهربائية في المدينة، بهدف تقليل الانبعاثات الكربونية . وعملية شحن السيارات في السابق كانت تستغرق من 4 إلى 5 ساعات، وبعد إنشاء محطة الشاحن السريع ويعد الأول من نوعه في الشرق الأوسط، قلت المدة إلى نصف ساعة ما يزيد من كفاءة استعمال السيارات في المدينة، وتسعى المدينة إلى استخدام وسائل نقل جديدة ذات جدوى اقتصادية وصديقة للبيئة، وخاصة أن البنية التحتية قابلة للتغير وتستوعب السيارات الصديقة للبيئة .

[ابو احمد العدواني]

متى نستغني عن النفط والغاز والفحم ؟
في حالة انعدامهم00